حافظت الدولة الشمال أفريقية على علاقة وثيقة مع شريكتها التقليدية في مجال الأمن، لكن الرغبة الدائمة في التوازن والاستقلالية يمكن أن توفر فرصاً للدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة.
في كانون الثاني/يناير، أجرى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون اتصالاً هاتفياً مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، ناقشا فيه الزعيمان تعزيز العلاقة الثنائية "القائمة منذ البداية على الصداقة والاحترام المتبادل"، وفقاً للبيان الصادر عن الكرملين. ولكن بعيداً عن الشكليات النمطية، تركزت المحادثة على الأرجح على موضوع غزو روسيا لأوكرانيا وبيعها الجزائر كميات هائلة من الأسلحة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات. وكانت هناك أيضاً تكهنات بأن تبون قد يزور موسكو قريباً، وأشاد إعلان صدر عن مكتب الرئيس الجزائري بعد المكالمة الهاتفية بأن الزيارة مرتقبة في أيار/مايو، إلا أنها لم تتم بعد.
وفي حين أن "الغزو" الروسي لأوكرانيا قد أثر في بعض شراكات موسكو التاريخية وعرّضها لتحديات مع دول أخرى، إلا أن الجزائر لا تبدو مستعدة للانحراف بشكل كبير عن علاقتها التاريخية الوثيقة مع موسكو في المستقبل القريب. وفي المقابل، فرضت الحرب على أوكرانيا تحديات جديدة أمام الجزائر وأهدافها الراسخة المتمثلة باعتماد سياسة خارجية أكثر استقلالية.
حفظ التوازن للجزائر
بدأت الجزائر وموسكو في تطوير العلاقات الاقتصادية والأمنية بينهما في ستينيات القرن الاماضي، حين أصبحت روسيا المُورّد الرئيسي للأسلحة للجزائر في وقت سعت فيه الدولة المستقلة حديثاً إلى بناء جيشها، ولا تزال هذه العلاقة الدفاعية الوثيقة مستمرة حتى يومنا هذا. ومنذ عام 2002، جاء ما يقرب من 76 في المائة من واردات الجزائر من الأسلحة من روسيا، لتشكل الجزائر بانتظام إحدى الوجهات الخمسة الأولى عالمياً للأسلحة الروسية. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2022، استضافت الجزائر البحرية الروسية لإجراء مناورات بحرية مشتركة؛ ووفقاً لبعض التقارير أجرى الجانبان مناورات مشتركة أخرى على طول الحدود المغربية في الشهر التالي، على الرغم من أن المسؤولين الجزائريين نفوا هذا الخبر، ربما لتجنب الانتقادات الدولية. وفي الأشهر التالية، استقبلت الجزائر أيضاً اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين الروس، هما نيكولاي باتروشيف، الأمين العام لـ "مجلس الأمن الروسي"، وديمتري شوغاييف، مدير "المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني". وتشمل العلاقة الصعيد الدبلوماسي أيضاً، إذ أعلنت الجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر عن نيتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، في بادرة لقيت ترحيباً سريعاً من وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف. ولا يخجل المسؤولون الجزائريون من مدح موسكو، ويشيدون باستمرار بالعلاقة التي تجمع البلدين والتي يعتبرون أنها قائمة على "برنامج تعاون مشترك واسع النطاق وطويل الأمد".
ولكن على الرغم من هذا التقارب، تحاول الجزائر باستمرار تحقيق توازن بين علاقتها مع روسيا ورغبتها في اعتماد مبدأ عدم الانحياز على الساحة العالمية. ويشكل هذا الموقف في بعض الأحيان تحدياً لعلاقتها التاريخية مع موسكو، لا سيما مؤخراً في جلسة الأمم المتحدة بعد الغزو الروسي، عندما صوتت الجزائر في نيسان/أبريل لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يعترف "بعدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا"، في حين امتنعت منذ بداية الحرب عن التصويت في خمس جلسات للجمعية العامة على قرارات تتعلق بالحرب. ومن جهة أخرى، استفادت الجزائر من الآثار الثانوية للغزو الروسي، وأبرزها رغبة دول أوروبا في التوقف عن الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي. على سبيل المثال، تُعد الجزائر حالياً أكبر مورّد للغاز الطبيعي لإيطاليا، التي كانت تستورد سابقاً معظم غازها الطبيعي من روسيا. وفي وقت سابق من هذا العام، حثّ تبون حكومة مالي على الانفصال عن مجموعة "فاغنر" الروسية التي تنشر حوالي ألف جندي على أراضي البلد المجاور وتملك فيه بعض المصالح. وعلى الرغم من تشديد تبون على التزام الجزائر القائم منذ مدة طويلة بعدم التدخل في الشؤون الخارجية، فمن الممكن أن ترى الحكومة الجزائرية فرصة سانحة للتخلّص من وجود مجموعة "فاغنر" المزعزع للاستقرار عند حدودها الجنوبية.
وتزامنت هذه المحاولات التي قامت بها الجزائر لتيسير علاقتها مع موسكو في مرحلة ما بعد حرب أوكرانيا مع جهود مضاعفة لصياغة سياسة خارجية تتسم بالحزم والاستقلالية. وفيما يتعلق بإيطاليا على وجه التحديد، اقترن تعميق العلاقات الاقتصادية مع زخم دبلوماسي يهدف على الأرجح إلى موازنة الاحتكاك الأخير الذي حصل بين الجزائر وإسبانيا بشأن قضية الصحراء الغربية، والتي انحازت فيها إسبانيا إلى المغرب منذ منتصف عام 2022، مما أدى إلى تجميد التجارة بين إسبانيا والجزائر. وهذا التوازن مهم بشكل خاص بالنظر إلى تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل في عام 2020، لأنه يعني أن الجزائر لن تسمح بعزل نفسها بينما تحافظ على موقفها التاريخي الثابت المؤيد للفلسطينيين. كما نجحت الجزائر في إعادة إحياء العلاقات (حالياً على الأقل) مع فرنسا بعد خلاف وجيز وقع في شباط/فبراير عندما استقبلت باريس أحد منتقدي القيادة الجزائرية الذي يحمل أضاً الجنسية الفرنسية، حتى أن الرئاسة الجزائرية أعلنت أن تبون يعتزم زيارة باريس في النصف الثاني من حزيران/يونيو. وإذا تحقق ذلك، فستكون هذه ثالث زيارة فقط على هذا المستوى منذ الاستقلال، على الرغم من أن كانون الثاني/يناير من هذا العام شهد اجتماعاً نادراً في باريس بين وزيري دفاع البلدين لمناقشة المخاوف الأمنية الإقليمية.
إعادة ترتيب أولويات الدفاع؟
قد يتحول اعتماد الجزائر التاريخي على الدعم العسكري الروسي أيضاً إلى نقطة ضعف لأن آثار حرب أوكرانيا تعيق قدرة موسكو على بيع الأسلحة والمعدات المتعلقة بالأسلحة، علماً أن الغزو أعاق فعلياً صادرات الأسلحة الروسية في جميع أنحاء العالم. وقد تبين في دراسة حديثة أن مبيعات الأسلحة الروسية انخفضت بنسبة تتجاوز 30 في المائة بين الفترتين 2013-2017 و2018-2022. وقد وجد زبائن روسيا المعتادين صعوبة متزايدة في الحصول على القطع والمكونات للمشتريات القائمة، وكذلك في إجراء عمليات شراء جديدة. وأشار تقرير صادر عن "سلاح الجو الهندي" في آذار/مارس إلى أن روسيا لن تكون قادرة على إنجاز "عملية تسليم ضخمة" لنظام (معيّن) إلى الهند بسبب حرب أوكرانيا. ولذلك سيتعين على الجزائر أن تقرر ما إذا كانت ستضاعف علاقتها الأمنية مع روسيا وربما تستغل وضعها كزبون قديم للتفاوض على صفقات أفضل، أو تبدأ بالبحث في دول أخرى عن إمداداتها العسكرية.
وإذا كانت الجزائر تفكر في البحث في دول أخرى، ستتوفر لها خيارات كثيرة نظراً لوضعها كمستورد رئيسي للأسلحة. وفيما يتخطى روسيا، تستورد الجزائر معظم معداتها الدفاعية منذ عام 2002 من الصين (حوالي 7٪)، وألمانيا (حوالي 6٪)، وإيطاليا (حوالي 3٪). ومن المرجح أن تسعى الصين على وجه الخصوص، إلى سد الفجوة الروسية، علماً أن الولايات المتحدة وصفت الصين في عام 2019 بأنها المصدّر الأسرع نمواً للأسلحة في العالم خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، وقد استخدمت الجمهورية الشعبية مبيعاتها من الطائرات المسيّرة المسلّحة إلى الجزائر ودول أخرى في المنطقة كنقطة انطلاق لتسويق منصات أخرى أكثر تقدماً.
وقد تنظر واشنطن أيضاً في استخدام احتمالات بيع الأسلحة والتعاون الأمني، لا سيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، كطريقة لسحب الجزائر من فلك موسكو. وساعدت هذه الرغبة في دفع وزير الدفاع الأمريكي خلال رئاسة ترمب، مارك إسبر، إلى زيارة الجزائر في عام 2020، وكانت تلك أول زيارة يقوم بها وزير دفاع أمريكي أثناء شغله منصبه منذ عام 2006، في وقت توفرت فيه، "الفرصة ربما لتمهيد الطريق" لإقامة علاقات دفاعية ثنائية، وفقاً لمسؤول دفاع أمريكي. واستقبلت الجزائر منذ ذلك الحين مجموعة من المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى، من بينهم مؤخراً وكيلة وزارة الخارجية لشؤون "الحدّ من التسلح والأمن الدولي"، بوني دينيس جنكينز. ونظراً لتهديدات الكونغرس بفرض العقوبات المنصوص عليها في "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات" على الجزائر بسبب مشترياتها السابقة من الأسلحة الروسية، ستحتاج واشنطن إلى تنسيق رسائلها إذا أرادت إقناع الجزائر بتعميق التعاون الأمني، لا سيما وأن الأخيرة توسع نطاق صفقاتها مع الدول الأوروبية، مثل ألمانيا.
الخاتمة
خلقت حرب أوكرانيا نوعاً من الحيرة للجزائر، كما خلقت لغيرها من شركاء روسيا القدامى الآخرين. وتُظهر تصرفات الرئيس تبون منذ الغزو الروسي أن الجزائر تريد تحقيق توازن بين علاقتها التاريخية الوثيقة مع موسكو وتطلعاتها الراسخة إلى سياسة خارجية أكثر استقلالية. وأفضل نهج يمكن لواشنطن اعتماده في هذه المرحلة هو الاستمرار في معاملة الجزائر كشريك في المجال الأمني وإيجاد فرص لتعميق العلاقات. ويمكن أن يشمل ذلك تعزيز شراكات الاستثمار مع قطاعات أخرى من الاقتصاد الجزائري مثل الزراعة والطاقة المتجددة، ومواصلة تشجيع مناخ استثماري جزائري أكثر استقراراً وودية. بالإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة إشراك الجزائر في المحادثات التي تتناول موضوع الاستقرار الإقليمي، لا سيما بالنظر إلى مخاوف الأخيرة بشأن الانهيار الاقتصادي المحتمل في تونس المجاورة وتزايد عدم الاستقرار في منطقة الساحل. وقد يكون التركيز على رؤية مشتركة لتحقيق المزيد من الاستقلال للجزائر هو أفضل طريقة لواشنطن لتسهيل مثل هذه النتيجة.