• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39

لجأ ترامب إلى أسلوب "الأرض المحروقة" ومبدأ "لا تُظهر أي رحمة" في تعامله مع منافسيه وخصومه الكثر، الحقيقيين والمتخيلين.

دخل الرئيس السابق دونالد ترامب، للمرة الأولى منذ 2020 إلى منازل ملايين الأميركيين مساء الأربعاء، وتصرف وكأنه تسونامي جامح، لم يتعلم أي شيء، ولم ينس أي شيء منذ مغادرته البيت الأبيض. حدث ذلك حين وفرت له شبكة التلفزيون سي إن إن، أول منبر اعلامي خارج عالم وسائل الإعلام المحافظة واليمينية، عبر حوار بثته حياً، أجرته معه الإعلامية كاتلين كولنز (Kaitlan Collins) في “لقاء مفتوح” مع مجموعة من الناخبين الجمهوريين، وبعض المستقلين في ولاية نيوهامبشير، التي تشهد أول انتخابات تمهيدية في السباق إلى البيت الأبيض في 2024.

وكعادته، لجأ ترامب إلى أسلوب “الأرض المحروقة” ومبدأ “لا تظهر أي رحمة” في تعامله مع منافسيه وخصومه الكثر الحقيقيين والمتخيلين، وأطلق سهامه السامة في كل الاتجاهات، بما في ذلك وصف كولينز التي حاورته ”بالمقرفة”، لأنها أصرت أن يجيب على سؤال حول الوثائق السرية التي استولى عليها. الصدمة لم تكن الإهانة التي وجهها ترامب، وهو المعروف بإطلاق هذه الاهانة ضد النساء بالتحديد، بل كانت في الرد الصاخب والإيجابي للجمهور، الذي أثنى على إهانة إعلامية كانت تقوم بواجبها المهني بموضوعية. وتصرف ترامب وكأنه يواجه عالما يتآمر ضده، وبدلًا من أن يتصرف كمرشح رئاسي يريد توسيع قاعدته الانتخابية من خلال معالجة تلك القضايا الحساسة التي تهم الناخبين، وخاصة تلك الشريحة الهامة من الناخبين التي تحسم تقليديًا الانتخابات، أي المستقلين، بدا ترامب وكأنه يخاطب فقط أنصاره المتشددين الذين يحتاجهم للفوز بترشيح الحزب الجمهوري.

جاء اللقاء مع ترامب بعد يوم واحد من قرار هيئة محلفين في مدينة نيويورك بإدانته بالاعتداء جنسيًا على الصحفية السابقة إي. جين كارول (E. Jean Carroll) في تسعينات القرن الماضي، وتشويه سمعتها، وتغريمه تعويض لها قيمته خمسة ملايين دولار. وتعقيبًا على هذا الحكم الذي صدر ضده في نيويورك، وصنفه معتد جنسيًا، سخر ترامب من ضحيته إي. جين كارول على وقع ضحك الجمهور المتعاطف معه، قائلا: ”ليس لدي فكرة من هي هذه المرأة، هذه قصة ملفقة، وهي متخلفة عقليا”.

وهكذا أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة تصنفه محكمة مدنية كمعتد جنسي، إضافة إلى محاكمته مرتين من قبل مجلس النواب. ويواجه ترامب تهم قضائية مختلفة تتراوح بين التحريض على اجتياح مبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني 2021، لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية، ومحاولة تغيير نتائج انتخابات ولاية جورجيا، إضافة إلى حيازة وثائق رسمية “سرية للغاية” بشكل مخالف للقانون. وكرر ترامب القول إنه لم يعد في حوذته أي وثائق حكومية سرية. كما كرر ترامب ادعاءاته بأن الرئيس الأسبق باراك أوباما استولى على وثائق سرية، ولم يعيدها إلى قسم الأرشيف الحكومي الرسمي، وهي ادعاءات باطلة كما أكد المسؤولون عن الأرشيف.

وخلال تسعين دقيقة، رفض ترامب التراجع عن ادعائه بأن انتخابات 2020 كانت مزورة، وأثنى على المتطرفين والعنصريين الذين اقتحموا مبنى الكابيتول، والذين صدرت بحق بعض قادتهم أحكام بالسجن بتهم التحريض على الفتنة، لا بل قال إنه في حال إعادة انتخابه فإنه سيعفو عن معظمهم، ووصف بأنهم “فخورون، وقلوبهم مليئة بالحب، كان ذلك يومًا جميلًا”. جدير بالذكر أنه قُتل في هذا اليوم أربعة أميركيين، ولحقهم ثلاثة أفراد من الشرطة في الأيام التالية إما متأثرين بجراحهم أو انتحارًا. كما أصيب خلال الهجوم حوالي 160 شرطيًا. كما جدد ترامب أكاذيبه حول تزوير الانتخابات، وهي ادعاءات وأكاذيب رفضتها أكثر من ستين محكمة قبل نهاية ولايته.

ودافع ترامب عن قراره خلال ولايته بفصل المهاجرين غير الموثقين واللاجئين، الذين عبروا الحدود الجنوبية للبلاد، عن أطفالهم، وألمح إلى أنه سيواصل هذه السياسة لأنها تضمن عدم عبور المهاجرين واللاجئين للحدود.

وتحدث ترامب باستخفاف عن احتمال تخلف الولايات المتحدة، للمرة الأولى في تاريخها، عن تسديد قروضها، إذا أخفق الرئيس بايدن ورئيس مجلس النواب الجمهوري كيفين ماكارثي في التوصل إلى اتفاق حول رفع سقف المديونية، مع ما سيعنيه ذلك من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ونصح الجمهوريين بتفادي أي تسوية مع بايدن.

وكرر ترامب ادعائه المعروف بأنه لو كان رئيسًا لما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وصفه بالقائد الذكي، بغزو أوكرانيا، وتفادى الإجابة على سؤال حول تسليح أوكرانيا، ولكنه اتهم أوروبا بأنها لا تساهم بما فيه الكفاية في تمويل حلف الناتو، ورفض وصف بوتين بـ “مجرم حرب” لأن ذلك سوف يؤثر سلبًا في المستقبل على وقف القتال، الذي ادعى أنه في حال انتخابه سيوقفه خلال 24 ساعة.

وقبل انتهاء اللقاء، غرّد الرئيس بايدن على شبكة تويتر “أيها الناس، هذه مسألة بسيطة. هل تريدون العودة إلى أربع سنوات من هذا” [الأداء].

وعلى الرغم من أن الجمهور الذي حضر اللقاء كان متحمسًا لترامب، كما أن أسلوبه الصدامي سوف يحظى بموافقة قاعدته الوفية له، ويساعده ربما في الفوز بترشيح الحزب لمنصب الرئاسة، ولكن من المستبعد أن يحظى هذا الأسلوب بموافقة الناخبين المستقلين، أو حتى بقايا الناخبين الجمهوريين المعتدلين في الانتخابات العامة. في الانتخابات النصفية، خسر عدد هام من المرشحين الجمهوريين، الذي تبنوا مواقف وادعاءات ترامب حول تزوير الانتخابات، ومن المتوقع أن يواجه ترامب والمرشحين لمقاعد مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات المقبلة شكوكًا عميقة من الناخبين المستقلين في الولايات المحورية، أو التي تسمى “ساحات المعارك” وهي الولايات التي ستحسم الانتخابات.

على الرغم من التحديات القانونية الخطيرة التي يواجهها الرئيس السابق ترامب، إلا أنه لا يزال الشخصية الجمهورية الأكثر نفوذًا في الحزب، وهي حقيقة سياسية تؤكدها معظم استطلاعات الرأي، وكان آخرها استطلاع لصحيفة واشنطن بوست وشبكة التلفزيون أي بي سي أن 43 بالمئة من الناخبين الجمهوريين والمستقلين الذين يميلون إلى الجمهوريين اختاروا ترامب كمرشحهم في الانتخابات المقبلة، بينما اختار 20 بالمئة منهم منافسه المحتمل رون ديسانتس (Ron DeSantis) حاكم ولاية فلوريدا.

وللتدليل على أن ترامب، حتى بعد أن صنفته محكمة مدنية في نيويورك كمتحرش ومعتد جنسي، لا يزال يتمتع بمناعة ضد هجمات وانتقادات الشخصيات الجمهورية الرئيسية في البلاد. معظم المرشحين الجمهوريين أو المتوقع أن يرشحوا أنفسهم للرئاسة تفادوا التعليق على الحكم القضائي ضد ترامب، باستثناء آيسا هاتشينسون (Asa Hutchinson)، الحاكم السابق لولاية أركنساس، الذي قال أن الحكم يؤكد احتقار ترامب المعروف للمرأة. قال السناتور الجمهوري مت رومني (Mitt Romney)، الذي صوت لإقالة ترامب في مجلس الشيوخ، إنه يأمل أن “يصدر عن هيئة محلفي الشعب الأميركي (الناخبين) حكمًا مماثلا” لهيئة المحلفين في نيويورك. السناتور الجمهوري جون كورنين (John Cornyn)، قال إن حكم هيئة المحلفين يبين أن “ترامب لا يمكن أن ينتخب رئيسًا” وأنه لا يستطيع أن يحقق ذلك بالاعتماد فقط على قاعدته.  ووصف كريس كريستي (Chris Christie)، الحاكم السابق لولاية نيوجيرسي، الذي أيد ترامب في حملته السابقة، نفي ترامب معرفته بضحيته بأنه “سخيف”.

ولكن هذه الأصوات لا تزال محدودة، وربما تصل إلى أبرز قادة الحزب في الكونغرس، كما أن المرشحين الجمهوريين لمنصب الرئاسة يخشون من أن يؤدي أي انتقاد مباشر لترامب إلى اغضاب قاعدته الانتخابية، والتي يأمل كل مرشح أن يرثها من ترامب.

عودة ترامب الجامحة، خلقت مشاعر احباط ملموسة في أوساط العديد من الناخبين، لأنها تعني من جملة ما تعنيه، مواجهة جديدة بين ترامب والرئيس بايدن، حيث لا يحظى أي من الرئيسين بدعم كبير خارج القاعدة الضيقة لكل حزب، وهذا ما تؤكده معظم استطلاعات الرأي. وهناك شريحة هامة من الناخبين الذين يقولون أنهم سيصوتون لبايدن أو لترامب، ثم يضيفون أنهم سيفعلون ذلك بتردد بسبب تحفظاتهم إما بسبب تقدمهما في السنّ، أو لأنهما لا يمثلان المستقبل، أو لأنهم يريدون أن تتخطى البلاد الأجواء السياسية السامة التي تهيمن عليها منذ أكثر من ستة سنوات. وتأتي هذه التطورات الأخيرة: ترشح الرئيس بايدن لولاية ثانية، وبقاء ترامب في طليعة المرشحين الجمهوريين، وقرار هيئة المحلفين في نيويورك ضد ترامب، على خلفية مزاج اجتماعي وسياسي عام يتميز بإحباط شعبي واسع بسبب الانقسامات العميقة في البلاد، والارتفاع المذهل في عدد جرائم القتل الجماعي، التي وصلت الى مئتي جريمة من هذا النوع في السنة الجارية (يتم تعريف حادث القتل الجماعي إذا أدى إلى مقتل ثلاثة أفراد أو أكثر)، وتفاقم أزمة الهجرة واللاجئين على الحدود الأميركية-المكسيكية مع عجز الطبقة السياسية عن حلها، ومعدلات التضخم العالية التي تقضم رواتبهم باستمرار، والشعور العام بأن البلاد تسير على الطريق الخاطئ.

ازدياد عدد جرائم القتل الجماعي، أثارت من جديد اشكالية وسهولة اقتناء الأسلحة النارية، بما فيها البنادق شبه الآلية، والتي أصبحت السلاح الفتاك المفضل لمعظم مرتكبي هذه الجرائم. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي تؤكد وجود غالبية من الأميركيين تؤيد فرض قيود على اقتناء هذه الأسلحة، مثل منع أي شخص أقل من 21 سنة من اقتناء بندقية شبه آلية، أو اجراء تحقيقات أفضل في خلفية أي شخص يرغب باقتناء الأسلحة النارية، وخاصة إذا كان يعاني من مشاكل نفسية، إلا أن هناك معارضة شرسة لمثل هذه القيود. هذه الحوادث التي طالت في السنوات الأخيرة المدارس والمستشفيات، المصارف والمطاعم، المعابد الدينية المختلفة، والمحلات التجارية وغيرها، جعلت الأميركيين يشعرون أن الطبقة السياسية في البلاد إما عاجزة أو غير قادرة على حمايتهم، أو حتى غير مبالية بأمنهم الشخصي وأمن أفراد عائلاتهم. هذا الخطر الحقيقي الذي تعاني منه الولايات المتحدة، أكثر من أي مجتمع ديموقراطي آخر، بسبب شيوع الأسلحة النارية، جعل الولايات المتحدة بلدًا لم يعد فيه مكان يتمتع بحرمة، أو مكان آمن أو ملجأ.

هذا هو المناخ الاجتماعي والسياسي التي ستجري في ظله الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد سنة ونصف.