مع تزايد صفقات الأسلحة التي يطلبها البنتاغون من الشركات العسكرية الأمريكية لتلبية الاحتياجات القومية من ناحية، وضمان استمرارية الإمدادات الأمريكية لأوكرانيا والدول الحليفة من ناحية ثانية؛ يمكن الدفع بأن الحرب الروسية–الأوكرانية لا تعدو كونها سلاحاً ذا حدين؛ ففي الوقت الذي أدت فيه إلى انتعاش الصناعات الدفاعية الأمريكية، والنظر في أوجه النقص والخلل لمجابهتها، بالتوازي مع زيادة ميزانية البنتاغون بوجه عام والميزانية المخصصة للتحديث العسكري بوجه خاص، فإنها أدت – في المقابل – إلى استنزاف المخزون الأمريكي من بعض الأسلحة الدقيقة وأنظمة الصواريخ التي تتطلَّب سنوات عدة لتعويضها، في الوقت الذي يصعب فيه الاستجابة للطلب العالمي المتنامي على الصناعات الدفاعية.
لقد تجلَّت معضلة الصناعة العسكرية الأمريكية مؤخراً مع التقارير التي تحدثت عن إخفاق الولايات المتحدة في زيادة إنتاج الذخائر الرئيسية؛ فبحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الاميركية، في 29 أبريل/نيسان 2023، تعاني الولايات المتحدة من إشكاليات متعلقة بتصنيع الأسلحة، وبعد "مرور أكثر من عام على التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا، فشلت خطط الولايات المتحدة لزيادة إنتاج الذخائر الرئيسية؛ بسبب نقص الرقائق والآلات والعُمَّال المهَرة".
الآثار الإيجابية
أعطت الحرب الروسية–الأوكرانية الصناعات العسكرية الأمريكية دفعة كبرى يمكن الوقوف على أبرز ملامحها من خلال النقاط التالية:
1– تعزيز الصناعات العسكرية: أدت الحرب الروسية–الأوكرانية إلى كثافةالقاعدة الصناعية العسكرية الأمريكية إلى الحد الذي دفع بعض التحليلات إلى مقارنتها بحقبة الحرب العالمية الثانية؛ حين ساهمت التكنولوجيا العسكرية والإنتاج الحربي الأمريكي في تغيير موازين الحرب وانتصار دول الحلفاء على دول المحور؛ فقد تسببت الحرب في إضفاء الزخم على شركات الأسلحة الأمريكية الكبرى، كما شجَّعت صغار المنتجين لأنظمة المُسيَّرات – على سبيل التحديد – لتكثيف ابتكاراتهم لتلبية الاحتياجات الأوكرانية.
2– مجابهة النقص المحتمل في الذخائر: لعبت الحرب الروسية–الأوكرانية – جنباً إلى جنب مع التحديث العسكري الصيني، وعمليات الشراء المكثفة لمختلف الذخائر والأنظمة والمعدات المتطورة التي تفوق سرعتها سرعة نظيرتها الأمريكية – دوراً بارزاً على صعيد مجابهة التحديات التي تقوض الصناعات العسكرية الأمريكية (والتي يأتي في مقدمتها النفاد المحتمل لبعض الذخائر، مثل الذخائر البعيدة المدى والموجهة بدقة، لا سيما إن خاضت الولايات المتحدة صراعاً محتملاً ضد الصين، وهو ما تجلَّى – على سبيل المثال – في تحركات الكونغرس الأمريكي الذي خصص 113 مليار دولار لأربع برامج تكميلية بهدف تعويض الأسلحة المقدمة لأوكرانيا، فيما أسَّست وزارة الدفاع الأمريكية فرقة عمل من كبار المتخصصين للنظر في الآليات التي يمكن استحداثها لتبسيط إجراءات عقود تصنيع الأسلحة.
3– زيادة الميزانية المخصصة للصناعات العسكرية: على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، لا سيما على صعيد قطاع الطاقة، فإن الصناعات العسكرية الأمريكية لم تشهد كساداً أو ركوداً، بل على العكس، شهدت مصانع السلاح الكبرى وشركات الأنظمة الدفاعية رواجاً وانتعاشاً خلال الأشهر القليلة الماضية. وما يدلل على ذلك الميزانية الأمريكية لعام 2024 التي عكست الاهتمام المتزايد بتلك الصناعات بعد أن بلغت ميزانية البنتاغون الجديدة 842 مليار دولار؛ ليس فقط للتعاطي مع تحديات الحرب الروسية–الأوكرانية، بل لمواجهة الصين أيضاً.
فتبعاً لمجلة "بولوتيكو"، كشفت الحرب الروسية–الأوكرانية عن تعدُّد نقاط الضعف في القاعدة الصناعية العسكرية الأمريكية التي ترجع في جزء كبير منها إلى الطلب المتزايد على الصواريخ والذخيرة؛ لذا طلبت وزارة الدفاع من الكونغرس تمويل عمليات شراء هذه الأسلحة لسنوات عدة دون تقديم طلبات سنوية، بجانب تخصيص 30.6 مليار دولار في السنة المالية 2024 للذخيرة، بزيادة قدرها 5.8 مليار دولار عن 2023، ومليارات الدولارات لزيادة إنتاج الصواريخ الجوية والبحرية المتطورة.
4– تحقيق مبيعات قياسية: أثَّرت الحرب الأوكرانية في مبيعات السلاح عالمياً، وتبعاً لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، تصدرت الشركات الأمريكية الشركات المتخصصة في الصناعات الدفاعية وبالتبعية مبيعات الأسلحة العالمية. فمن بين 100 شركة متخصصة في الصناعات الدفاعية، برزت 40 شركة أمريكية حققت مجتمعة مبيعات تقدر بنحو 299 مليار دولار. ونتيجةً لذلك، وبالتوازي مع تزايد الطلب على الأسلحة الأمريكية مع انخفاض مخزون الأسلحة الأوروبية، ارتفعت قيمة أسهم كبرى الشركات الأمريكية المتخصصة في مجال الصناعات العسكرية. ويُذكر في هذا الإطار ارتفاع قيمة أسهم كل من "نورثروب جرومان"، و"لوكهيد مارتن"، و"جنرال ديناميكس"، وغيرها من شركات بنسبة تجاوزت 5% على أقل تقدير.
5– التأثير السلبي على سمعة السلاح الروسي: قد يكون من الآثار الجانبية للحرب الأوكرانية أنها كشفت عن نقاط ضعف في الأسلحة الروسية، كما كشفت عن الصعوبات التي تواجهها الأسلحة الروسية في حسم الحرب لصالح موسكو، أضف إلى ذلك أن تدخُّل السلاح الأمريكي في الصراع كان له دور في تعزيز قدرات كييف والضغط عسكرياً على روسيا. صحيحٌ أن هذه المعطيات لا تعني انتهاء حصة السلاح الروسي في مبيعات السلاح العالمي، وخاصةً أن بعض الدول لا تزال تراهن على السلاح الروسي، بيد أن ما جرى في الحرب يثير الكثير من الشكوك حول جدوى الأسلحة الروسية بالنسبة إلى بعض الدول، وهو أمر بالطبع سيكون في صالح الأسلحة الأمريكية.
انعكاسات سلبية
في اتجاه مضاد، لا يمكن التقليل من شأن بعض التداعيات السلبية التي تعاني منها الصناعات العسكرية الأمريكية من جراء الحرب الروسية–الأوكرانية، وهي التداعيات التي يمكن الوقوف على أبرز ملامحها من خلال النقاط التالية:
1– نقص المواد الخام: واجهت شركات الأسلحة الأمريكية صعوبات على صعيد الحصول على المواد الخام والمكونات الأولية اللازمة لها، وهو ما أرجعه معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى جملة من الأسباب يأتي في مقدمتها الدور الحيوي الذي تلعبه روسيا في مجال توريد المواد الخام التي تستخدم في التسليح والإنتاج العسكري؛ ما قد يقوض قدرة الولايات المتحدة على تعزيز صناعتها العسكرية وتجديد مخزونها العسكري. ويتصل بذلك أزمات سلاسل التوريد العالمية التي حذر منها – على سبيل المثال – الأدميرال المتقاعد بالبحرية الأمريكية جيمس ستافريديس بالقول إن الولايات المتحدة تعاني من نقص في الذخائر والمكونات الإلكترونية والأسلحة الموجهة بدقة، وهو ما يتفاقم سوءاً مع كل هجوم مضاد تسعى أوكرانيا إلى شنه.
2– تراجع إنتاج الذخائر: تتراجع قدرة الولايات المتحدة على زيادة إنتاج الذخائر؛ بسبب نقص الرقائق الإلكترونية والآلات والعمالة الماهرة، ناهيك عن تقادم المصانع المنتجة لتلك الذخائر، وهو ما أرجعته صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى سياسات وقف التمويل، وتراجع الإنتاج، وإغلاق بعض الخطوط الصناعية منذ عقد التسعينيات؛ ما أسفر عن تراجع جاهزية المصانع ذات الأعداد القليلة نسبياً.
ولذا تراجعت قدرة المصانع الأمريكية على زيادة قدراتها الإنتاجية على الرغم من زيادة ساعات العمل المقررة وتنامي الطلب على المعدات الجديدة اللازمة لإنتاج صواريخ "جافلين" المضادة للدروع، وصواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات التي استخدمتها أوكرانيا بوتيرة متسارعة تفوق القدرة على تعويضها. ونتيجةً لذلك، دفع مسؤولو البنتاغون بأن الولايات المتحدة تعاني من معضلة إنتاجية من جراء عدم قدرة مقاولي الدفاع الأمريكيين على تجديد الأسلحة التي تستهلكها أوكرانيا، التي أطلقت 3 آلاف قذيفة "هاوتزر" عيار 155 ملم في يوم واحد.
3– التأثير على جاهزية البلاد لأي صراع محتمل: دفع عدد من مسؤولي البنتاغون بأنه على شركات صناعة الأسلحة النظر في التحدي الأمني التالي الذي قد تواجهه الولايات المتحدة، المتمثل في ردع الصين، بل محاربتها إذا لزم الأمر. وفي هذا السياق، حذر مركز السياسات الاستراتيجية والدولية من نقص حاد في مخازن السلاح، وهو النقص الذي قد تستغرق وزارة الدفاع الأمريكية ما لا يقل عن 6 سنوات لتعويضه بوتيرة الإنتاج العادية. وقد ذكر المركز أن الصناعات العسكرية الأمريكية غير مؤهلة للبيئة الأمنية الدولية الراهنة، لا سيما إن اندلع صراع إقليمي كبير، أو دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؛ ففي تلك الحالة، من غير المرجح أن يلبي مخزون الأسلحة والذخائر المتاح احتياجات أفرع القوات المسلحة الأمريكية.
4– بطء عملية تحديث المصانع: دفع "جيم تايكليت" (الرئيس التنفيذي لشركة "لوكهيد مارتن") بأن الصناعات العسكرية الأمريكية تعاني من "الهشاشة"، واتفق مع ما ذهبت إليه وزارة الدفاع الأمريكية من أن تعويض النقص في الذخائر قد يستغرق ما لا يقل عن 6 سنوات، بيد أنه أكد أن معالجة تلك الهشاشة ستقلل تلك المدة إلى 3 أشهر على أقصى تقدير، وهو ما قد يتحقق من خلال زيادة إنتاج قذائف "هاوتزر" بـنحو 6 أضعاف بحلول عام 2028، وهو ما يصعب تحقيقه في وقت زمني قصير؛ بسبب تصنيع تلك القذائف في منشآت قديمة مملوكة للحكومة وإن إدارتها شركات خاصة، وهي المصانع التي وصفتها وزيرة الجيش "كريستين ورموت" – في جلسة الاستماع التي عقدها الكونجرس الأمريكي في 19 أبريل الماضي – بالعتيقة؛ ما حتم تخصيص 18 مليار دولار على مدى السنوات المقبلة لتحديث المصانع والمنشآت ذات الصلة بالمعدات العسكرية.
5– تعقيد عملية زيادة الإنتاج: دفع عدد من المسؤولين في وزارة الدفاع بأن زيادة التمويل لا تكفي وحدها لزيادة إنتاج الشركات العسكرية؛ فعلى الرغم من رغبة شركتَي "لوكهيد مارتن" و"رايثون" في زيادة الإنتاج السنوي من صاروخ "جافلين" من 2000 إلى 3500 بحلول 2026، وعلى الرغم أيضاً من رغبة الأولى في زيادة إنتاجها من نظام الصواريخ الموجهة "هيمارس" المتعدد من 10 آلاف إلى 14 ألفاً بحلول العام نفسه؛ فإنه لا يسهل زيادة إنتاج تلك الصواريخ الدقيقة؛ لتعقد عملية تصنيعها التي تتطلب رقائق إلكترونية ومحركات صاروخية تعمل بالوقود الصلب. وقد أرجع البنتاغون تعقد عملية الإنتاج تلك إلى محدودية القدرة لا إلى نقص المواد.
6– تعدد الأسلحة التي تعاني النقص: تتعدد الأسلحة التي تراجع مخزونها بوضوح لتشمل صواريخ "جافلين" الطويلة المدى المضادة للدبابات التي حصلت أوكرانيا على ما يزيد على 8 آلاف صاروخ منها، وصواريخ المدفعية العالية الحركة "هيمارس" التي حصلت أوكرانيا على 20 نظاماً صاروخياً أمريكياً منها؛ ما يتطلب سنتين ونصف السنة لتعويضه، وصواريخ "ستينغر" التي حصلت أوكرانيا على 1600 صاروخ منها، وهو ما يتطلب 6 سنوات لتعويضه. ولتعويض بعض أوجه النقص، دفعت صحيفة "نيويورك تايمز" الاميركية بأن الولايات المتحدة لجأت إلى أسلحتها المودعة في مخازن إسرائيلية، التي يعود تاريخها إلى سبعينيات القرن الماضي.
ختاماً.. على الرغم من تواصل إمداداتها لكييف، تتخوف الولايات المتحدة من النقص الحاد أو نفاد الذخيرة المتوافرة لدى الجيش الأوكراني التي تسببت في استنفاد مخزوناتها المخصصة لمواجهة التهديدات غير المتوقعة؛ وذلك بالنظر إلى المعارك البرية الأوكرانية ضد الوحدات الروسية من ناحية، وإمكانية استهلاك الذخيرة الأمريكية في غضون أيام معدودة من ناحية ثانية، بيد أن من غير المتوقع أن يتراجع الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا بالنظر إلى جملة من الاعتبارات؛ يأتي في مقدمتها تعدد البدائل المتاحة أمام الولايات المتحدة من ناحية، وانخفاض المخزون الأمريكي من الأسلحة دون أن يصل إلى مستويات حرجة من ناحية ثانية، وعدم انخراط الولايات المتحدة في أي صراع فعلي في جبهة ثانية من ناحية ثالثة، وسعي البنتاغون إلى استحداث آليات جديدة لدعم أوكرانيا، بالتوازي مع زيادة المخصصات المالية وتحديث المصانع من ناحية رابعة.