• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
قراءات

حدود تأثير الأقليات في الانتخابات التركية المقبلة


تظل الأقليات في تركيا واتجاهات تصويتها، من أهم الملفات في الانتخابات الحالية؛ حيث تحرص القوى المتنافسة في العملية الانتخابية على جذب أصوات الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية والقومية التي يموج بها المجتمع التركي، ومنها العلويون واليهود واليونانيون والأرمن والسريان والكلدان والأكراد والعرب وغيرهم. وسعت القوى المتنافسة إلى تقديم أوراق اعتمادها إلى الأقليات في تركيا، وبيان الملامح العامة لسياستها إزاءها. ويعود ذلك إلى الأهمية الاستراتيجية الفائقة للكتلة التصويتية للأقليات، وخاصةً الكردية والعلوية اللتين تمتلكان خزاناً تصويتياً يتراوح بين 17% و20% معاً، وهما تشكلان كتلة ستكون حاسمة في ترجيح كفة من ستذهب إليه، خاصةً أن استطلاعات الرأي التي أُجريت خلال الأيام الماضية كشفت عن أن التحالفَين المتنافسَين “تحالف الأمة” و”تحالف الشعب” غير قادرَين على حسم الانتخابات الرئاسية لصالحهما من دون الحصول على دعم أصوات الأقليات عموماً، والصوتَين الكردي والعلوي على وجه الخصوص.

اهتمام لافت

يكتسب حضور الأقليات في الانتخابات التركية المقرر إجراؤها 14 مايو الجاري مزيداً من الاهتمام والزخم، من جانب التحالفات الانتخابية المشاركة في الاقتراع. ورغم أن ذلك قد لا يُعبِّر عن ظاهرة جديدة في الانتخابات التركية – حيث دائماً ما كان الاهتمام بالكتلة التصويتية للأقليات حاضراً على أجندة المرشحين – بيد أن هذه المرة تبدو الأقليات في تركيا حصان طروادة في المشهد الراهن، وهو ما يكشف عنه السباق المحموم على أصوات الأقليات، وترطيب العلاقة معهم.

ففي الوقت الذي سعى فيه تحالف الطاولة السداسية إلى توسيع مساحات التفاهم مع حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي للأكراد، تمكَّن تحالف الشعب – الذي يقوده حزب العدالة والتنمية الحاكم – من جذب حزب “هدى بار” الكردي الذي تأسس في 19 ديسمبر 2012، وتتركز قاعدته الشعبية في مناطق شرق الأناضول جنوب شرقها. ويراهن أردوغان على حزب الهدى “الكردي” المحافظ الذي سيسمح بأخذ جزء من أصوات الناخب الكردي الذي يمتلك حصة مهمة في الكتلة التصويتية، ويوازن دور حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ذي الوزن النسبي المهم.

في المقابل، سعت القوى المتنافسة إلى استمالة الأقلية العلوية؛ ففي الوقت الذي كسر فيه مرشح الطاولة كليجدار أوغلو أحد المحرمات في تركيا، عندما أعلن في 20 أبريل الماضي عن انتمائه إلى الأقلية العلوية، دعا إلى أهمية معالجة التمييز الحادث تجاه الأقليات في تركيا، ومنها الأقلية العلوية التي عانت التمييز في الماضي، وما زال بعض السنة المتشددون يتبنَّون موقفاً معادياً لهم. كما وعد كليجدار أوغلو في حال انتخابه بوضع حد للتمييز و”الخلافات الطائفية التي تُسبِّب آلاماً” في تركيا ذات الأغلبية المسلمة والدستور العلماني.

من جهته، عمد الرئيس أردوغان، خلال الشهور الماضية، إلى تسكين أوجاع الخلافات مع الأقلية العلوية؛ بهدف استمالة كتلتها التصويتية، وبدا ذلك في زيارة المسؤولين الحكوميين إلى ما يُعرَف بــ”بيوت الجمع” التي يعتبرها العلويون دور عبادة لهم، وهو ما عدَّه المراقبون اعترافاً ضمنياً من حكومة أردوغان بشرعية هذه الأماكن، كما أصدر الرئيس التركي في 7 أكتوبر 2022 قراراً بإنشاء رئاسة مرتبطة بوزارة الثقافة باسم رئاسة الثقافة العلوية البكداشية وبيوت الجمع، وسيكون من مهامها إدارة بيوت الجمع التي تُعتبر دور العبادة للعلويين، وتقديم الخدمات لها، وأن تكون جميع هذه الخدمات تحت ضمانة ورقابة مؤسسية حكومية.

تأثير واسع

ثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء صعود الوزن النسبي للأقليات التركية في العملية الانتخابية المقبلة، وتحكم اتجاهات تصويتها، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1– امتلاك خزان انتخابي واسع: الأقليات التركية لديها القدرة على إحداث تحول في مسارات العملية الانتخابية، وحسم نتائج الاقتراع؛ فالأقلية العلوية هي ثاني أكبر طائفة دينية بعد السنة في البلاد، وتعدادها بحسب تقديرات مختلفة 10–15% من سكان تركيا البالغ عددهم 84 مليون نسمة، ولديها نحو 4.5 مليون صوت انتخابي، وينتشرون في عدد من المناطق شرق تركيا وغربها.

وفي المقابل، تشكل الكتلة الكردية نحو 20% من سكان تركيا، وتمتلك ما يقرب من 6 ملايين صوت انتخابي، بنسبة 18% من إجمالي أصوات الناخبين في تركيا، وهو ما يعني ببساطة أن الأقليات يمكنها تحديد من الفائز ومن الخاسر في الانتخابات الحالية. ويشار إلى أن صوت الأقلية الكردية لعب دوراً حاسماً في فوز تحالف المعارضة برئاسة عدد من البلديات الكبرى في الانتخابات المحلية التي أُجريت في عام 2019، بعدما دعمت بشكل غير معلن مرشحي المعارضة، وهو ما رجح كفتهم أمام مرشحي تحالف الحزب الحاكم. وفي ظل رغبة المعارضة التركية في تكرار سيناريو الانتخابات المحلية، ومخاوف السلطة الحاكمة من السيناريو ذاته، تبقى الأقليات فرس الرهان في استحقاق 14 مايو الجاري.

2– القدرة على إزعاج السلطة الحاكمة: لا ينفصل الاهتمام اللافت بالحرص على استقطاب القاعدة الانتخابية للأقليات في الاستحقاق الراهن عن قدرتها على التأثير على تحركات السلطة الحاكمة، وإرباك خياراتها، وهو ما ظهر في تململ حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بعد إصدار حزب الشعوب الديمقراطي بياناً يدعو فيه أنصاره إلى التصويت لمصلحة مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.

بالتوازي، ساهمت الأقلية العلوية في تعزيز الضغوط على النظام الحاكم؛ إذ بات من المؤكد ميل الأقلية العلوية نحو دعم تيار يسار الوسط، الذي يمثله كليجدار أوغلو وحزبه الشعب الجمهوري، ناهيك عن أن ثمة ارتياباً لدى العلويين من وعود حزب العدالة والتنمية الحاكم بإصلاح أحوال العلويين في التوقيت الحالي، خاصةً بعد انهيار محاولات سابقة لمعالجة إشكاليات العلويين. وهنا يمكن القول إن أصوات القواعد الانتخابية الكردية والعلوية ستكون الحكَم في تحديد رئيس تركيا القادم، وكذلك الأغلبية البرلمانية المتوقعة.

3– تعاطف الداخل مع مظلومية الأقلية الكردية: تحظى الأقليات التركية في التوقيت الحالي بموقع متقدم على الساحة التركية، وظهر ذلك في تعاطف الداخل التركي مع مظلومية الأكراد، واعتقال صلاح الديم دميرطاش منذ عام 2016 بتهم مزيفة. وهنا يمكن تفسير تحوُّل حزب الشعوب الديمقراطي خلال فترة بسيطة إلى ثالث حزب سياسي في تركيا من حيث قوة التمثيل، بعد حزب العدالة والتنمية الحاكم والشعب الجمهوري المعارِض، كما تمكَّن حزب الشعوب الديمقراطي من تعزيز حضوره في أوساط المجتمع التركي، وكسب أصوات داعمة له خارج نطاق الأقلية الكردية، وخارج إطاره المكاني جنوب شرق تركيا.

4– انفتاح بعض الأقليات على الدول الغربية: حيث تحظى الأقليات العلوية واليونانية والمسيحية والأرمينية بحضور متزايد في المجتمع التركي، ولديها ارتباطات بعدد معتبر من القوى الغربية، وبخاصة ألمانيا التي توجد بها أكبر جالية تركية، ومن ثم فإن الانفتاح على العلويين وباقي الأقليات في هذا التوقيت يمكن أن يشكل نقطة رئيسية في دعم التوجهات الخارجية لتركيا حيال أوروبا خلال المرحلة المقبلة.

5– موقف الأقليات الداعم لإعادة هيكلة النظام السياسي التركي: بحسب العديد من استطلاعات الرأي التي شهدتها تركيا خلال الفترة الأخيرة، تجتمع الأقليات في تركيا على أهمية عودة النظام البرلماني باعتبار أنه الأكثر ضماناً لترسيخ فاعليتها السياسية في المجتمع؛ لذا فإنالانعكاس المباشر والمحتمل لتأثير الأقليات في العملية الانتخابية التركية، هو التصويت بكثافة لمصلحة المعارَضة السياسية التي تدعم عودة البلاد إلى النظام البرلماني، والعودة إلى ما كانت عليه تركيا قبل عام 2017. وهنا تبدو مخاوف السلطة الحاكمة؛ إذ تعي أن تصويت الأقليات لغير صالحها في الاقتراع التشريعي، قد يمهد الطريق لسيطرة المعارضة على البرلمان، ومن ثم توفير بيئة خصبة لطرح العودة إلى النظام البرلماني.

لذلك يبدو أن تأثير تصويت الأقليات في الانتخابات التركية سيمتد إلى المشهد البرلماني، وهو ما يزيد من التحديات أمام التحالف الحاكم في الاقتراع التشريعي؛ إذ إن الهدف الأبرز الذي أعلنه تحالف الأمة المعارض هو العودة بالبلاد إلى النظام البرلماني، وهو ما تدعمه الأقليات في تركيا على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها.

6– محورية تأثير تغير العامل الديموغرافي: أبرزت الانتخابات التركية المزمع إجراؤها في 14 مايو الحالي، تأثير التغير الديموغرافي الذي شهدته الأقليات في تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة؛ الأمر الذي أضحى يؤثر وبشكل جلي في الانتخابات، سواء في الأصوات، أو شكل ونوع الدعاية للقوى المتنافسة، وكذلك الخطاب الإعلامي للمرشحين. ومثال ذلك ارتفاع نسبة من يحق لهم التصويت من الأقليتين الكردية والعلوية خلال الانتخابات المقبلة، وهو ما يعني منحجيل الشباب في أوساط الأقليات التركية مزيداً من الزخم والتأثير في السياسة التركية؛ ولذلكقد تكون التغيرات الديموغرافية التي طرأت على الأقليات مؤثرة كثيراً على نتيجة الانتخابات. وبحسب تقديرات متعددة، فإن المعارضة التركية لا تزال تتمتع بأفضلية واضحة فيما يتعلق بدعم قطاع شباب الكرد والعلويين والأرمن والمسيحيين واليونانيين.

مناهضة الإقصاء

ختاماً، يمكن القول إن الأقليات ستلعب دوراً مهماً في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، وهنا يمكن فهم حرص القوى المتنافِسة على جذب الأقليات المختلفة داخل تركيا؛ لكونها تشكل أعلى النسب ضمن الناخبين المسجلين في عدد معتبر من المحافظات التركية، بيد أن من المتوقع أن تتجه الأقليات التركية نحو التصويت لمصلحة المعارضة التركية؛ بسبب العنف الممنهج والممارسات الإقصائية لحزب العدالة والتنمية ضد الأقليات، وهو ما ظهر في السعي إلى إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي قضائياً، ولإقصاء رؤساء البلديات الكردية الفائزين في الانتخابات المحلية، وتعيين ممثلين للدولة بدلاً منهم، بالإضافة إلى مماطلة حكومة العدالة بشأن حل الملفات الخلافية مع الأقلية العلوية، فضلاً عن الممارسات السلبية تجاه باقي الأقليات، ومنهم الأرمن واليونانيون.