• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

كيف تدير البرازيل مصالحها مع القوى الدولية المتنافسة؟


ورث الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، عن والدته الحكمة البرازيلية التي تقول: "خلق لنا الله يديّن، الأولى نصافح بها الأصدقاء، والثانية نكسب بها الأصدقاء الجدد". وتُلخص هذه الحكمة الأبعاد والخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية التي يتبناها لولا الذي عاد للسلطة في ولاية ثالثة، بداية من يناير 2023، حيث زار بعدها واشنطن في فبراير الماضي، واستطاع أن يبلور "مقاربة سياسية" جديدة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، تقوم على دعم الديمقراطية والالتزام بالقضايا المناخية. كما زار لولا الصين في 11 إبريل الماضي، قبل أن يتوجه إلى البرتغال يوم 21 إبريل الماضي لعقد القمة السابعة والأولى منذ 7 سنوات بين زعيمي البرتغال والبرازيل، ومنها توجه إلى إسبانيا. وقبل هذه الجولة الأوروبية، كان لولا قد استقبل في قصر ألفورادا بالعاصمة الوطنية برازيليا، يوم 17 إبريل الماضي، وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الذي نقل دعوة الرئيس فلاديمير بوتين إلى نظيره لولا لحضور منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي.

وهذه اللقاءات للرئيس البرازيلي مع القوى الكبرى والغرب، توضح أنه يريد أن يواصل سياسة "الحياد النشط والإيجابي" التي تبناها خلال ولايتيه الرئاسيتين السابقتين، لكن هذه السياسة تزعج الولايات المتحدة الأمريكية - على الرغم من أن لولا زار واشنطن قبل بكين، ويحتفظ بعلاقات ممتازة مع القادة الأوروبيين - مما يثير التساؤلات بشأن مدى إمكانية تدخل الولايات المتحدة للضغط على البرازيل لتغيير سياستها الخارجية.

مبادئ عامة:

تراهن البرازيل على أن علاقاتها الخارجية تساعدها على تحقيق إنجازات داخلية، فنتيجة للعلاقات البرازيلية المتميزة مع العالم، نجح الرئيس لولا خلال ولايتيه الأولى والثانية في تسديد جميع القروض لصندوق النقد الدولي، ونقل 30 مليون برازيلي من دائرة الفقر إلى الطبقة الوسطى، ووصلت أيام جولاته الخارجية إلى نحو 404 أيام. لكن نتيجة لسياسات الرئيس البرازيلي السابق، جاير بولسونارو، تعرضت البلاد لنوع من "العزلة الخارجية"، ولهذا يسابق لولا الزمن من أجل استعادة مكانة البرازيل على الساحة العالمية. وانطلاقاً من هذه الفلسفة، شارك الرئيس البرازيلي في منتدى دافوس بسويسرا هذا العام، وقمة "سيلاك" في الأرجنتين خلال يناير الماضي. ويعمل لولا على صياغة سياسة خارجية للبرازيل تستند إلى سلسلة من المبادئ، وهي:

1- التفاعلات الداخلية أساس التحركات الخارجية: السياسة الخارجية للبرازيل ترسمها بقوة التفاعلات السياسية الداخلية، خاصة مع مرور البلاد بسلسلة من الأزمات ليس فقط تلك التي تتعلق بالأوضاع الاقتصادية الصعبة في الوقت الحالي ودفع البرازيليين ثمناً باهظاً خلال جائحة "كورونا"، وأيضاً بسبب التداعيات الخطرة التي ظهرت بعد الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها لولا بفارق ضئيل جداً، وهددت تلك الأحداث بتكرار سيناريو الهجوم على مبنى الكابيتول في واشنطن يوم 6 يناير 2021. وتأكيداً لدور التفاعلات الداخلية في رسم السياسة الخارجية، لا يريد الرئيس البرازيلي استيراد منتجات صينية يمكن أن تؤثر في طبقة عمال المصانع في بلاده، فكثير من قادة العمال غير متحمسين لمزيد من البضائع الصينية الرخيصة التي تنافس المنتج المحلي. ولهذا بالرغم من توقيع بكين وبرازيليا اتفاقيات بنحو 20 مليار دولار خلال زيارة لولا الأخيرة للصين، فإن الرئيس لولا صارم في إبقاء الميزان التجاري لصالح بلاده، فقد حققت فائضاً تجارياً لصالحها بنحو 29 مليار دولار في عام 2022.

2- التوازن ورفض الانحياز الكامل لأي من القوى الكبرى: يسعى لولا لأن يكون على مسافة واحدة تخدم القضايا الوطنية والمصالح البرازيلية، ويأخذ من كل القوى الدولية (خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا) ما يعود بالفائدة على اقتصاد بلاده ومكانتها الإقليمية والدولية. ولهذا رفض الرئيس البرازيلي بشكل حاسم تقديم السلاح والذخيرة لأوكرانيا. وقد تمت دعوة البرازيل، العضو الفاعل في "بريكس"، لحضور اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في اليابان، وهو خير دليل على قدرة البرازيل على حفظ استقلاليتها، وفي نفس الوقت تكون قريبة من الجميع.

3- عدم الاختباء بشأن التطورات الدولية: بالرغم من إدراك لولا تعقيدات العلاقات الدولية في الوقت الراهن بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وأن التشابكات الدولية في ولايته الثالثة تختلف تماماً عن الولايتين الأولى والثانية، وكذلك إدراكه رغبة كل طرف في جذب الدول الأخرى إلى جانبه؛ فإن الرئيس البرازيلي يقدم أفكاراً في كل الاتجاهات حول النظام العالمي الجديد، وسيطرة الدولار الأمريكي، وتعزيز التعاون بين دول أمريكا اللاتينية. لكنه أيضاً في نفس الوقت يطالب الصين بتدشين مشروعات جديدة، رافضاً شراءها للأصول البرازيلية. كما أن الرئيس لولا حمّل كلاً من روسيا وأوكرانيا مسؤولية اندلاع الحرب الحالية، ولم يُحمّلها لطرف دون آخر.

4- الوساطة في الأزمات الدولية: كانت للرئيس لولا محاولات كثيرة من قبل للتوسط في أزمة البرنامج النووي الإيراني في الفترة من 2007 وحتى 2010، والآن يقدم نفسه كوسيط في الحرب الأوكرانية. وخلال لقائه مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، في منتصف إبريل الماضي، قدم لولا مبادرة مشتركة مع الصين ودولة الإمارات لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

5- المرونة الخارجية: تتمثل هذه المرونة في قدرة الرئيس البرازيلي على تعديل أو تغيير موقفه حال اكتشاف إمكانية تضرر مصالح بلاده من موقف ما أو تصريح هنا وهناك، فعندما واجه عاصفة بسبب مطالبته أوكرانيا بالتنازل عن شبة جزيرة القرم لروسيا عاد ليؤكد أهمية وحدة الأراضي الأوكرانية وسلامتها.

6- تعزيز الإقليمية اللاتينية: يُعد لولا من أكثر الداعمين لضرورة تقوية العلاقات بين دول أمريكا اللاتينية، ولهذا كانت زيارته الخارجية الأولى في ولايته الثالثة إلى الجارة الأرجنتين. فهو يحتفظ بعلاقات طيبة مع الجميع سواءً الحكومات الاشتراكية والعمالية أو تلك الموالية لواشنطن في أمريكا الجنوبية، ويرى أن من مصلحة البرازيل أن يكون جيرانها أقوياء، وأن هذا يتحقق عبر توحيد قارة أمريكا الجنوبية عن طريق التجارة والبنية التحتية وتحسين الحوار السياسي، للوصول في نهاية المطاف إلى تأسيس اتحاد أمم أمريكا الجنوبية.

7- عدم الانضمام للتكتلات والأيديولوجيات المختلفة: على الرغم من الطابع العمالي والاشتراكي للحكومة البرازيلية، فإن لها علاقة قوية مع البيت الأبيض والحكومات الأوروبية، ورفضت البرازيل الانضمام للتحالفات الدولية ذات الصبغة الأيديولوجية أو العسكرية التي يمكن أن تحصرها في خندق واحد أو معسكر بعينه.

8- الاستناد لقيم راسخة: تتسم الكثير من القرارات البرازيلية بالطابع البراغماتي، إلا أنها تنطلق دائماً من مجموعة من القيم؛ أبرزها تفضيل الحلول السياسية والسلمية على الصراعات المسلحة، ودعم الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، واحترام القانون الدولي، والسعي لتحقيق العدالة الدولية بين الشمال والجنوب، وهي المعركة التي يتبناها لولا حتى قبل أن يصبح رئيساً للبلاد.

قلق أمريكي:

على الرغم من وجود خلافات قديمة بين الرئيس البرازيلي والولايات المتحدة تمثلت في رفض لولا عام 2008 نشر البنتاغون قواعد عسكرية من الفيلق الرابع بمنطقة الكاريبي، وكذلك رفض البرازيل نشر 7 قواعد عسكرية أمريكية في كولومبيا، ودفاعها الدائم عن مصالح دول الجنوب؛ فقد تلقى لولا دعماً كاملاً من الرئيس بايدن أثناء الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات البرازيلية، وهو ما قاد إلى زيارته للبيت الأبيض في فبراير الماضي. بيد أن تصريحات لولا ومواقفه أخيراً قد أثارت غضب الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الغربية، وهو ما يرجع إلى عدة أسباب، أهمها الآتي:

1- اتهام لولا أثناء زيارته للصين كلاً من الولايات المتحدة والدول الغربية بتشجيع الحرب الروسية الأوكرانية، وأنهم يسهمون في إطالة أمد الحرب من خلال إمدادات السلاح. ويعتقد الرئيس البرازيلي أن واشنطن تستطيع وقف الحرب، قائلاً: "تستطيع أوروبا والولايات المتحدة أن تقول للطرفين أن يذهبا إلى طاولة المفاوضات، والقول كفى".

2- رفض البرازيل تطبيق أي عقوبات اقتصادية على روسيا، لأن البرازيل ترى في هذه العقوبات نوعاً من العقوبات الأحادية التي لم يصدر بها قرار من مجلس الأمن الدولي، كما أنها رفضت المساهمة في برنامج إرسال السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا.

3- عدم توقيع البرازيل على البيان الصادر عن قمة "من أجل الديمقراطية" التي نظمتها واشنطن في أواخر مارس 2023، وكان هذا البيان يُحمّل روسيا وحدها مسؤولية الحرب الأوكرانية، بينما ترى برازيليا أن الحرب هي مسؤولية الطرفين.

4- دعوة الرئيس لولا أثناء مؤتمر شرم الشيخ للمناخ "كوب 27" إلى عالم متعدد الأقطاب، عندما وعد بالمساعدة في بناء نظام عالمي سلمي قائم على الحوار والتعددية القطبية، وإصلاح المؤسسات الدولية لزيادة تمثيل مصالح دول الجنوب الصاعد.

5- تشجيع البرازيل على تعزيز التجارة الدولية باستخدام العملات المحلية، ولهذا وقّعت مع بكين خلال زيارة لولا لها اتفاقية للتعامل باليوان بدلاً من الدولار واليورو. ويرجع الغضب الأمريكي من هذه الخطوة إلى أنها جاءت من أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وهو ما من شأنه تشجيع دول القارة على السير على النهج البرازيلي.

6- قلق الولايات المتحدة من انضمام البرازيل إلى مشروع "الحزام والطريق" الصيني، كما تخشى واشنطن الشراكة المحتملة بين برازيليا وبكين في مجالات الرقائق وتكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس، فضلاً عن المخاوف الأمريكية من زيادة صادرات البرازيل الزراعية إلى الصين؛ لأن هذا من شأنه أن يحرر بكين من الاعتماد على المنتجات الزراعية الأمريكية، ويحرم المزارع الأمريكي من الحضور في السوق الصينية الواسعة في هذا المجال.

خصوصية صينية:

على الرغم من حديث لولا الدائم عن تنويع الخيارات والشراكات والحفاظ على مسافة واحدة من الجميع، توضح الأرقام وجود خصوصية صينية برازيلية في كثير من الملفات، أبرزها أن الصين هي الشريك التجاري الأول للبرازيل بنحو 150 مليار دولار في عام 2022، كما تزيد الاستثمارات الصينية في البرازيل على 70 مليار دولار. ومع ذلك، هناك اختلاف في المصالح بين بكين وبرازيليا في مجموعة من الملفات، ومنها الآتي:

1- سياسة "الصين الواحدة": تعترف البرازيل بسياسة "الصين واحدة" وترفض الاعتراف بتايوان، إلا أن بعض رموز المعارضة وقيادات الولايات البرازيلية سبق لهم زيارة تايوان ويتعاطفون مع تايبيه، وهو ما يُشكل تحدياً للتوجه العام البرازيلي نحو بكين.

2- الدور الصيني في أمريكا اللاتينية: تخشى البرازيل من تنامي علاقات الصين مع دول أمريكا اللاتينية خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وتنظر برازيليا لهذا الدور المتنامي لبكين باعتباره يخصم من الطموحات البرازيلية لقيادة أمريكا اللاتينية، وتجسدت هذه المخاوف عندما تفاوضت الأوروغواي مباشرة مع الصين على اتفاقية للتجارة الحرة دون تنسيق مع تجمع ميركوسور لأمريكا اللاتينية.

3- التعاون العسكري بين الصين والأرجنتين: تخشى المؤسسة العسكرية البرازيلية من تنامي التعاون العسكري الصيني الأرجنتيني خاصة في المجالات الحساسة مثل الفضاء العسكري. وترى بعض القيادات العسكرية البرازيلية أن التعاون العسكري بين بكين وبوينس آيرس يمكن أن يضر بالبرازيل على المستوى البعيد، بل يمكن أن يحول أمريكا اللاتينية لدائرة صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين في حال غزت بكين تايوان.

امتنان روسي:

تعمل البرازيل إلى جانب روسيا في تجمع "بريكس" وبنك التنمية الآسيوي، ورفضت فرض عقوبات على موسكو، كما رفضت إرسال سلاح وذخيرة إلى كييف، وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي لافروف لزيارة البرازيل والثناء على موقف الرئيس لولا الذي كان يتعرض لحملة أمريكية تتهمه بأنه يردد "الدعاية الروسية والصينية" حول الحرب الأوكرانية. ولا تنوي البرازيل تغيير مواقفها من هذه الحرب، وتتمسك برؤيتها بشأن الوساطة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن البرازيل تُعد من أكبر مستوردي الأسمدة الروسية في العالم، على النحو الذي يدعم المزارعين البرازيليين الذين يساندون بدورهم موقف الرئيس لولا.

ختاماً، نجحت السياسة الخارجية البرازيلية في عهد الرئيس لولا في كسب مساحات جديدة على الساحتين الإقليمية والدولية، بداية من أمريكا اللاتينية، مروراً بالعلاقات القوية مع روسيا والصين، وصولاً إلى بناء مقاربة عادلة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لكن هذه السياسة تواجه تحديات كبيرة في ظل التطورات الراهنة على الساحة الدولية والخلافات بين القوى الكبرى في عدد من الملفات، ومن أبرزها الحرب الأوكرانية. ومن ثم سيتطلب الحفاظ على توازن تلك السياسة بذل جهود كبيرة أو قد تتجه برازيليا في نهاية المطاف، تحت وطأة الضغوط، إلى دعم طرف على حساب الآخر، وهو ما سيقلل حينها من مكاسبها المتوقعة.