وصلت الأمور بين الصين وكندا إلى درجة تبادل طرد الدبلوماسيين، حيث أقدمت كندا على ما سبق أن حذرت منه الصين، وقامت بإعلان أحد الدبلوماسيين الصينيين لديها كشخص غير مرغوب فيه، على خلفية اتهامه بالتدخل في الشئون الداخلية الكندية. ومن ثم ردت الصين بإعلان الأمر نفسه بخصوص دبلوماسية كندية.
ما الذي أوصل الأمور إلى ذلك؟، وكيف ستتطور لاحقاً؟ يمكن الحديث عن شريحتين من الأسباب أولها مباشرة وثانيها هيكلية وراء التوتر الذي طال علاقات البلدين. والشريحة الثانية من الأسباب تقدم تفسيراً لذلك التوتر المتصاعد بما في ذلك الموجة الأخيرة منه، حيث كانت هناك جولات توتر سابقة، وربما تكون هناك جولات لاحقة طالما لم تعالج هذه الأسباب الهيكلية الضاغطة على علاقات البلدين.
أسباب مباشرة
ظل الجدل الداخلي في كندا يتصاعد حول ما يقوم به بعض الدبلوماسيين الصينيين في كندا إلى أن وصل ذروته في الأيام القليلة الماضية، حيث وجهت أصابع الاتهام مباشرة من قبل أحد النواب الكنديين بأنه تعرض لـ"ترهيب" من قبل أحد الدبلوماسيين وأن بعض أقاربه في هونج كونج قد تعرضوا لمضايقات بسبب ما يوجهه من انتقادات داخل البرلمان الكندي للصين، بما في ذلك ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان. وكانت هناك اتهامات داخلية للحكومة الكندية بالتغاضي عن معاقبة الصين على ما يقوم به دبلوماسيوها. لكن الحكومة الكندية كانت تقول إن الأمر موضع دراسة. وقد انتهت بعد دراسة متأنية لجميع أبعاد الموضوع ذات التأثير كما ذكر البيان الرسمي الكندي الخاص بإعلان الدبلوماسي زاو وي شخصاً غير مرغوب فيه ومطالبته بمغادرة البلاد.
إذن، فالسبب المباشر من قبل السلطات الكندية هو المحافظة على سيادتها، ومعاقبة من تطاول على هذه السيادة، وحاول المساس بديمقراطيتها على خلاف ما تقتضيه مهام وظيفته من ناحية، واحترام القواعد القانونية المنظمة للعلاقات فيما بين الدول من ناحية أخرى، وأنها سبق وحذرت الدبلوماسيين من القيام بمثل هذه الأفعال.
على الجانب الآخر، فإن الصين قامت بطرد جينفير لين لولاند قنصل القنصلية العامة الكندية في شنغهاي، رداً على التصرف الكندي حيال الدبلوماسي الصيني انطلاقاً من مبدأ المعاملة بالمثل، خاصة وأن كندا لم تستمع للتحذيرات الصينية من مغبة مثل هذه الخطوة، التي اعتبرتها مخالفة لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، كما أنها حملت كندا مسئولية تداعيات ما حدث، مع تأكيدها في ذات الوقت أنها من حيث المبدأ لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى بما في ذلك كندا بطبيعة الحال، وأن مزاعم كندا على هذا الصعيد لا أساس لها، وأن دوافعها سياسية وأيديولوجية تهدف إلى تشويه سمعة الصين والتشهير بها، وأن القرار الكندي يعد "ضربة متعمدة" للعلاقات بين البلدين.
القراءة العابرة لما حدث تقول إن المسألة تأتي في إطار الفعل ورد الفعل، وأن هذا أمر معتاد في العلاقات الدولية، ففي حال قيام إحدى الدول على طرد دبلوماسيي دولة ثانية تقوم تلك الدولة بالرد بالمثل. لكن الوصول إلى هذه المرحلة قد يكون مرتبطاً بقضية واحدة ما أن تسوى تعود الأمور إلى طبيعتها. أما أن يكون ذلك في سياق يحمل عوامل معقدة ومستمرة لفترة طويلة نسبياً فإنه ليس هناك ثمة ضمانة لأن تذهب الأمور إلى منحى تصعيدي أبعد. وفي الحالة موضع الاهتمام هنا ما هي تلك العوامل؟ وهل بالإمكان تفكيكها أو حتى التقليل من تأثيرها أم أنها ستستمر في الضغط على العلاقات بين البلدين؟
أسباب هيكلية
هناك ما هو رئيسي وما هو فرعي في تلك النوعية من الأسباب. فالأسباب الهيكلية الفرعية تفرعت في مجملها عن عاملين رئيسسين يمكن تلخيصهما في القناعات الكندية التي تكونت عبر سنوات فيما يتعلق بنظرتها للصين من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية النهج الصيني في التعامل مع تلك القناعات.
القناعات الكندية لم تتكون بين عشية وضحاها، وهي غير منبتة الصلة بطبيعة علاقات كندا بالولايات المتحدة، وعضويتها في تحالفات عسكرية وشراكات سياسية واقتصادية تجمعهما. ومن ذلك حلف شمال الأطلنطي، ومجموعة السبع الصناعية، واتفاق حرية التجارة في أمريكا الشمالية.
هذه القناعات لخصتها الاستراتيجية الكندية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي التي صدرت في شهر نوفمبر من العام الماضي (2022). فعند الحديث عن الصين ذكرت الاستراتيجية الكندية عناصر من بينها سعي الصين لامتلاك القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية بما يمكنها من عدم الالتزام بالقواعد التي استفادت منها. ويبدو هذا الطرح متوافق تماماً مع ما تذهب إليه الولايات المتحدة من أن الصين تهدد النظام الدولي القائم على القواعد.
العنصر الثاني يتمثل في ممارسة الصين لما تسميه كندا الدبلوماسية القسرية والتي تأتي رفقة عدم احترام قواعد السوق، إلى جانب سياسة الصين في بحر الصين الجنوبي وممارساتها التجارية. وكذلك ما تقوم به على صعيد الإقراض غير المنصاع للقواعد الدولية كما ترى الوثيقة الكندية. ومرة أخرى وكأن كندا تتحدث عما تسميه واشنطن بفخ الديون الصينية.
وعلى صعيد الداخل الصيني، فإن الوثيقة الكندية ذكرت مسائل حقوق الإنسان فيما يتعلق باليوجور في سينكيانج تحديداً، وأعمال السخرة التي يقومون بها. ولقد كان لكندا قرارات خاصة بمثل هذه القضايا، ناهيك عن مشاركتها في المحافل الدولية تنديداً بسجل الصين على صعيد حقوق الإنسان.
ودون مواربة، تعتبر كندا السلوك الصيني مهدداً لمصالحها، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي للتصدي للممارسات الصينية المخالفة للقواعد الدولية، وأنها سوف تقوم بإجراءات أحادية محلية فضلاً عن تعاونها مع شركائها الإقليميين والعالميين على هذا الصعيد، دون أن يعني ذلك عدم التعاون مع الصين في التحديات العالمية مثل التغيرات المناخية على أن يكون في ذلك تنازلاً عما أسمته بالأولويات الكندية.
وقد ركزت كندا على مسألة التصدي لمحاولات التدخل في شئونها الداخلية وحماية شركاتها وأمنها السيبراني وغيرها من المسائل ذات الصلة بممارسات الصين، بما في ذلك حديث عن مراجعة للاتفاقيات ومذكرات التفاهم المبرمة بين البلدين.
مما يلفت النظر عند حديث كندا عن التعاون مع الشركاء ذهابها مباشرة إلى القول بالتصدي لمحاولة تغيير الوضع القائم في مضيق تايوان وبحري الصين الجنوبي والشرقي أيضاً. وعلى الصعيد العالمي متعدد الأطراف، فالتصدي للسلوك الصيني "غير الملتزم بالقواعد" يمثل التزاماً كندياً. كما أن كندا تقول صراحة إنها تفرق بين الحكومة الصينية التي لديها خلافات معها والشعب الصيني، وتعترف بمساهمات الكنديين من أصل صيني في المجتمع الكندي.
في سياق هذه القناعات الكندية، يمكن فهم الكثير من الإجراءات الكندية حيال الصين بما فيها الإجراء الأخير المتعلق بطرد الدبلوماسي الصيني، فهو على صلة بقضية التدخل في الشئون الداخلية، وهي القضية التي قد يفتح فيها تحقيقاً بعدما ينتهي المقرر الخاص الذي تم تعيينه لتقديم توصيات خاصة بحماية الديمقراطية الكندية من التدخلات الخارجية. وهناك اتهامات مباشرة وصريحة للصين بمحاولة التأثير في نتائج انتخابات العامين 2019 و2021. كما يمكن تفسير طول مدة احتجاز مسئولة شركة هواوي لدى كندا رغم كل الاحتجاجات والضغوط الصينية للإفراج عنها. فضلاً أن ما قيل عن إنه حديث عابر بين الرئيس الصيني شي جين بينج ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على هامش قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا يندرج في ذلك السياق، خاصة وأن مضمون ذلك الحوار دار حول لوم الرئيس الصيني لرئيس الوزراء الكندي حول تسريب مضمون ما دار بينهما من مباحثات، وكان الرد الكندي أن الحوار الحر والمفتوح والصريح مسألة أساسية، مع التأكيد على أن هناك أموراً لن يتم الاتفاق بشأنها مع الصين دون أن ينفي ذلك الحاجة إلى العمل البناء. ويبدو أن هذا الأخير هو ما قصد به الرئيس الصيني جملته القائلة "ينبغي تهيئة الظروف أولاً".
بالنسبة للنهج الصيني في التعامل مع القناعات الكندية، فقد أجملته الصين في ردها على الاستراتيجية الكندية المشار إليها أيضاً. ومن ثم جاء مفصلاً في قضايا ومواقف كثيرة. فعلى صعيد ردها المباشر على ما تضمنته استراتيجية كندا للمحيطين الهندي والهادي بخصوصها قالتها بكين صريحة بأن تلك الاستراتيجية متخمة بالتحيز الأيديولوجي ضدها، وتوجه لها اتهامات لا أساس لها، ومن ثم فإنها تشوه سمعة الصين، وتضلل الرأي العام، مع التأكيد على أن الصين كما لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، فإنها لا تسمح لتلك الدول بالتدخل في شئونها. ومن تلك الشئون الداخلية قضايا تايوان والتبت وسينكيانج وهونج كونج وغيرها. كما أنها الأحرص على الالتزام بالقواعد الدولية، وأن تنميتها فيها إفادة للعالم كله، مع التأكيد على أنها لا تسعى إلى الهيمنة، وأن العالم كله يعرف من الذي يسعى إلى الهيمنة ويتصرف بعقلية الحرب الباردة.
ويلاحظ من الرد المبدئي الصيني على الموقف الأخير قبل أن تصل الأمور إلى طرد دبلوماسيها متسق تماماً مع تلك الرؤية في الرد على الوثيقة الكندية، حيث لخصت الخارجية الصينية الأمر على أنه يندرج في باب تشويه البعثة الدبلوماسية الصينية التي تقوم بعملها وفق القواعد والأصول، وأن قصة استهداف المشرع الكندي من قبل الدبلوماسي الصيني ملفقة ونابعة من التحيز الأيديولوجي، وأن العقوبات التي فرضتها الصين على المشرع الكندي المذكور في شهر مارس من العام 2021 كانت رداً على عقوبات كندية ضد مؤسسات صينية بناءً على ما اعتبرته "أكاذيب" كندية فيما يتعلق بمنطقة سينكيانج. أي أن كندا هي التي استفزت الصين وجارت على مصالحها، ومن ثم كان لابد من رد الفعل الذي قامت به. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العقوبات الصينية كانت قد طالت مشرعين أمريكيين لذات السبب.
وفي ذات السياق، ظلت الصين تؤكد على أن احتجاز منج وان تشو مسئولة شركة هواوي التي طالت في كندا يعد اضطهاداً سياسياً لمواطنة صينية، وأن الهدف هو ترهيب الشركات الصينية، وأن كندا قد قبلت القيام بهذا العمل الذي وصفته بغير القانوني و"القذر" نيابة عن الولايات المتحدة. وقد تبادل الطرفان الاتهامات بخصوص استخدام ما أسمياه الدبلوماسية القسرية على خلفية اعتقال المسئولة الصينية المشار إليها واعتقال الصين لمواطنين كنديين.
النهج الصيني لا يترك شاردة ولا واردة في التعامل مع ما يراه تهديداً لمصالحه وأمنه القومي وسيادته سواء جاء من كندا أو من غيرها. وتكفي هنا الإشارة إلى مسألتي تايوان، والوجود العسكري الكندي في المنطقة. بالنسبة لتايوان معروف الموقف الصيني القاضي بضرورة الالتزام الحقيقي وليس الشكلي بمبدأ الصين الواحدة. ومن ثم فإنها تعارض زيارات بعض المشرعين الكنديين لتايوان، ولا تهضم أبداً الحديث الكندي عن معارضة تغيير الوضع القائم في مضيق تايوان، وتنسيقها مع شركائها في هذا السياق. وقد كان وزير الخارجية الصيني السابق وانج يي واضحاً في حديثه لوزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي في أبريل 2022 من أن علاقات البلدين ستعاني أضراراً جوهرية في حال لم يتم التعامل مع المسألة بالشكل الصحيح. وأما بخصوص الوجود العسكري الكندي، فقد احتجت الصين على تحليق الطائرات الكندية بالقرب من مجالها الجوي بحجة العمل على تنفيذ قرارات مجلس الأمن بخصوص كوريا الشمالية، وحذرتها من أن ردها على ما اعتبرته استفزازاً لن يختلف عن ردها عن الاستفزازت الأمريكية المشابهة.
من الواضج أن ما حدث مؤخراً على صعيد العلاقات الصينية - الكندية هو عرض لمجموعة من الأمراض التي أصابت تلك العلاقات فأوهنتها في جوانب كثيرة ولفترات ليست بالقصيرة. لكن هل ستتصاعد الأمور أكثر من ذلك بخصوص قضية التدخل في الشئون الداخلية والتي كانت السبب المباشر لما حدث. يتوقف ذلك على عوامل من بينها إلى أي مدى سيكون هناك ضبط للنفس من أن لا تدخل الدولتان في متوالية الإجراءات والإجراءات المضادة، حيث أن مسألة الطرد المتبادل للدبلوماسيين من البعثتين القنصليتين يمكن استيعابه والوقوف عنده. أما إذا حدثت تطورات تصعيدية أخرى فلا شك أن دائرة الخلافات يمكن أن تتسع. ومع ذلك تبقى المسألة مرتبطة بكيفية إدارة الخلافات لجعل تأثيراتها في الحد الأدنى.
بعيداً عن إسداء النصائح لهذه الدولة أو تلك، فإن شقة الخلاف بين الصين وبعض الدول من ناحية والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى آخذة في الاتساع. والرؤى المطروحة شديدة التباين في قضايا شديدة الحساسية. كما أن الإجراءات والإجراءات المضادة باتت تنحو بعيداً عن مقاربات ظن البعض أنها الحاكمة لعلاقات تلك الدول على مدار سنوات مثل الاعتماد المتبادل، وقواعد منظمة التجارة العالمية، وحرية الاستثمار، وغيرها الكثير بشكل بات مقلقاً ليس فقط من ناحية إمكانية انزلاق الأمور إلى مواجهات مباشرة أو غير مباشرة بين تلك القوى أو بعضها، وإنما من ناحية تداعياتها على مختلف مناطق العالم. وها هي الحرب في أوكرانيا تقدم الدليل على ذلك.