• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

مساعي كوريا الجنوبية إلى تعزيز مكانتها الدولية


تسعى كوريا الجنوبية إلى تصنيف نفسها على أنها دولة محورية عالمية تسعى بنشاط إلى وضع أطر مكثفة للتعاون مع مختلف القوى العالمية والإقليمية، وتعزيز حضورها في المناقشات المتعلقة بقضايا محيطها الإقليمي، وكذلك العالمي، كما تمتلك سيول رؤية استراتيجية موسعة لتعزيز تحركاتها في المحيطين الهندي والهادئ؛ من أجل الوصول إلى ما وراء شمال وجنوب شرق آسيا والهند والولايات المتحدة، بجانب التقرب أكثر إلى المحيط الهندي، ومنه إلى الساحل الأفريقي وأوروبا. وتنطلق التحركات الكورية الجنوبية من الدوافع الخاصة بمجابهة التهديدات الكورية الشمالية، والتحوط من التداعيات السلبية للأزمات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية، مستفيدةً في ذلك من قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ناهيك عن الدعم الغربي المكثف المقدم لها.

مظاهر التحرك

خلال السنوات القليلة الماضية، شهدنا تغيرات في مسارات وتحركات السياسة الخارجية الكورية تجاه مناطق مختلفة من العالم. ويرجع ذلك في الأساس إلى إدراكها ضرورة مساندة سياسات الدول الغربية المتحالفة معها؛ وذلك لتحقيق أجندتها الدولية السالفة الذكر.\ ويمكن إيجاز أبرز هذه التحركات على النحو التالي:

1التفاعل مع تطورات الحرب الأوكرانية: أشار رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، في مقابلة مع وكالة رويترز نُشرت يوم 19 أبريل 2023، إلى تحول محتمل في موقف بلاده من الحرب الروسية–الأوكرانية؛ ما فتح الباب أمام احتمالية تقديم دعم عسكري مباشر إلى كييف؛ وذلك انطلاقاً من تطلع سيول إلى الاضطلاع بدور أكبر في الأمن العالمي، كما صرح بأن بلاده ستفكر في إرسال مساعدات إلى أوكرانيا تتجاوز مجرد الدعم الإنساني أو المالي، إذا دبرت القوات الروسية المزيد من المذابح أو الهجمات الواسعة النطاق ضد المدنيين في أوكرانيا، وهي تعليقات تعكس جهود سيول في القيام بدور أكثر استباقيةً في التحالفات الغربية، في الوقت الذي تواجه فيه التهديدات المتزايدة من كوريا الشمالية والصين المجاورتَين.

2علاقات متباينة مع القوى الكبرى: كانت كوريا الجنوبية معروفة بعملها المتوازن بين حليفتها وضامنها الأمني (الولايات المتحدة)، وبين شريكها الاقتصادي الرئيسي وجارتها المسيطرة بشكل متزايد (الصين)، بيد أنه مع اشتداد المنافسة بين واشنطن وبكين، أضحت سيول في موقف صعب بين أقرب حلفائها وأكبر شركائها التجاريين؛ إذ تحتاج إلى الحفاظ على توازن علاقاتها بالقوى الكبرى لتأمين التعاون مع الصين اقتصادياً، مع الحفاظ على تحالف أمني قوي مع الولايات المتحدة.

ومع ذلك، فإن المواقف الكورية تجاه الصين تحولت تحوُّلاً سلبيّاً حادّاً خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث عادةً ما يتم تفسير ذلك نتيجةً للتوترات في العلاقات الثنائية على خلفية نشر الصين نظام الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية “ثاد”، الذي تم الإعلان عنه في عام 2016؛ ما اعتبرته سيول تهديداً مباشراً لأمنها القومي.

3توسيع الحضور في المحيط الإقليمي: بالنظر إلى تسمية كوريا الجنوبية جنوب شرق آسيا وآسيان في المرتبة الثانية بعد جيرانها في شمال المحيط الهادئ، في قائمة الشركاء الرئيسيين، اتخذت سيول خطوات ملموسة في هذا الاتجاه؛ حيث أعلنت عن مبادرة التضامن بين كوريا والآسيان، التي تهدف إلى تحسين العلاقات بين أطرافها، من خلال تعميق التعاون في المجالات الأربعة ذات الأولوية، وهي التعاون البحري والاقتصادي والتنمية المستدامة ومجال الاتصالات.

وتأتي تلك الخطوات استكمالاً لمحاولات سيول تعميق دبلوماسيتها مع المنطقة من خلال سياستها الجنوبية الجديدة، وهي استراتيجية 2017 التي تم تحديثها في عام 2020، بما يؤكد سياسة إدارة “يول” الراغبة في العمل مع شركاء جنوب شرق آسيا عبر الإطار الاقتصادي الهندوباسيفيكي (IPEF)، بحيث يتطور إلى منتدى اقتصادي فعال. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت حكومة كوريا الجنوبية استراتيجيتها الخاصة بالمحيطين الهندي والهادئ بنهاية عام 2022، ولكن لا تزال الشكوك قائمة حول إذا ما كان بإمكان سيول لعب دور استراتيجي أكبر خارج شبه الجزيرة الكورية.

4تقارب أكبر مع واشنطن: في مايو 2022 عقد الرئيس الكوري “يول” قمة ناجحة مع جو بايدن في سيول؛ حيث أُعلن خلالها أن كوريا الجنوبية ستُشارك في الإطار الاقتصادي الهندوباسيفيكي الذي تقوده الولايات المتحدة، لا سيما موافقتها على حضور المحادثات الأولية لإنشاء تحالف يعرف باسم “Chip 4” مع الولايات المتحدة واليابان وتايوان؛ من أجل ضمان أمن سلاسل توريد أشباه الموصلات، على الرغم من التحفظات الأولية من أن القيام بذلك قد يغضب الصين.

هذا ويقوم “يول” حالياً بتوسيع تحالف كوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة إلى ما وراء المجال الأمني، وخاصةً المجال الاقتصادي الذي تضرر بقوة على خلفية الأزمات الجيوسياسية العالمية؛ إذ يسعى إلى توسيع نطاق التعاون في قضايا تشمل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وحوسبة البيانات الكمية، و5G، والفضاء، وهو ما يعد تحالفاً تكنولوجياً جزئياً لتقليل اعتماد كوريا الجنوبية على الصين.

5تعزيز الدور العسكري دولياً: أصبح “يول” أول زعيم كوري جنوبي على الإطلاق يحضر قمة للناتو، وهي القمة التي عُقدت في مدريد في يونيو الماضي؛ هذا فضلاً عن سعيه إلى وضع بلاده ضمن المُصدِّرين الرئيسيين للأسلحة في جميع أنحاء العالم، مع التركيز بوجه خاص على الأسواق في أوروبا، بما يتماشى مع استراتيجيته لتعزيز الفاعلية العسكرية لسيول ودعم اقتصاد البلاد؛ حيث ارتفعت صادرات الأسلحة الكورية الجنوبية بنسبة 140% في عام 2022، بفضل صفقة أسلحة كبيرة مع بولندا بقيمة 6 مليارات دولار تقريباً، بجانب أن هناك صفقة أسلحة جديدة محتملة مع رومانيا قيد الإعداد خلال هذا العام.

6محاولة تجاوز الخلافات مع اليابان: منذ تولي منصبه في مايو 2022، كان رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، حريصاً على تحسين العلاقات مع اليابان، التي وصلت إلى أسوأ فتراتها منذ عام 2018، عندما حكمت المحكمة العليا في كوريا الجنوبية لصالح عمال السخرة السابقين. وخلال العام الماضي، حاول البلَدان التراجع عن حافة الهاوية، من خلال اللقاءات المتكررة بين قادتهما.

هذا وقد أعلن يون تخلي الحكومة الكورية عن مطالب تعويض العمال الكوريين. وبدلاً من ذلك، ستُنشئ الشركات الكورية الجنوبية صندوقاً لتعويض المدعين الذين حصلوا على تعويضات من المحكمة العليا الكورية. من جانبه، رحب رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، الذي سبق أن تفاوض وزيراً للخارجية على اتفاقية نساء المتعة لعام 2015، بمبادرة يون وسيلةً لإعادة العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية إلى حالة جيدة، كما أكدت حكومة كيشيدا إعلان عام 1998 الذي أعرب فيه رئيس وزراء ياباني سابق عن ندمه العميق واعتذاره الصادق عن الحكم الاستعماري الياباني لكوريا، كما أشارت طوكيو إلى أنها سترفع ضوابط التصدير عن كوريا الجنوبية، وستستعيد العلاقات التجارية إلى أعلى مستوى.

محفزات التحرك

تأتي التحركات الكورية الجنوبية الأخيرة تجاه العالم مدفوعة بجملة من المحفزات، ويعد أبرزها ما يلي:

1قيادة “يون” القوية لملف السياسة الخارجية: منذ توليه السلطة، حقق يون مجموعة من الإنجازات في ملف السياسة الخارجية، من خلال تعزيز علاقات بلاده بالولايات المتحدة، وعمله على رفع مكانة كوريا الجنوبية في العالم، وهو ما كان ضمن حملته الانتخابية الرئيسية، حين وعد بالخروج عن مسارات تحرك الإدارة السابقة، التي اتبعت سياسة التحوط بين الولايات المتحدة والصين، مشيراً إلى ضرورة التقرب أكثر من الولايات المتحدة، بالتوازي مع العمل على إقامة علاقات تعتمد على الاحترام المتبادل مع الصين.

2العداء التاريخي مع كوريا الشمالية: كان عام 2022 محطماً للأرقام القياسية في شبه الجزيرة الكورية؛ حيث أطلقت كوريا الشمالية سلسلة مذهلة من تجارب الصواريخ الباليستية، بعضها كانت صواريخ باليستية عابرة للقارات. وقد أثارت تلك التجارب انتقادات حادة من واشنطن وحلفائها، وكذلك ردود فعل انتقامية من كوريا الجنوبية؛ إذ اتخذ يون خطّاً أكثر صرامةً، وأعطى الأولوية لتقوية التحالف مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن القلق المستمر بشأن مصداقية الردع الأمريكي الموسع، بجانب الرغبة في زيادة الحكم الذاتي الاستراتيجي، ساهم في تحقيق دعم كبير لكوريا الجنوبية لبناء ترسانتها النووية لردع بيونج يانج، خاصةً أن القوة النووية المتنامية لكوريا الشمالية تهدد الوضع الأمني الراهن في شبه الجزيرة الكورية.

3قدرات سيول العسكرية: تجلس كوريا الجنوبية على واحد من أكبر مخزونات المدفعية وقذائف المدفعية في العالم، وهو ما ساهم في إفصاح رؤساء كوريا الجنوبية المتعاقبين عن رغبتهم في أن تصبح البلاد لاعباً قوياً في الصادرات الدفاعية، بما في ذلك إعلان الرئيس الحالي يون سوك يول عن هدفه بجعل كوريا الجنوبية رابع أكبر مصدر دفاعي بحلول عام 2027. ومن ثم، قد تكون كوريا الجنوبية في وضع جيد يمكنها من الحصول على المزيد من الأعمال التجارية في أوروبا؛ وذلك في ضوء قدراتها على إنتاج العديد من المعدات العسكرية المتطورة، مثل الدبابات القتالية المتطورة من طراز “K2″، وأنظمة مدفع هاوتزر الذاتية الدفع من طراز “K9” التي جذبت دول أوروبا الشرقية التي تتطلع إلى حشد جيوشها للحفاظ على تدفق الإمدادات إلى أوكرانيا وردع روسيا، مستغلةً في ذلك مواجهة الصناعات الدفاعية في العديد من الدول المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، نقصاً حادّاً في الإنتاج في قواعدها الصناعية الدفاعية، ولكن سيول لا تزال تحتفظ بالقوة والقدرة على التوسع في الإنتاج الصناعي الضخم، ولا سيما رغبتها في توطين إنتاجها بالخارج، وتحديداً في أوروبا.

4الدعم الغربي لتحركات سيول: ترى الولايات المتحدة فوائد غير مباشرة من تشجيع كوريا الجنوبية على السعي بقوة لزيادة حصتها في سوق الدفاع في أوروبا، بصفتها حليفاً استراتيجيّاً لهم، خاصةً أن للقوى الغربية مصلحة حقيقية للغاية في ضمان صناعة دفاع كورية جنوبية نشطة وقوية، ويمكنها إنتاج أنواع الأسلحة الحديثة اللازمة لمواجهة العدوان الكوري الشمالي، كما أن ربط الصناعة الثقيلة في كوريا الجنوبية بأمن أوروبا سيؤدي إلى تطوير علاقة قوية بين حلفاء الولايات المتحدة ومصالحهم.

5القوة الناعمة لكوريا الجنوبية: على مدى العقود القليلة الماضية، اكتسبت الثقافة الكورية الجنوبية شعبية في جميع أنحاء العالم؛ فمنذ التسعينيات، انتقلت السياسات الثقافية التي تقودها الحكومة إلى العلامات التجارية الوطنية والقوة الناعمة، وهو ما كان له تأثير إيجابي على الصناعة الثقافية، وساهم في تعزيز الوجود الكوري في الخارج، معتمدةً في ذلك على ثلاثة جوانب للقوة الناعمة لكوريا الجنوبية؛ وهي التاريخ الناجح من التنمية الاقتصادية والديمقراطية، وتطوير المحتوى الإبداعي الذي أدى إلى القدرة التنافسية العالمية بسبب تجربة النمو والسوق المحلية المحدودة، وتطوير التكنولوجيا الرقمية، وخاصةً في بيئة الإعلام.

6تأثير التوجهات الشعبية: تأتي المواقف الكورية الجنوبية السلبية تجاه الصين مدفوعة في الأساس بمشاعر الكراهية الشعبية؛ فعند سؤالهم عن وجهات النظر العامة للصين، أعرب 81% من المشاركين الكوريين الجنوبيين عن مشاعر سلبية أو سلبية للغاية، وفقاً لاستطلاع رأي في شهر ديسمبر الماضي لـمشروع Sinophone Borderlands. وعلى النقيض، في عام 2015، كان الكوريون الجنوبيون إيجابيين نسبيّاً بشأن الصين، عندما كان لدى 37% منهم فقط آراء غير مواتية تجاه الصين. وإن إحدى الطرق لحل لغز المواقف السلبية الفريدة للكوريين الجنوبيين تجاه الصين هي النظرة الأقوى والأكثر سلبيةً لتأثير الصين على البيئة الطبيعية العالمية، خاصةً قضية تلوث الهواء، بجانب التكنولوجيا الصينية، وأنها كانت مصدراً لتفشي فيروس كورونا.

هذا وتشير تلك النتائج إلى أن المشاعر الكورية العامة تمثل عاملاً مؤثراً على الحكومات الكورية المتعاقبة عند إدارة الشؤون الخارجية بوجه عام، وخاصةً فيما يتعلق بالصين. وعلى الرغم من أن السلبية الفريدة تجاه الصين ظاهرة جديدة نسبياً، فإنها أصبحت بالفعل متأصلة بعمق في المجتمع الكوري الجنوبي. وعلى الرغم من النظرة المستقطبة تجاه الصين التي هيمنت على خطاب السياسة الخارجية بين الليبراليين والمحافظين في كوريا الجنوبية في السنوات الأخيرة، سيحتاج كلا الجانبين إلى النظر في الرؤية السلبية العامة الواسعة النطاق تجاه الصين في السنوات المقبلة، كما أن من غير المرجح أن تختفي هذه السلبية مع التغييرات الحكومية؛ لأنها تنتقل إلى حد ما عبر الطيف الاجتماعي والسياسي بأكمله.

خلاصة القول: بالرغم من الخطوات المتسارعة التي تتخذها كوريا الجنوبية من أجل لعب دور أكبر عالميّاً، فإنها لا تزال محدودة للتعامل مع مختلف القضايا الدولية. ويرجع ذلك في الأساس إلى الوضع الجيوسياسي للبلاد. ومن ثم يجب أن تولي كوريا الجنوبية مزيداً من الاهتمام للمشاركة النشطة في جداول الأعمال العالمية، خاصةً في مجالات التنمية والتعاون، والتكنولوجيا الناشئة، وقضايا حقوق الإنسان، مستفيدةً من النظام الدولي الليبرالي الحالي، ومن تحقيقها اقتصاداً مزدهراً يمكنه أن يلعب دوراً مؤثراً في النظام الاقتصادي العالمي الراهن.