• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05

ما زال الصراع العنيف في السودان في تصاعد منذ اندلاعه في العاصمة الخرطوم في 15 إبريل الماضي، وامتداده السريع إلى مناطق أخرى. وقد أتى القتال بعد أشهر من التوترات التي طال أمدها بين القوات المسلحة السودانية، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، بقيادة محمد حمدان دقلو. ولقد أدى الخلاف بين الحليفين السابقين – اللذين أطاحا بالحكومة المدنية في أكتوبر 2021 – إلى تعطيل اتفاق إطاري سياسي متعثر تدعمه قوى دولية لإعادة البلاد إلى الحكم المدني.

فقد اختلف البرهان ودقلو حول إصلاحات قطاع الأمن، مما أدى إلى نشوب خلافات مستعصية للغاية أدت إلى تصعيد التوترات، لكن الأهم من ذلك أن هذه الخلافات كشفت عن صراع شرس على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع في فترة ما بعد المرحلة الانتقالية. وتراوحت موضوعات الخلافات بين الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش (حيث تميل القوات المسلحة السودانية لتحديد مدته ليستغرق عامين، بدلاً من اقتراح قوات الدعم السريع بأن تستمر العملية عقداً من الزمن) وبين القضايا المزعجة المتعلقة بأمور القيادة والسيطرة، مع الخلافات حول توزيع الرتب والرواتب.

جذور عميقة

إن القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع هو امتداد لتوازن استراتيجيات القوى المعقدة التي أثّرت في المسرح السياسي في عهد الرئيس السابق عمر البشير، فلقد أراد الأخير الحفاظ على بقاء نظامه فلجأ لشبكات المحسوبية لتفريق الوحدات الأمنية المختلفة لتقليل خطر وقوع انقلاب من جيش موحد. وهكذا اتبع البشير أثناء حكمه استراتيجية "فرق تسد" للحد من التهديد العسكري من خلال وضعه لنظام الضوابط والتوازنات بين الوحدات، وهو الأمر الذي استمر لسنوات، فأثارت هذه السياسة تنافساً وصراعاً شديدين على حدود النفوذ، وخلقت خصومات عميقة بين الوحدات الأمنية.

فضلاً عن ذلك، دعم البشير المليشيات القبلية في أطراف البلاد من خلال تسليحها لتقف ضد الجماعات المسلحة المعادية لنظامه. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الاستراتيجية إلى انتشار الجماعات المسلحة، مما أدى إلى عدم اقتصار استخدام القوة والعنف على جهات رسمية معينة في هذه المناطق، بل امتد لفئات أخرى كثيرة.

ولقد ظهر دقلو على ساحة الأمن القومي بصفته قائداً لمليشيا "الجنجويد" التي ترعاها الخرطوم، والتي نظمها جهاز الأمن والمخابرات الوطني من أجل التصدي للمتمردين في جنوب دارفور إبان الحرب الأهلية 2003- 2005. وفي عام 2013، ضم البشير "الجنجويد" إلى قوات الدعم السريع باعتبارها وحدة أمنية منفصلة لمحاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان - متمردي الشمال في جبال النوبة.

واستمر صعود قوات الدعم السريع منذ ذلك الحين، وفي نوفمبر 2017، سيطر مقاتلو قوات الدعم السريع على مناجم الذهب الحرفية في جبل عامر في دارفور – وهو أكبر مصدر لعائدات التصدير في السودان – بعد هزيمة خصمهم اللدود موسى هلال الذي تمرد على البشير. وهكذا تمتع دقلو بسيطرة مطلقة على واحد من أكبر مصدرين للعملة الصعبة في البلاد. واستغل دقلو هذه الموارد لتجنيد الأفراد وضمهم لقوات الدعم السريع، وتجهيز القوات تجهيزاً هائلاً يمكنّها من تحدي القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان، حيث يقدر عدد أفراد قوات دقلو شبه العسكرية بـحوالي 75 ألف إلى 100 ألف مقاتل في عام 2021 مقارنة بـعدد جنود القوات المسلحة السودانية الذي تراوح من 120 ألف إلى 200 ألف جندي. ومما لا شك فيه أن صعود دقلو السريع ليصبح قوة محركة رئيسية في قلب المجال السياسي السوداني قد أدى إلى زعزعة الجيش السوداني لأنه هدد هيمنة القوات المسلحة السودانية، مما أشعل تنافساً شديداً بينهما.

اتساع الفجوة

أدت الأزمة السياسية المطولة التي أعقبت الإطاحة بالبشير عام 2019 إلى تفاقم التنافس بين البرهان ودقلو، حيث استغل كل منهما الأوضاع لبسط نفوذه وتأمين مصالحه في فترة ما بعد المرحلة الانتقالية. وهكذا حافظ الاثنان على تأجيج تنافسهما، وأثارا مخاوف من تصعيد محتمل من أجل انتزاع تنازلات سياسية من المدنيين. ولقد أتت استراتيجيات حافة الهاوية السياسية بثمارها عندما انقسمت الأحزاب التي يقودها المدنيون حول إقامة حكومة انتقالية بتمثيل عسكري أم من دونه.

ورفضت لجان المقاومة الشعبية والحزب الشيوعي السوداني التوقيع على الاتفاق الإطاري السياسي في شهر ديسمبر 2022 زاعمين أنه يضفي الشرعية على الجيش من خلال تقاسم السلطة. وفي حيلة من دقلو للحصول على دعم الأطراف المدنية، ندد بانقلاب أكتوبر 2021 باعتباره خطأ، وذلك بعد احتجاجات موسعة شهدتها الشوارع السودانية في فبراير مطالبة بحكومة انتقالية بقيادة مدنية. وكان هذا تحولاً كبيراً لأنه أكد علناً الاختلافات القائمة، ولاسيما مع ما ورد من أنباء حول إحجام دقلو عن المشاركة في الانقلاب.

وللتغلب على دقلو، أعاد الجيش التواصل مع الإسلاميين، ليس الأعضاء السابقين في حزب المؤتمر الوطني بزعامة عمر البشير فحسب، وذلك من خلال إعادة تعيينهم في مناصب حكومية مهمة واستعادة الامتيازات التي كانت ممنوحة لهم. وعلى الجانب الآخر لدى الموالين للبشير داخل الجيش مخاوف من دقلو ترتكز على سيناريوهين سياسيين: أولهما، أنهم يخشون من التوصل لاتفاق سياسي يسمح بجدول زمني أطول لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، مما قد يلحق ضرراً كبيراً بنفوذهم الاقتصادي والسياسي.  وثانيهما، أنهم يزعمون أن دقلو تخلى عن البشير أثناء انقلاب 2019.

تفكيك مجتمعي

يهدد الصراع بين دقلو والبرهان بتفاقم الانقسامات الاجتماعية في السودان، وتأليب النخبة المهيمنة سياسياً الواقعة على وادي النيل (والتي ينتمي إليها البرهان) ضد من يعيشون على أطراف الدولة السودانية (الذين يمثلهم دقلو). والجدير بالذكر أن العنف الحالي يختلف عن النزاعات السابقة حيث يسود القتال في المقام الأول قلب السودان وليس أطرافه، وهو ما قد يفيد قوات الدعم السريع، التي أبرمت عدة اتفاقيات مع الجماعات المسلحة في معقلها في دارفور، للتركيز على القتال في قلب البلاد. علاوة على ذلك، قد يسفر القتال من الناحية الفنية عن انهيار اتفاق جوبا للسلام الذي تم توقيعه في أكتوبر 2020 بين الحكومة والمليشيات والمتمردين. ومن هنا يزيد خطر عودة بعض الجماعات لنشاطها إما على نحو فردي أو من خلال تحالفها مع أحد الأطراف المتحاربة.

ولا يزال هذا الخطر قائماً إذا ما أخذنا في الاعتبار الأنماط المتكررة عبر التاريخ، والتي تبرز تقلب العلاقات بين الجماعات المسلحة، وتكرر إقامة التحالفات وإعادة تشكيلها. بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف من أن الجماعات المسلحة المقاومة قد تستغل الأزمة الحالية لاستئناف الهجمات، ومنها الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، وهي أكبر جماعة سودانية متمردة تسيطر على مناطق كبيرة في جبال النوبة.

تأثير "الدومينو"

إن الصراع العنيف في السودان قد يخلق حالة من انعدام الأمن بين مناطق وسط إفريقيا والقرن الإفريقي المعرضة لنشوب صراعات هي الأخرى، فلقد وردت تقارير عن انتشار مليشيات عربية من جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي للانضمام إلى القتال في ولاية جنوب دارفور بالسودان عبر ولايتي غرب وشمال بحر الغزال في جنوب السودان، وشن هجمات في جنوب السودان.

ويوجد في السودان العديد من المناطق الحدودية المتنازع عليها، والتي غالباً ما تتحول إلى بؤر للعنف. وهكذا قد يؤدي انتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة، مع تراجع سيطرة الدولة، إلى تشجيع الجماعات المجتمعية المسلحة ذات المظالم المحلية العرقية عبر الحدود لشن هجمات في الدول المجاورة. وبالنظر إلى الاتجاهات الماضية أثناء النزاعات السابقة في السودان، نرى أن عدم الاستقرار قد يؤدي إلى انعدام الأمن عبر الحدود، ولاسيما في المناطق الحدودية مع جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد، بما في ذلك منطقتي أبيي والفشقة، التي تطالب كل من جنوب السودان وإثيوبيا، السودان بها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع المائي المستمر حول بناء إثيوبيا لسد النهضة الإثيوبي الكبير على طول نهر النيل يهدد بالتداخل مع الصراع في السودان، فلقد تسبب السد في توتر العلاقات بين السودان ومصر – دولتي المصب – واللتان تريان السد تهديداً وجودياً لأمنهما المائي.

وعلى الجانب الآخر، كشف الصراع الحالي عن وجود مصالح متشابكة ومتضادة للعديد من الفاعلين الدوليين المتنافسين، وهو الأمر الذي يهدد بإطالة مدى الحرب على المديين المتوسط إلى الطويل. وعلى الرغم من أن مستويات الدعم من مختلف الدول لا تزال غير واضحة، فإن هناك مخاوف من أنها قد تدعم الأطراف المتحاربة.

ويظهر الخطر الذي تمثله المصالح الإقليمية والدولية في تصعيد الصراع في مزاعم دبلوماسيين إقليميين أن مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر" (التي تربطها علاقات وثيقة بالكرملين) قد زودت قوات الدعم السريع بالصواريخ. كما أُثيرت مخاوف بشأن وجود مجموعة "فاغنر" (التي أقامت علاقات وثيقة مع دقلو) في مناجم الذهب في دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ولقد تفاقمت هذه المخاوف بعد زعم دبلوماسيين إقليميين وسودانيين في 15 إبريل أن "فاغنر" قد زودت قوات الدعم السريع بالصواريخ.

ختاماً، إن تداخل الديناميكيات السياسية الداخلية في السودان والمخاوف الأمنية الإقليمية والمصالح الدولية في البلاد ستحدد في نهاية المطاف المدى الزمني للأزمة الحالية. ويظل خطر استمرار الأزمة قائماً إذا قدم الشركاء الدوليون دعماً سياسياً ومالياً وعسكرياً للطرفين المتحاربين لتعزيز مصالحهم، بدلاً من استخدام نفوذهم للوصول لتسوية سياسية.

ومما لا شك فيه أنه إذا لم يتم حل هذا النزاع، سيخاطر السودان بالانزلاق إلى حرب بالوكالة حيث ستدعم دول مختلفة الطرف المتحارب الذي ترى أنه يحقق مصالحها على نحو أفضل. ومن المرجح أن يقوض هذا السيناريو "الأمن الإقليمي" في هذه المنطقة المستهدفة والمعرضة لأنشطة الجماعات المسلحة عبر الحدود.