اتهم روبين بريجتي سفير واشنطن لدى جنوب أفريقيا، في 11 مايو 2023، حكومة بريتوريا بتزويد روسيا بالأسلحة في خضم حربها المستمرة مع أوكرانيا. وبالرغم من إعلان وزارة خارجية جنوب أفريقيا فيما بعد أن السفير الأمريكي اعتذر عن تصريحاته، فإن هذه التصريحات استدعت معها تعقيدات التفاعل الجنوب أفريقي مع تطورات الصراع الأوكراني؛ فثمة انزعاج أمريكي من التقارب بين موسكو وبريتوريا، الذي تجلت مؤشراته خلال الفترة الأخيرة، وهذا الانزعاج يدفع واشنطن إلى ممارسة المزيد من الضغوط على نظام الرئيس سيريل رامافوزا بهدف تغيير موقفه المحايد تجاه الصراع الراهن منذ اندلاعه في فبراير 2022، وهو ما يعزز حالة الجدل حول سياسة دولة جنوب أفريقيا تجاه الصراع الأوكراني خلال الفترة الراهنة، وما يرتبط بها من تداعيات قد تؤثر على العلاقات مع الغرب مستقبلاً.
مؤشرات جديدة
طرأت بعض المستجدات على موقف جنوب أفريقيا من الأزمة الروسية الأوكرانية، وهي المستجدات التي يعتبرها الغرب بمنزلة مؤشرات واضحة على التقارب بين بريتوريا وموسكو؛ ما دفعه إلى إبداء القلق حول عدم التزام بريتوريا بسياسة الحياد التي تبنتها تجاه الصراع منذ بدايته. ويتمثل أبرز تلك المؤشرات في الآتي:
1– ادعاءات الغرب دعم بريتوريا العسكري لروسيا: فقد جرى مؤخراً ترويج مزاعم أمريكية برصد سفينة شحن تابعة للشركة الروسية Lady R – التي تعرضت لعقوبات أمريكية في مايو 2022 بسبب نقلها الأسلحة إلى موسكو – تنقل الأسلحة من قاعدة سايمنز تاون البحرية في الفترة بين 6–8 ديسمبر 2022 مروراً بميناء بيرا في موزمبيق وبورتسودان في البحر الأحمر، ووصولاً إلى ميناء نوفوروسيسك الروسي بالبحر الأسود في 16 فبراير 2023. في المقابل، استنكرت حكومة بريتوريا اتهامات السفير الأمريكي “روبين بريجتي” لجنوب أفريقيا بتزويد روسيا بالسلاح، واعتبرتها مخيِّبة للآمال، لا سيما في ضوء عدم تقديم أي دليل يدعم ادعاءاته، ومن شأنها تقويض التعاون والشراكة بين البلدين، قبل أن تعلن اعتذاره دون تحفظ، عقب استدعائه احتجاجاً على اتهاماته.
كما حاولت واشنطن تدارك الأمر باتصال هاتفي بين أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي ونظيرته ناليدي باندور، وهي الاتصال الذي أكد أهمية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، والتعاون الثنائي في عدد من المجالات، مثل الصحة والتجارة والطاقة، فيما أكد المستشار الأمني للرئيس رامافوزا، في 13 مايو 2023، التزام بلاده بسياسة الحياد في الصراع الروسي الأوكراني الراهن، وهو ما أكده أيضاً خلال زيارته إلى واشنطن في أبريل 2023. ومع ذلك، أعلن مسؤولو البلاد فتح تحقيق مستقل في هذه المسألة.
2– التقارب العسكري مع روسيا والصين: فقد أجرت جنوب أفريقيا مع روسيا والصين تدريبات بحرية مشتركة قبالة سواحلها الشرقية في المحيط الهندي في فبراير 2023، وهي التدريبات التي تزامنت مع حلول الذكرى السنوية الأولى للصراع الأوكراني؛ ما عزز حالة الترقب والقلق الدولي تجاه هذه الخطوة التي دافعت عنها بريتوريا باعتبار أن جميع الدول تجري مناورات بحرية مع أصدقائها، وهي رسالة روسية إلى الغرب أنها ليست في عزلة، ولها امتداداتها العسكرية على الصعيد الدولي. وفي صعيد آخر، وصلت طائرة عسكرية روسية إلى جنوب أفريقيا في أبريل 2023 بهدف تسليم ما وصفته السلطات الحكومية ببريد دبلوماسي.
3– التجاوب مع دعوات روسيا حول تشكيل نظام دولي جديد: إذ تتفاعل حكومة بريتوريا بشكل جيد مع المساعي الروسية حول ضرورة المضي قدماً نحو التعددية القطبية الدولية في مواجهة سيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وهو أمر تعززه العلاقات المتطورة بين روسيا وجنوب أفريقيا تحت مظلة تجمع بريكس الذي من المحتمل أن تتسع عضويته لتضم المزيد من الدول خلال الفترة المقبلة.
وذلك في الوقت الذي تتطور فيه علاقات جنوب أفريقيا مع كل من الصين وإيران، خاصة بعدما ادعى حزب التحالف الديمقراطي – وهو حزب المعارضة الرئيسي في جنوب أفريقيا – في 13 أبريل 2023 إصدار الحكومة قراراً يسمح للسفن الحربية الإيرانية بالرسو في كيب تاون، كما دافعت وزيرة الدفاع ثاندي موديس في مارس 2023 عن قرار حكومة بريتوريا توقيع مذكرة تفاهم مع شركة بلوي تكنولوجيز –وهي شركة تجارية عسكرية صينية – مبررةً ذلك بأنها شراكة سوف تعزز صناعة الدفاع في جنوب أفريقيا.
4– دعم العلاقات السياسية مع روسيا: فقد وصفت جنوب أفريقيا علاقتها مع روسيا بالصداقة؛ وذلك خلال زيارة سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي، في يناير 2023 إلى جنوب أفريقيا، وهي الزيارة الثانية له إلى البلاد منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما عزز المخاوف الأمريكية والغربية من تقارب بريتوريا مع موسكو ودعمها لتخفيف العزلة الدولية المفروضة عليها منذ بداية الصراع. وهو ما تجلى في زيارة وفد رفيع المستوى من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في أبريل 2023 إلى موسكو لإجراء محادثات مع حزب روسيا الموحدة الذي يتزعمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ بهدف مناقشة تطورات السياق الدولي والقضايا المشتركة بين البلدين.
وفي اليوم التالي لتصريحات السفير الأمريكي الأخيرة، اتفق الرئيسان رامافوزا وبوتين، خلال اتصال هاتفي بينهما، على توطيد العلاقات بين البلدين، وبحثا آفاق تسوية الصراع في أوكرانيا، بالإضافة إلى مناقشة الشراكة الاستراتيجية بينهما، والرغبة في تفعيل العلاقات في مختلف المجالات، وتأكيد أهمية استمرار التنسيق بين البلدين بخصوص الفعاليات الدولية المقبلة، لا سيما القمة الروسية الأفريقية المقرر عقدها في سان بطرسبرج في يوليو 2023، وقمة بريكس المقرر عقدها في جوهانسبرج في أغسطس 2023.
5– حظر بيع السلاح لحلفاء كييف: فقد حظرت بريتوريا في أبريل 2023 بيع الأسلحة إلى بولندا، باعتبار ذلك وسيلة لحماية مصالحها الاستراتيجية مع موسكو، وضمان عدم انتقال السلاح إلى الجانب الأوكراني في خضم الحرب المستمرة مع موسكو، وهو ما يسلط الضوء على دعم جنوب أفريقيا لموسكو، وتطور التحالف بينهما.
6– التلويح بالانسحاب من نظام المحكمة الجنائية الدولية: خاصةً بعدما أصدرت في مارس 2023 مذكرة توقيف بحق الرئيس بوتين، بما يضع جنوب أفريقيا في معضلة دبلوماسية، لا سيما أنها سوف تستضيف قمة بريكس المقرر عقدها في أغسطس 2023، ومن المقرر أن يشارك فيها بوتين؛ الأمر الذي دفع الرئيس رامافوزا للتصريح بوجوب الانسحاب من المحكمة بسبب غياب العدالة، قبل أن يتراجع عن تصريحاته بعد ساعات قليلة. ومع ذلك، ربما ترفض جنوب أفريقيا طلباً من المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس بوتين إذا زارها خلال انعقاد قمة بريكس في أغسطس 2023.
تداعيات محتملة
يحمل استمرار الموقف المحايد لجنوب أفريقيا تجاه صراع روسيا وأوكرانيا والتطورات الراهنة بشأن العلاقات بين روسيا وجنوب أفريقيا عدداً من التداعيات المحتملة خلال الفترة المقبلة، يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– تزايد الضغوط الداخلية على الحزب الحاكم: ترفض المعارضة السياسية في جنوب أفريقيا موقف الحكومة من الصراع الروسي الأوكراني، الذي تعتبره منحازاً لصالح موسكو، بما يعرقل مصالح البلاد مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي قد يعزز ضغوط الداخل على الحزب الحاكم لتغيير موقفه، وربما يجد دعماً من الخارج خلال الفترة المقبلة في حالة استمرار وتصعيد الصراع في شرق أوروبا.
2– توتر العلاقات بين جنوب أفريقيا والغرب: عززت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من ضغوطهما على حكومة بريتوريا للتخلي عن تقاربها مع موسكو، وإجبارها على التخلي عن موقفها الذي تعتبره بريتوريا موقفاً محايداً تجاه الصراع الأوكراني، والانضمام إلى المعسكر الغربي على حساب روسيا؛ فقد هددت واشنطن جنوب أفريقيا عقب إرسال السفارة الأمريكية في بريتوريا مذكرة إلى لجنة العلاقات الدولية في البرلمان، تضمنت تحذيراً يقضي باحتمال تعرض الأفراد والكيانات التي تقدم خدمات للسفن الخاضعة للعقوبات الأمريكية والدولية – في إشارة إلى السفن الروسية – لتوقيع عقوبات أمريكية عليها، وهو استمرار للانتقادات الأمريكية لبريتوريا بسبب موقفها الرافض من إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.
كما وصف جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، خلال زيارته إلى بريتوريا في يناير 2023، علاقاتها مع موسكو بالأمر المزعج، وأن موقفها من الحياد ليس واحداً، في إشارةٍ إلى تحيزها لصالح الجانب الروسي، لا سيما أن الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا قد أكد التزامه تجاه روسيا بصفتها حليفاً وصديقاً قديماً؛ بسبب موقفها الداعم للبلاد المتمثل في تقديم الدعم العسكري والمعنوي خلال فترة النضال ضد نظام الفصل العنصري في القرن الماضي.
وفي هذا الصدد، من المتوقع أن تستمر تلك الضغوط على النظام الحاكم خلال الفترة المقبلة، أملاً في تغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل الالتزام بسياسة الحياد التي تبنتها منذ بداية الصراع؛ ما قد يسهم في عرقلة التقارب الواضح بين بريتوريا وموسكو خلال الفترة الأخيرة. وربما يتطور الأمر في حالة استمرار تطور العلاقة بين موسكو وبريتوريا، إلى اتخاذ الغرب خطوات تصعيدية ربما تصل إلى فرض عقوبات اقتصادية على بريتوريا؛ ما قد يوسع الفجوة بين الطرفين خلال الفترة المقبلة.
3– محاولة جنوب أفريقيا تأكيد موقفها “المحايد”: ربما تدفع الضغوط الغربية على جنوب أفريقيا، وخصوصاً في ضوء مؤشرات تقارب الأخيرة مع موسكو، بريتوريا إلى إعادة تأكيد موقفها “المحايد” من الحرب الأوكرانية. وظهر ذلك التوجه، على سبيل المثال، في المحادثات الثنائية بين الرئيسي رامافوزا وزيلينسكي خلال اتصال هاتفي بينهما في 13 مايو 2023، التي جاءت لنفي الادعاءات الأمريكية الأخيرة بخصوص توريد الأسلحة سراً إلى موسكو، وتأكيد الموقف المحايد لحكومة جنوب أفريقيا تجاه الصراع الروسي الأوكراني.
4– تصاعد التنافس الدولي في أفريقيا: وذلك في ضوء انتقال الصراع الروسي الغربي إلى وجهات جديدة، وهو الصراع الذي يدور بشكل متزايد في القارة في ظل تدافع الطرفين الروسي والأمريكي من أجل التأثير على القارة التي تحظى بأهمية جيوستراتيجية كبيرة. وربما تصبح جنوب أفريقيا مسرحاً للحرب الباردة الجديدة التي يدور رحاها بين روسيا والغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي ربما يؤثر سلباً على الاستقرار الإقليمي بالنسبة إلى جنوب أفريقيا، كما أنه يعزز حالة الاستقطاب الإقليمي في القارة وما يرتبط به من تداعيات سلبية مستقبلية.
وإجمالاً، من غير المُرجَّح أن تتبنى جنوب أفريقيا موقفاً أكثر تطرفاً ضد روسيا وعمليتها العسكرية في أوكرانيا بالرغم من تزايد الضغوط الغربية والأمريكية خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يعني مواصلة الرئيس “سيريل رامافوزا” تحقيق التوازن بين جميع الأطراف الدولية دون الانحياز إلى أي طرف في الصراع الجاري على الساحة الدولية، بما في ذلك الصراع الأوكراني؛ وذلك في ضوء حرصه على تحسين علاقاته مع الجميع؛ ما يعني استمرار موقف الحياد تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية على الأقل في المدى المنظور.