• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
تقدير موقف

لماذا تصاعد دور صناديق أسواق المال الأمريكية مؤخراً؟


في خضم تقلبات الأسواق المالية، غالباً ما تكون خسارة أحد اللاعبين مكسباً للآخر، ذلك الأمر ينطبق بحذافيره على صناديق أسواق المال الأمريكية، التي استفادت من الأزمة المصرفية الأخيرة الناتجة عن إعلان إفلاس بنكي سيليكون فالي وسيجنتشر في 10 مارس 2023، نظراً لتفاقم مخاوف المودعين بخصوص سلامة أموالهم داخل النظام المصرفي بالتبعية، والتي دفعتهم لتحويل أموالهم إلى صناديق التمويل الأصغر بمعدل سريع، مع تدفقات داخلية تقارب 370 مليار دولار لصالح صناديق أسواق المال الأمريكية.

فبينما قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، قدمت الصناديق للمستثمرين معدلات أعلى بكثير من تلك التي تدفعها البنوك، من خلال الاستثمار في سندات الدين قصيرة الأجل، كما سمح للمستثمرين بإدارة احتياجاتهم النقدية مع توفير التمويل اليومي للاقتصاد.

جدير بالذكر، أن صناديق أسواق المال من أنواع الصناديق المشتركة التي تستثمر في أدوات عالية السيولة قصيرة الأجل؛ حيث تشتمل هذه الأدوات على النقد والأوراق المالية المعادلة للنقد والأوراق المالية ذات التصنيف الائتماني العالي والأوراق المالية القائمة على الديون ذات الاستحقاق قصير الأجل مثل سندات الخزانة الأمريكية. وتهدف صناديق أسواق المال بصفة عامة إلى تزويد المستثمرين بسيولة عالية مع مستوى منخفض جداً من المخاطر، ويطلق على صناديق سوق المال أيضًا صناديق الاستثمار في سوق المال.

أصداء الأزمة

في أعقاب الأزمة المصرفية الأخيرة مع انهيار بنك سيليكون فالي، شهدت صناديق أسواق المال الأمريكية رواجاً كبيراً واهتماماً واسعاً من قبل المستثمرين، فبينما بلغت الأصول في صناديق أسواق المال مستويات قياسية على الإطلاق لأربعة أسابيع متتالية في الولايات المتحدة عقب إعلان إفلاس بنكي سيليكون فالي وبنك سيجنتشر، ووفقًا لموقع cranedata.com، ضخ المستثمرون نحو 49.07 مليار دولار في صناديق أسواق المال في الأسبوع الأول من شهر إبريل 2023، بحسب معهد شركة الاستثمار (Investment Company Institute)، وهو مجموعة تجارية صناعية. وقد أدى ذلك إلى وضع أصول صناديق سوق المال عند 5.2 تريليون دولار، وهي بذلك قفزة بنسبة 15.1% خلال الـ 52 أسبوعًا السابقة للأسبوع الأول من شهر إبريل 2023، وزيادة قدرها 800 مليار دولار عن عام 2022، بما نسبته 10.8%.

في سياق متصل، بلغ متوسط نسبة المصروفات الصافية في صناديق أسواق المال، والتي تعكس رسوم الإدارة والتكاليف الأخرى، 0.23% أو 23 نقطة أساس اعتبارًا من أبريل 2023 – وهي بذلك أعلى بكثير من العديد من صناديق المؤشرات المتداولة في البورصة. بيد أن مقدار الربح الذي تحققه صناديق أسواق المال الأمريكية لايزال غير واضح تماماً، لأنها تدار بشكل أكثر نشاطًا من الصناديق ذات المؤشرات المنخفضة أو الخالية من الرسوم.

ومن المتوقع بحسب لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock، أن يكون التحول من الودائع البنكية إلى صناديق أسواق المال اتجاهًا طويل الأمد؛ حيث عادت العائدات بعد عقد ضائع من معدلات تقترب من الصفر، مدللاً على ذلك بأن شركة BlackRock وحدها قد تمكنت من جمع أكثر من 40 مليار دولار من التدفقات النقدية الصافية في مارس 2023، تزامنًا مع “أزمة الثقة” على حد وصفه التي واجهت البنوك الإقليمية خلال ذلك الشهر.

آليات العمل

ينظم عمل صناديق أسواق المال الأمريكية عدد من الآليات التي تعمل وفقاً لها، وتمثل في بعضها وظائف جوهرية له، وفيما يأتي نستعرض أبرزها:

1- إصدار وحدات أو أسهم قابلة للاسترداد للمستثمرين: تعمل صناديق سوق المال كصندوق مشترك نموذجي، يصدر وحدات أو أسهم قابلة للاسترداد للمستثمرين، ويتم تفويضهم باتباع الإرشادات التي يصيغها المنظمون الماليون؛ كتلك القواعد التي وضعتها لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية.

2- الاستثمار في عدد من الأدوات المالية: يستثمر صندوق سوق المال في عدد مختلف من الأدوات المالية القائمة على الديون، كشهادات الإيداع (CDs) – شهادة ادخار ذات أجل قصير، والأوراق التجارية – وهي ديون الشركات قصيرة الأجل غير المضمونة، واتفاقيات إعادة الشراء (Repo)، والأوراق المالية الحكومية قصيرة الأجل وسندات الخزانة الأمريكية، وتعتمد عوائد هذه الأدوات على أسعار الفائدة المطبقة في السوق، وبالتالي، فإن العوائد الإجمالية من صناديق أسواق المال تعتمد كذلك على أسعار الفائدة.

3- جذب الأموال المؤسسية بحد أدنى مرتفع للاستثمار: تستهدف بعض صناديق أسواق المال جذب الأموال المؤسسية بحد أدنى مرتفع للاستثمار، والذي يقدر في كثير من الأحيان بنحو مليون دولار. كما تهدف إلى الحفاظ على صافي قيمة الأصول (NAV) بقيمة 1 دولار لكل سهم، ويتم توزيع أي أرباح زائدة يتم الحصول عليها من خلال الفوائد على حيازات المحفظة على المستثمرين في شكل مدفوعات أرباح، مما يوفر للمستثمرين تدفقًا منتظمًا للدخل، كما يسمح بسهولة تتبع صافي المكاسب التي يولدها الصندوق.أضف إلى ذلك إتاحة الصندوقللمستثمرين إمكانية شراء أو استرداد أسهم صناديق سوق المال من خلال شركات صناديق الاستثمار وشركات الوساطة والبنوك.

4- خضوع صناديق أسواق المال إلى لجنة الأوراق المالية والبورصات: تخضع صناديق أسواق المال في الولايات المتحدة لسلطة لجنة الأوراق المالية والبورصات، وتحدد هذه الهيئة التنظيمية المبادئ التوجيهية اللازمة لخصائص ونضج وتنوع الاستثمارات المسموح بها في صندوق سوق المال. وبموجب الأحكام، يستثمر صندوق سوق المال بشكل أساسي في أدوات الدين ذات التصنيف الأعلى، والتي يجب أن يكون لها فترة استحقاق أقل من 13 شهراً.

كما يجب أن تحافظ محفظة صناديق سوق المال على متوسط فترة استحقاق متوسط مرجح (WAM) يبلغ 60 يومًا أو أقل. وهو ما يعني ألا يقل متوسط فترة الاستحقاق لجميع الأدوات المستثمرة – التي يتم أخذها بما يتناسب مع أوزانها في محفظة الصندوق – عن 60 يوماً. ويتم تحديد أجل الاستحقاق لضمان كون الأدوات عالية السيولة فقط مؤهلة للاستثمارات، وأن أموال المستثمر ليست محصورة في أدوات طويلة الأجل من شأنها أن تُحدث عجز في السيولة.

دوافع قوية

ثمة أسباب جوهرية شكلت الدافع الذي حرك المستثمرين نحو سحب أموالهم من الودائع المصرفية الأمريكية، واللجوء إلى صناديق أسواق المال في أعقاب انهيار بنكي سيليكون فالي وبنك سيجنتشر، وهو ما يمكن تناول أبرزه فيما يأتي:

1- قدرة عالية على تجنب المخاطر: لا يُسمح لصندوق سوق المال باستثمار أكثر من 5% في أي مصدر واحد من أجل تجنب المخاطر الخاصة بالمصدر، وهو ما يمنحه قدر عالي من الأمان وتجنب المخاطر؛ حيث إنه من شأن ذلك أن يقلل من نسب وفرص الخسارة. أضف إلى ذلك، فرض اللوائح الفيدرالية على صناديق سوق المال الاستثمار فحسب في استثمارات قصيرة الأجل وذات مخاطر منخفضة، مما يجعلها أقل عرضة لتقلبات السوق في العديد من أنواع الاستثمارات الأخرى.

2- المزايا الضريبية المحتملة: تبدو صناديق أسواق المال جذابة للمستثمرين لأنها لا تأتي بأحمال وأعباء إضافية – أي لا توجد رسوم دخول أو رسوم خروج من تلك الصناديق، فيما تزود العديد من صناديق أسواق المال المستثمرين بمكاسب ضريبية من خلال الاستثمار في الأوراق المالية البلدية المعفاة من الضرائب على مستوى الضرائب الفيدرالية، وفي بعض الحالات على مستوى الولاية أيضاً، مما يجعل من الاستثمار في تلك الصناديق مصدراً محتملاً للدخل المستقر والفعال من الناحية الضريبية.

3- توفير ملاذ آمن للمستثمرين: تعتبر صناديق أسواق المال من بين أكثر الاستثمارات أمانًا؛ حيث تبلغ القيمة المستهدفة 1 دولار لكل سهم، ورغم تعرض صناديق أسواق المال لبعض المشكلات والتراجع إلى ما دون هذه القيمة “كسر العوائد” في عدد قليل من المناسبات المرتبطة بالأزمات المالية، إلا أنها سرعان ما انتعشت. إذ يمثل الغرض الأساسي من صندوق سوق المال توفير وسيلة آمنة للمستثمرين للاستثمار في أصول آمنة وعالية السيولة، ومعادلة نقدية، قائمة على الديون باستخدام مبالغ استثمار أصغر، في مجال الاستثمارات الشبيهة بالصناديق المشتركة، وهو ما يجعل من صناديق أسواق المال استثمار منخفض المخاطر.

ويذكر في هذا السياق، أن العديد من المستثمرين يفضلون وضع مبالغ نقدية كبيرة في مثل هذه الصناديق على المدى القصير، غير أن صناديق سوق المال ليست مناسبة لأهداف الاستثمار طويلة الأجل، مثل التخطيط للتقاعد.

4- تقديم محفظة متنوعة تدار باحتراف: أصبحت صناديق أسواق المال إحدى الركائز الأساسية لأسواق رأس المال الحالية في الولايات المتحدة، بالنسبة للمستثمرين؛ حيث تقدم تلك الصناديق محفظة متنوعة تدار باحتراف مع سيولة يومية عالية. ومن ثم، يستخدم العديد من المستثمرين صناديق أسواق المال كمكان لحفظ أموالهم حتى يتخذوا قرار ضخها في استثمارات أخرى أو للاستفادة منها لاحقًا لاحتياجات التمويل التي قد تنشأ على المدى القصير.

5- مخاوف من تباطؤ النشاط الاقتصادي: ساهم بشكل كبير في تحول المستثمرين إلى صناديق أسواق المال العالمية، المخاوف المتنامية بشأن تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي وتراجع أرباح الشركات الأمريكية الفصلية؛ حيث اشترى المستثمرون صافي 42.68 مليار دولار في الأسبوع قبل الأخير من شهر إبريل 2023 والمنتهي في 26 أبريل، وفقًا لـ Refinitiv Lipper. وبذلك تكون قد حققت صناديق أسواق المال الأمريكية والأوروبية خلال ذلك الأسبوع صافي تدفقات داخلية بلغت 47.72 مليار دولار و1.89 مليار دولار على التوالي، وهي تدفقات مدفوعة من قبل المستثمرين الذين يبحثون عن الصناديق الآمنة نسبياً وسط مخاوف من ركود محتمل ومخاوف بشأن سلامة الودائع المصرفية غير المؤمنة بعد فشل اثنين من المقرضين الإقليميين.

مخاطر قائمة

رغم المزايا التي تتمتع بها صناديق الأسواق المالية، والتي ازدادت وجاهة في أعقاب الأزمة المصرفية الأخيرة، بشكل ربما يحفز العديد من المستثمرين حول العالم للاستفادة من الاستثمار في ذلك النوع من الصناديق في بلدان مختلفة، اعتقادًا منهم بأن صناديق أسواق المال تشكل ملاذ آمن في الوقت الراهن بصورة مطلقة، غير أنه من الأهمية بمكان التنويه على أن ثمة مخاطر تنطوي عليها الاستثمار في صناديق الأسواق المالية، ومن بينها مخاطر الائتمان؛ فعلى عكس شهادات الإيداع المصرفية النموذجية (CD) أو حسابات التوفير، فإن الصناديق المشتركة في سوق المال غير مؤمنة من قبل مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية (FDIC)؛ وعلى الرغم من أن الصناديق المشتركة في أسواق المال تستثمر في أوراق مالية عالية الجودة وتسعى للحفاظ على قيمة استثمارات عملائها، إلا أنه يظل هناك مخاطرة قد تتسبب في خسارة المال.

أضف إلى ذلك مخاطر التضخم، إذ نظرًا للأمان والطبيعة قصيرة الأجل للاستثمارات الأساسية، تميل عائدات الصناديق المشتركة في أسواق المال إلى أن تكون أقل من تلك الخاصة بالاستثمارات الأكثر تقلبًا مثل صناديق الاستثمار المشتركة في الأسهم والسندات، مما يؤدي إلى خطر عدم مواكبة معدل العائد مع التضخم.

لا يقتصر الأمر عند ذلك فحسب، بل يمكن للكيانات الموجودة في البلدان الأجنبية أن تتأثر بالتطورات السياسية أو التنظيمية أو السوقية أو الاقتصادية السلبية في صناديق أسواق المال في الدول التي تستثمر بها. كمايمكن أن يكون للتغييرات في اللوائح الحكومية وأسعار الفائدة والركود الاقتصادي تأثير سلبي كبير على المصدرين في قطاع الخدمات المالية، بما في ذلك سعر أوراقهم المالية أو قدرتهم على الوفاء بالتزامات الدفع الخاصة بهم.

هذا وقد يفرض الصندوق رسوماً عند بيع أسهم المستثمر، أو قد يعلق مؤقتًا قدرة المستثمر على بيع الأسهم، إذا انخفضت سيولة الصندوق عن الحد الأدنى المطلوب بسبب ظروف السوق أو نتيجة عوامل أخرى، ونظرًا لأن سعر سهم الصندوق متقلب، فعند بيع المستثمر أسهمه فقد تكون قيمتها أكثر أو أقل مما قام بدفعه في الأصل.

وإجمالاً، رغم عدم خلو الاستثمار في صناديق أسواق المال من المخاطر، إلا أن حالة الرواج والإقبال التاريخي على صناديق أسواق المال الأمريكية ناجمة بالأساس من ظروف استثنائية وأزمة مصرفية أفقدت المستثمرين الثقة في البنوك الإقليمية، ومن المرجح في ظل امتداد الأزمة المصرفية، على خلفية إعلان مصرف جي بي مورغان عن استعداده للاستحواذ على بنك فيرست ريبابليك في 2 مايو 2023، بعد إخفاق كافة مساعي إنقاذ البنك المتعثر، في أعقاب وضع السلطات المالية الأمريكية سيطرتها عليه، أن يزيد من حالة عدم اليقين وعدم الثقة لدى المستثمرين، خاصة وأن التوقعات تتجه حالياً بأن يستمر اتجاه إفلاس مزيد من البنوك الأمريكية خلال الفترة المقبلة، بما يرجح مزيد من التألق والإقبال لصالح صناديق أسواق المال الأمريكية على المديين القريب والمتوسط.