شهدت فرنسا في الأول من مايو 2023، يوماً جديداً من سلسلة المظاهرات المرتبطة بالتعبئة الشعبية ضد قانون الحكومة الفرنسية لإصلاح نظام التقاعد. وتتواجه في السياسة وجهتا نظر منذ بداية هذه التعبئة في يناير 2023: وجهة نظر معارضة تعتبر أنه لا يمكن تمرير هذا القانون الذي سيجبر الفرنسيين على العمل سنتين إضافيتين من دون الاحتكام الى التصويت في البرلمان الذي انتخبه الفرنسيون، ووجهة نظر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعتبر أن هذا القانون كان من ضمن برنامجه الانتخابي، وأن الفرنسيين انتخبوه رئيساً في عام 2022، إذن فالفرنسيون موافقون عليه. وتتداخل ضمن عملية الفصل بين وجهتي النظر هاتين، جميع الوسائل والحجج الدستورية، مضافاً إليها مطالبات بالاحتكام الى قراءة الإرادة الشعبية التي أفرزتها هذه المظاهرات الطويلة.
ظاهرة مستمرة
يمكن اعتبار أن استمرار مسلسل المظاهرات في فرنسا يعود إلى مجموعة من الأسباب المتمثلة فيما يلي:
1– ممارسة الضغط على الحكومة لإجبارها على التراجع: حيث يعتمد معارضو إصلاح نظام التقاعد من خلال الاستمرار في تنظيم المظاهرات، على سابقة حصلت في عام 2006 في زمن حكومة دومينيك دو فيلبان التي قدمت القانون المثير للجدل حول عقد العمل الأول (CPE)؛ إذ إنه بعد اعتماده من قبل البرلمان الفرنسي والمصادقة عليه من قبل المجلس الدستوري، وإصداره من قبل رئيس الجمهورية آنذاك جاك شيراك، اضطر شيراك بعدها إلى عدم تطبيقه من جراء ضغط التعبئة الشعبية التي لم تهدأ على مدار 3 أشهر، وهذا ما ذكَّر به لوران بيرجيه رئيس نقابة CFDT مؤخراً، كما تعتمد هذه المقاربات على تراجعات سابقة قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون، كسحب ضريبة الكربون، وسحب وضع حد أقصى للسرعة على الطرق الفرعية.
2– إشغال الحكومة بمسار من العقبات: فقد قررت المعارضة، بالتنسيق مع النقابات، استخدام جميع الوسائل الدستورية لمنع تمرير قانون الحكومة حول إصلاح نظام التقاعد؛ حيث إنه في كل مرة كانت الحكومة تظن أنها نجحت في تخطي العقبات تُخرج لها المعارضة معضلة جديدة؛ من تقديم مقترحات لحجب الثقة عن الحكومة (تم التصويت عليها في 20 مارس 2023)، إلى الوقوف على رأي المجلس الدستوري حول دستورية هذا القانون (الذي صادق عليها في 14 أبريل) إلى التقدم بمشروع قانون لإجراء استفتاء وفقاً للمادة 11 من الدستور ( تقدمت به كتلة NUPES في 17 مارس 2023)، ومن ثم فإنه لاكتمال هذا السيناريو فإن تحريك الشارع يبقى ضرورياً؛ وذلك لإبقاء المؤسسات الحكومية تحت الضغط قبل البت في المسائل الدستورية المثارة.
3– تعبئة متصاعدة في مواجهة محاولات فرض القانون: أدت الطريقة المستخدمة من قبل الحكومة لتمرير قانون إصلاح نظام التقاعد عبر اللجوء إلى استخدام المادة 49.3 من الدستور، إلى تغيير في طبيعة التعبئة التي تحولت من المسالمة والاستكانة إلى الغضب والعنف، وأصبحت كل خطوة جديدة تتخذها الحكومة في هذا المجال، تتهيأ لها المعارضة بزيادة التعبئة؛ لإظهار أن موازين القوى في الشارع تميل لصالحها. وأدت خطوات الفرض الحكومية، والاستخدام المفرط للعنف من قبل الشرطة، إلى مشاركة شرائح اجتماعية جديدة في المظاهرات، كفئة الشباب والمستائين من الطبقات الوسطى.
4– اتساع مساحة الرفض الشعبي للقانون: كانت نسبة تأييد الفرنسيين لحركة الاعتراض على إصلاح نظام التقاعد تناهز 59% مع بداية انطلاقتها في يناير 2023، ثم ما لبثت أن ارتفعت بعد عدة أسابيع لتلامس 66%، وبعد شهرين أظهر استطلاع للرأي أن 74% من الفرنسيين يؤيدون التصويت على سحب الثقة من الحكومة.
كما سجلت تظاهرة يوم السابع من مارس 2023 (المظاهرة السادسة في التحرك ضد إصلاح نظام التقاعد) رقماً قياسياً تاريخياً من حيث عدد المشاركين في تعبئة احتجاجية؛ حيث بلغ عدد المشاركين فيها نحو 1.28 مليون وفقاً لوزارة الداخلية، في حين أن الرقم القياسي السابق كان يعود إلى مظاهرة 12 أكتوبر 2010 أيام حكومة فرنسوا فيون والتي جمعت 1.23 مليون متظاهر.
هذا بالإضافة إلى أن هذا التحرك الاحتجاجي سجَّل أكبر سلسلة من تنظيم مظاهرات التعبئة الكبرى (13 تعبئة كبرى حتى الأول من مايو 2023)، بالمقارنة بحركات الاحتجاج الكبرى السابقة، سواء في عام 1995 إبان حكومة ألان جوبيه، أو في عام 2003 إبان حكومة جان بيار رافارين، أو في عام 2006 إبان حكومة دومينيك دو فيلبان، أو في عام 2010 إبان حكومة فرنسوا فيون، أو في عام 2016 إبان حكومة إيمانويل فالس، أو في عام 2019 إبان حكومة إدوارد فيليب.
5– إفشال التهدئة التي طلبها “ماكرون”: يمكن القول إن عدد جولات التعبئة مرشح أيضاً للارتفاع مع دعوة التكتل النقابي إلى يوم تعبئة جديد في 6 يونيو 2023؛ أي قبل يومين من تاريخ التصويت في البرلمان على اقتراح لإلغاء هذا القانون والعودة إلى 62 عاماً سناً للتقاعد، وهو الاقتراح المقدم من الكتلة البرلمانية المستقلة، كما أن زعيم جبهة اليسار الموحد جان لوك مولونشون، دعا في خطابه في الأول من مايو 2023 إلى استعادة سن التقاعد إلى الستين، وإلى تنظيم عمل شعبي كبير في 14 يوليو 2023 لتعليم ماكرون معنى كلمة “تمرد”، في نوع من التحدي لرغبة الرئيس ماكرون في إرساء 100 يوم من التهدئة بعد إصداره قانون التقاعد الجديد في أبريل 2023.
تداعيات محتملة
قد يكون لاستمرار التعبئة الشعبية ضد قانون إصلاح نظام التقاعد، وردود الفعل المضادة عليها، تأثيرات على الوضع الداخلي الفرنسي، نشير الى أهمها بما يأتي:
1– تخوف من توسع دائرة العنف: شهدت المظاهرات الأخيرة في فرنسا مظاهر عنيفة من قبل بعض المشاركين، خصوصاً بعد لجوء حكومة إليزابيث بورن إلى تمرير إصلاح نظام التقاعد عبر تطبيق المادة 49.3 من الدستور من دون عرضه على التصويت في مجلس النواب. وقدرت مذكرة صادرة عن المخابرات الفرنسية عدد العناصر الخطرة التي كانت تعتزم المشاركة في تظاهرة الأول من مايو 2023 بـ2000 عنصر، من بينهم 200 إلى 400 ناشط يساري متطرف، و100 إلى 200 عنصر من جماعة السترات الصفراء الشديدي التطرف.
وبوجه عام، تعرف المجموعات الأكثر إشاعةً للعنف في المظاهرات في فرنسا “بالكتل السوداء” Black Blocs، وهي مجموعات ملثمة ترتدي ملابس سوداء، تقتصر مهمتها على مهاجمة رجال الشرطة وتخريب الفضاء العام. ولمواجهة خطر هذه العناصر، أتيح لعناصر الشرطة إيقاف المتظاهرين الخطرين أثناء التظاهر، وإنشاء ملفات تعريف لهم بعد أخذ بصمات العيون، واللجوء فيما بعد إلى مراقبة المشاركين عبر كاميرات لديها خاصية التعرف على الوجوه Reconnaissance faciale، كما شهدت مظاهرات الأول من مايو استخدام المراقبة عبر الدرونز، وطالب وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانان، بعد أحداث عنف التي شهدتها مظاهرة الأول من مايو، بسن قانون لمكافحة المخربين Loi Anti–casseurs معتبراً أنه كما يتم منع الهوليجانز من حضور مباريات كرة القدم والجلوس بين المتفرجين في المدرجات، يجب منع المتظاهرين العنيفين من المشاركة في التظاهر.
وتنتشر في صفوف المحتجين والنقابيين السلميين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المشاركين في التظاهرات، سلسلة من المقارنات حول ما استطاعت تحقيقه حركة السترات الصفراء، التي وصلت في أكبر احتجاج لها إلى جمع 284 ألف شخص، والتي قرر ماكرون لامتصاص نقمتها صرف 13 مليار يورو مساعدات، وبين عدم نجاح حركة الاحتجاج الحالية على الرغم من تخطيها حاجز مليون متظاهر في عدة مناسبات من دفع الحكومة إلى التراجع. والسبب في سماع مطالب السترات الصفراء وعدم سماع مطالبهم يعود – وفق هؤلاء النقابيين – إلى لجوء السترات الصفراء إلى استخدام الأساليب العنيفة؛ “فهل يجب حتى يسمعنا أحد أن نلجأ إلى العنف؟”.
2– دعوات للانتقال إلى الجمهورية السادسة: مع رفض المجلس الدستوري مقترحين تقدمت بهما المعارضة لإجراء استفتاء المبادرة المشتركة (RIP: référendum d’initiative partagée) للعودة إلى سن التقاعد السابق؛ أي 62، في 14 أبريل و3 مايو 2023، ومع دخول دستور الجمهورية الخامسة في عامه الخامس والستين من التطبيق في أكتوبر 2023 (بمعنى أنه هو أيضاً قد بلغ سن التقاعد)؛ ترتفع آراء بأن هذا الدستور كان يتوافق مع احتياجات فرنسا في عام 1958 ولم يعد صالحاً لإدارة البلاد في الوقت الحالي. والدليل على ذلك أنه تم تجريب كل الوسائل الموجودة في هذا الدستور (الاعتراض في الشارع، محاولات حجب الثقة عن الحكومة، المطالبة بإجراء استفتاء) ولم يُفْضِ أي منها إلى حل الأزمة الحالية، ومن ثم فإن المطلوب هو الانتقال إلى الجمهورية السادسة وكتابة دستور جديد.
صحيح أن حركة الاحتجاج الحالية تتعلق بمسألة الاعتراض على رفع سن التقاعد، إلا أن ما سبقها من حركات احتجاجية في السنوات الأخيرة – مثل حركة واقفي الليل Nuit Debout في 2016 للاعتراض على تعديل قانون العمل، وحركة السترات الصفراء Gillets Jaunes في 2018 – تُظهِر أن الاعتراض الأوسع ينصب على النظام السياسي الفرنسي الحالي. هذا الدعوات تجد صداها في تصريحات زعيم المعارضة اليسارية جان لوك مولونشون المتكررة التي كان آخرها في تظاهرة الأول من مايو حين طالب بإسقاط الجمهورية الخامسة.
3– إكساب اليمين المتطرف المزيد من الزخم: حيث أظهرت نتائج استطلاعات للرأي أجريت في أبريل 2023، أن حزب اليمين المتطرف “التجمع الوطني” RN هو الفائز الأكبر من الأزمة السياسية الناشبة حول إصلاح قانون التقاعد، رغم النأي بنفسه عن المشاركة فيها؛ حيث زادت نوايا التصويت له بمقدار 7 نقاط ( 26% من الناخبين سيختارون التصويت له لو أجريت انتخابات تشريعية جديدة مقابل 19% في انتخابات يونيو 2022)؛ حيث استفاد من ظهوره بمظهر الهادئ على عكس حركة فرنسا غير الخاضعة LFI التي أزعجت براديكاليتها شريحة وازنة من الناخبين.
وكان لافتاً إطلالة مارين لوبان في الأول من مايو 2023 في مدينة لوهافر؛ حيث تجمَّع أنصارها، على الرغم من اعتيادها في السابق الاحتفال بهذه المناسبة في باريس، وركزت في خطابها الذي أطلقته من هناك، على فكرة “السلام الاجتماعي” Paix Social، معتبرةً أن هناك ثلاثة مخارج للأزمة الحالية: حل البرلمان، أو الاستفتاء، أو استقالة الرئيس ماكرون. وربما كان سبب اختيارها مدينة لوهافر لإطلاق مثل هذه المواقف، أن معظم استطلاعات الرأي حول نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027، تضعها في منافسة في الجولة الثانية مع رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب الذي يرأس حالياً بلدية مدينة لوهافر، ربما لتذكير الغاضبين من الفرنسيين أن إدوار فيليب كان، فيما سبق، مؤيداً لرفع سن التقاعد إلى 67 عاماً.
4– التوسع في أطروحات الديمقراطية التشاركية: تجدر الإشارة إلى أن فكرة الاستفتاء كانت من صلب مشروع مارين لوبان الانتخابي في 2022 والمقصود به استفتاء مبادرة المواطنين Referundum d`initiative Citoyenne؛ أي أن جمع توقيع 500.000 مواطن كافٍ لتنظيمه حول أي موضوع، على عكس RIP الذي يجب لإطلاقه جمع توقيع خُمس البرلمانيين، ومن ثم عُشر الناخبين المسجلين في غضون تسعة أشهر.
وتقول مارين لوبان إنه لو كان هناك تطبيق لاستفتاء مبادرة المواطنين لما شهدت فرنسا حركة السترات الصفراء، وكانت تعتزم في حال وصولها إلى سدة الرئاسة تطبيقه في مواضيع كالهجرة، وحول مسألة القدرة الشرائية والأفضلية الوطنية. وصحيح أن لهذه الفكرة أنصاراً أيضاً في معسكر اليسار، الذين يعتبرون أنه يجب تطعيم الديمقراطية التمثيلية Démocratie Représentative في فرنسا ببعض وسائل الديمقراطية التشاركية Démocratie Participative لإعادة التوازن إلى النظام السياسي الفرنسي؛ لأن المستفيد من بقاء الأمور على حالها هو مثلث: التغيب، اليمين المتطرف، العنف.
خيارات “ماكرون”
حتى لا يُحكم على فترة السنوات الأربع المتبقية من ولاية الرئيس ماكرون الثانية بالجمود السياسي، بإمكان الرئيس الفرنسي بناء استراتيجياته وفق التوجهات التالية:
1– المراهنة على تراجع حدة الاحتجاجات: اعتبر بعض المراقبين، عقب انخفاض أعداد المشاركين في اليوم الثاني عشر من التعبئة، في 13 أبريل 2023 الذي سجل مشاركة 380 ألف متظاهر في الشوارع، أن شعوراً معيناً بالضجر والإحباط بدأ ينتشر بين المحتجين، في استنتاج أن الحراك أصبح قريباً من نهايته، إلا أن ما حصل في نهار الأول من مايو أثبت عدم دقة هذا الاستنتاج؛ حيث نجحت النقابات في الحشد من جديد. وهناك آراء ما زالت مصرة على اعتبار أن ما حصل في الأول من مايو يتعلق برمزية هذا اليوم؛ أي بعيد العمال الذي كان يوماً للتظاهر في كل سنة، معتبرين أنه بعد هذا التاريخ، وفي تاريخ التعبئة المقبلة في 6 يونيو 2023 فإن الحركة الاحتجاجية ستتراجع، خصوصاً مع المراهنة على حدوت تصدع في الجبهة النقابية الموحدة؛ حيث هناك توجه لدى بعض النقابات كالـCFDT على عدم المشاركة في الاحتجاجات المستقبلية، ومن ثم فإن على ماكرون اختيار الاستراتيجية القائمة على تطبيق ‘”نموذج تاتشر” : أن الحكام لا يتراجعون أبداً مهما كلف الأمر.
2– الحوار مع بعض الأطراف: كما يمكن لماكرون المراهنة على فتح حوارات مع الأطراف التي تقبل بذلك؛ للرد على الاتهامات التي تُساق ضده بأنه “لا يسمع نبض الشارع؛ فلماذا يجب أن نستمع إليه؟!”، ولعل هذا ما دفعه الى دعوة النقابات إلى الانخراط في حوار اجتماعي مسؤول عبر المقابلة التي أجراها مع صحيفة Sud–Ouest في 6 مايو 2023 داعياً إلى التحلي بروح من المسؤولية في إدارة الخلافات. وتعتبر بعض الأوساط أن ماكرون يبحث عن إبرام صفقة جديدة مع شركاء اجتماعيين جدد تسمح له بمتابعة تمرير إصلاحاته الأخرى.
3– تخطي معضلة الحكم من دون أغلبية: ربما يعلم “إيمانويل ماكرون” أن ولادته السياسية الجديدة يجب أن تمر عبر الخضوع لهذه اللحظات الصعبة والصبر عليها وتحملها، خصوصاً أن الكثير من الهجوم على مؤسسة الرئاسة في فرنسا من قبل المعارضة الحالية، ربما سينقلب لصالحه؛ حيث سيدفع ذلك جزءاً من الفرنسيين إلى الوقوف مجدداً بجانبه، على اعتبار أن الاستمرار فيما يحصل لن يكون مؤذياً لماكرون فقط، بل لفرنسا وللأجيال اللاحقة. وتكمن استراتيجية ماكرون في استثمار تلك اللحظة من التعاطف، من أجل إنتاج أغلبية مطلقة جديدة؛ حيث إن ما ينقصه للحصول عليها هو نحو 40 مقعداً في البرلمان (لديه 245 من أصل 287)، وإذا ما تعذرت فإن المطروح هو البحث عن هذه الأغلبية على القطعة؛ أي حسب كل نص قانون على حدة.
4– التفكير في إجراء تغيير حكومي: خصوصاً أن الأوساط القريبة من الرئيس الفرنسي تعتبر أن رئيسة الحكومة الحالية إليزابيث بورن، قد أخفقت في إنجاز عدة خطوات كانت قد أخذتها على عاتقها؛ ما كلف ماكرون ثمناً سياسياً كبيراً، كعدم توصلها إلى نتائج ملموسة في حوارها الذي أجرته مع تكتل النقابات والذي استغرق وقتاً طويلاً استغلته المعارضة لتهييج الشارع ضد ماكرون، كما أن بورن Borne فشلت في التوصل إلى تفاهم مع حزب الجمهوريين LR اليميني من أجل إقناعه بالتصويت لصالح قانون إصلاح نظام التقاعد، أو على الأقل تأمين الأغلبية المطلقة له من خلالهم، عبر تصويت جزء من نواب كتلتهم لصالحه؛ الأمر الذي لو نجحت في الحصول عليه، لكانت وفرت على فريق رئيس الجمهورية تحمل التداعيات السياسية والشعبية للجوء إلى استخدام المادة 49 من الدستور.
وربما قد يؤدي كل ذلك إلى جعل “ماكرون” يقتنع باختيار رئيس حكومة قوي قادر على فرض وجهة نظره على محاوريه، خصوصاً إذا كان يعتزم السير بإصلاحات جديدة، وليس فقط اعتباره (أي رئيس الحكومة) مجرد معاون له. وربما تكون فترة الـ100 يوم من التهدئة التي حددها ماكرون، هي الفترة الممهدة قبل حصول هذا التغيير الحكومي.
خلاصة القول: في ظل محاولات الرئيس الفرنسي ماكرون تمضية فترة السنوات الأربع المتبقية من حكمه من دون تقديم تنازلات للأطراف السياسية الأخرى، والتفرد بقراراته رغم عدم امتلاكه أغلبية مطلقة، وسعي رئيسة تيار أقصى اليمين مارين لوبان إلى استثمار إخفاقاته للوصول إلى الرئاسة في عام 2027، وإصرار رئيس جبهة اليسار جان لوك مولونشون على فشل الجمهورية الخامسة للدفع نحو كتابة دستور جديد؛ تأتي مسألة الحراك في الشارع الفرنسي كفرصة يسعى كل طرف منهم إلى استغلالها لحساباته الخاصة.