وصل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، إلى العاصمة الأسترالية سيدني يوم 22 مايو الجاري؛ وذلك في محطته الأخيرة ضمن جولته التي اشتملت على ثلاث دول؛ كان أولها إلى اليابان؛ حيث انضم إلى جلسات قمة مجموعة السبع، ثم بابوا غينيا الجديدة لعقد قمة مع زعماء 14 دولة من جزر المحيط الهادئ.
وتعد هذه الزيارة هي الثانية للسيد مودي إلى أستراليا رئيساً للوزراء؛ حيث قد سبق أن زارها لأول مرة عقب توليه السلطة في عام 2014. وقد أجرى مودي خلال زيارته الأخيرة عدة مباحثات مع نظيره الأسترالي أنتوني ألبانيز، وحضر حدثاً مجتمعياً للاحتفال بالشتات الهندي في أستراليا؛ حيث يهدف مودي إلى توثيق العلاقات الدفاعية والأمنية الثنائية مع كانبرا في ضوء تنامي نفوذ الصين في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، بجانب تعزيز كافة العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية التي تربط بين كلا البلدين، كما تأتي هذه الزيارة في الوقت الذي تحاول فيه أستراليا تعزيز علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الهند لتعويض المنافسة الاستراتيجية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين؛ الشريك التجاري الأكبر لكانبرا.
أبعاد جوهرية
ثمة أبعاد وأهداف متعددة تتقاطع مع زيارة رئيس الوزراء الهندي إلى أستراليا، وعلى رأسها مواجهة تنامي "التهديدات" الصينية، ورفع مكانة الهند الدولية، وفتح المجال لكانبرا من أجل المناورة بشكل أكبر في تحرُّكاتها الخارجية، بالإضافة إلى استغلال الجالية الهندية لتحقيق أهداف نيودلهي في أستراليا. ويمكن تناول أبرز هذه الأبعاد والأهداف كالتالي:
1– مواجهة تنامي "التهديد" الصيني: تتعاون الدولتان من خلال مجموعة الرباعية، التي تضم بجانبهما الولايات المتحدة واليابان، والتي اتفقوا في قمتها الأخيرة – التي عُقدت في هيروشيما – على معارضتهم الشديدة للأعمال المزعزعة للاستقرار أو التي تهدف إلى تغيير الوضع الراهن بالقوة أو الإكراه، في إشارة واضحة إلى تكتيكات الصين الاقتصادية لكسب النفوذ على الدول الفقيرة بالمنطقة، وكذلك توسُّعها العسكري في المحيط الهادئ.
2– تعزيز المكانة الدولية للهند: سعى مودي خلال زيارته إلى وضع بلاده في مصافِّ القوى العظمى؛ حيث أكد في تصريحاته هناك مكانة الهند في العالم باعتبارها “قوة الصالح العالمي”، وأوضح أن الهند مستعدة دائماً لمساعدة الآخرين متى حدثت كارثة، مشيداً بأنها لا تزال أم الديمقراطية في العالم، فضلاً عن كونها نقطة مضيئة في الاقتصاد العالمي، مستشهداً في ذلك بآراء صندوق النقد الدولي الإيجابية بشأن أداء الاقتصاد الهندي، وقدرته على المساهمة القوية في نمو الاقتصاد العالمي.
هذا وقد أشاد مودي، خلال خطابه في الحدث المجتمعي بسيدني، بالنظام المصرفي الهندي، مُلوِّحاً بالمأزق الكبير الذي تتعرَّض حاليّاً له الأنظمة المصرفية في العديد من البلدان في العالم، بجانب إشارته إلى وفرة القدرات والموارد التي تتمتع بها بلاده، مؤكداً أن الهند تعد أكبر وأصغر مصنع للمواهب.
3– الاستفادة من الجالية الهندية في أستراليا: يتطلع مودي إلى استخدام شعبيته بين الهنود المغتربين لتعزيز الدعم في الداخل قبل الانتخابات العامة المزمع عقدها العام المقبل؛ وذلك بعد أن خسر حزبه الحاكم بهاراتيا جاناتا انتخابات ولاية رئيسية في جنوب الهند هذا الشهر. وتأتي تطلعات مودي في ضوء الروابط الشعبية والثقافية التي تربط بين هنود الشتات في أستراليا بوطنهم الأم؛ حيث يمثل الشتات الهندي 3% من سكان أستراليا البالغ عددهم 26 مليون نسمة، لكنها في الوقت ذاته تمثل الأقلية العرقية الأسرع نمواً في البلاد، كما تعد الجالية الهندية ثاني أكبر جالية في أستراليا بعد البريطانية.
وأثناء مخاطبته آلاف المشجعين الذين احتشدوا في ملعب “Qudos Bank Arena” بسيدني، أثنى رئيس الوزراء الهندي على دور الشتات الهندي الذي ساعد في نقل العلاقة بين البلدين إلى مستوى آخر، التي تقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادل، متطلعاً إلى مزيد من التقدم في العلاقات المشتركة بينهما في مختلف المجالات.
4– مساحة أكبر لكانبرا للمناورة الخارجية: وذلك مع تنامي دور الهند الأمني الإقليمي على خلفية التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، ومن ثم سيساعد التعزيز في العلاقات بين الهند وأستراليا على إنهاء مأزق كانبرا الذي دام عقداً من الزمن مع نيودلهي بشأن شروط اتفاقية التجارة الحرة الأولى بينهما، التي أبرمتها حكومة رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، على وجه السرعة العام الماضي.
من جانبه، قال بيتر فارجيز سفير كانبرا السابق في نيودلهي ومهندس استراتيجيتها الاقتصادية الرئيسية في الهند، أنه لم تكن أستراليا بتاتاً في المرتبة الأولى من أولويات الهند الدولية لفترة طويلة، كما أن مصالح البلدين نادراً ما كانت تتقاطع، بيد أنه أصبح الأمرُ اليومَ مختلفاً، وأصبحت أستراليا عازمة بشدة على تنويع مصادر اعتمادها الخارجي؛ للحد من علاقاتها مع الصين، وقد تكون الهند هي البديل الأنسب، في ضوء التنافس القائم بينهما.
الملفات المشتركة
كشفت الزيارة عن مجموعة من الملفات المشتركة يسعى الجانبان إلى تعزيزها، وبناء مزيد من أطر التعاون بينهما من خلالها، ومنها:
1– السعي إلى جذب الاستثمارات الأسترالية: خلال زيارته، التقى رئيس الوزراء ناريندرا مودي قادة الأعمال في كبرى الشركات الأسترالية، ودعا إلى تعزيز التعاون مع الصناعة الهندية في مجالات مثل التكنولوجيا والمهارات والطاقة النظيفة. وقد أوضح بيان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية في نيودلهي أن رئيس الوزراء قد سلَّط الضوء – خلال اجتماعه مع قادة الأعمال الأستراليين – على الإصلاحات والمبادرات التي يتم تنفيذها في الهند، ودعاهم إلى المشاركة في التكنولوجيا والاستثمار والمهارات في قطاع التعدين والمعادن، مشيراً إلى أن الهند واحدة من الاقتصادات الرئيسية الأكثر تفضيلاً للاستثمارات الأجنبية في العالم.
2– زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين: بنهاية ديسمبر الماضي، نفَّذ البلدان بالفعل اتفاقية مؤقتة للتجارة الحرة، ويتشاركان الآن في توسيع نطاق تلك الاتفاقية إلى اتفاقية تعاون اقتصادي شامل (CECA)، خاصةً أن أستراليا هي الشريك التجاري الثالث عشر للهند خلال العام المالي 2022–2023؛ حيث بلغت الصادرات الهندية إلى أستراليا نحو 7 مليارات دولار أمريكي، بينما وصلت الواردات الهندية من أستراليا نحو 19 مليار دولار أمريكي. وتعد الهند هي أكبر سوق لتصدير الذهب، وثاني أكبر سوق للفحم وخامات النحاس من أستراليا؛ حيث برزت الأخيرة باعتبارها مصدراً رئيسيّاً للفحم الحراري لتلبية احتياجات الهند المتزايدة من الكهرباء.
على الجانب الآخر، فإن أستراليا حريصة على زيادة التجارة مع الهند باعتبار ذلك وسيلةً لتنويع تجارتها الخارجية بعيداً عن الصين؛ الشريك التجاري الأكبر لأستراليا، قدر الإمكان؛ إذ اكتسبت الجهود الأسترالية لتحسين العلاقات التجارية مع الهند إلحاحاً في السنوات الأخيرة؛ وذلك بعد أن فرضت بكين قيوداً على بعض المنتجات الأسترالية. ومن المُتوقَّع أن تتضاعف هذه العلاقة لتصل إلى نحو 40 مليار دولار أمريكي على مدى السنوات الخمس المقبلة، بعد أن دخل اتفاق التجارة حيز التنفيذ العام الماضي لخفض أو إلغاء التعريفات الجمركية على عدد من السلع والخدمات.
3– تعزيز التعاون الأمني والدفاعي: سعى مودي، خلال زيارته إلى أستراليا، إلى تعميق العلاقات الدفاعية والأمنية معها للمساعدة في ضمان حرية وانفتاح منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وقال مودي لصحيفة ذا أستراليان: "باعتبارنا ديمقراطيتين، تشترك الهند وأستراليا في مصالح حرة ومنفتحة وشاملة بين المحيطَين الهندي والهادئ، كما أن هناك توافقاً لوجهة نظرنا الاستراتيجية. وإن الدرجة العالية من الثقة المتبادلة بيننا، قد تُرجِمت بشكل طبيعي إلى تعاون أكبر في مسائل الدفاع والأمن. وأنا على ثقة بأن هناك ميزة في العمل معاً لتحقيق الإمكانات الحقيقية في تعزيز التعاون الدفاعي والأمني".
من جانبه، سبق أن أبلغ ألبانيز البرلمان الأسترالي أن بلاده ستستضيف مناورات بحرية تضم الهند والولايات المتحدة واليابان تسمى مالابار لأول مرة هذا العام، في علامة أخرى على تعميق الالتزام تجاه الرباعية، مشيراً أيضاً إلى أن الهند أصبحت شريكاً استراتيجيّاً رئيسيّاً لأستراليا، باعتبارهما جزءاً من منطقة متنامية وديناميكية. وفي وقت سابق، كان الزعيم الأسترالي قد وصف الهند بأنها شريك أمني من الدرجة الأولى لبلاده، خاصةً أن تكثيف العلاقات الدفاعية بين أستراليا والهند سيُساعد في تقوية ما تسمى "الرباعية".
4– التنسيق في مجالي النقل والهجرة: أعلنت الهند وأستراليا عن إبرامهما اتفاقية جديدة في مجال الهجرة؛ وذلك بعد عامين من المفاوضات بشأنها. وتعتمد الاتفاقية على تعزيز التنقُّل في الاتجاهَين للطلاب والخريجين والباحثين الأكاديميين ورجال الأعمال، خاصةً أنه يوجد في أستراليا بالفعل عدد كبير من الذين هاجروا من الهند؛ حيث تظهر بيانات الإحصاء أن من بين أكثر من مليون شخص انتقلوا إلى أستراليا منذ عام 2016، كان ربعهم تقريباً من الهند.
هذا وستؤدي اتفاقية الهجرة أيضاً إلى إنشاء مخطط جديد يُسمَّى MATES (ترتيب التنقُّل للمهنيين الأوائل الموهوبين)، وهو ما اعتبره مودي تعزيزاً للجسر الحي الذي يربط بين البلدَين. من جانبه، أوضح ألبانيز أن مئات الآلاف من الطلاب الهنود الذي تمكَّنوا من التعليم في أستراليا، قد أفادوا بالفعل الاقتصاد الأسترالي، ومن ثم ستلعب تلك الاتفاقية دوراً كبيراً في تعزيز التعاون الاقتصادي المشترك القائم على الكفاءات والكوادر المهنية.
5– تقوية أطر التعاون في مجال التعليم: أشار نائب رئيس الجامعة مارك سكوت إلى أن عام 2022 قد شهد أعلى مُعدَّلات الالتحاق الدولية في جامعة سيدني، وقد كانت الزيادة مدفوعةً بأرقام من الهند؛ وذلك في جميع الكليات المختلفة، كما أن من المُتوقَّع أن يزداد أعداد الهنود الملتحقين بالتعليم في أستراليا خلال عام 2023 بموجب الاتفاقية التجارية الجديدة؛ حيث سيتأهَّل الخريجون الهنود للحصول على الحق في البقاء في أستراليا لفترة أطول من أجل العمل، بالإضافة إلى الوعد المتبادل بالاعتراف بالمؤهلات التعليمية لدى الجانبَين.
6– جذب السياحة الهندية إلى أستراليا: تسعى أستراليا جاهدةً إلى جذب الطبقة المتوسطة في الهند للقيام بجولات سياحية فيها. وبالفعل أظهرت أحدث البيانات في ديسمبر الماضي أن الهند كانت ثاني أكبر دولة مصدر للزوار بعد نيوزيلندا، لتحل محل الصين في المراكز الخمسة الأولى. وفي وقت سابق من هذا العام، نظَّمت هيئة السياحة الأسترالية رحلات لمجموعة من المؤثرين الهنود على وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهدة بطولة كأس العالم للكريكيت للرجال في ملبورن في أكتوبر الماضي، باعتبار ذلك جزءاً من حملة عالمية أوسع نطاقاً تقوم بها أستراليا لجذب المزيد من السياح إلى البلاد.
بيد أن التحدي الأكبر بالنسبة إلى كانبرا هو ضعف القوة الشرائية للسائحين الهنود مقارنةً بالصينيين، ومن ثم يحتاج قطاع السياحة الأسترالي إلى ما يقرب من ضعف عدد الزائرين من الهند مقارنةً بالصين لتحقيق الإيرادات نفسها، وفقاً لخبراء اقتصاديين في مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية.
ختاماً.. على الرغم مما نشهده من تقارب متزايد جيوسياسي بين أستراليا والهند، فإن هذا التقارب لم توضع حدود له حتى الآن، خاصةً أن الهند حتى إن كانت غير حريصة على التقارب مع الصين، فإنها لن ترغب في سيطرة الغرب – تحت مظلة الولايات المتحدة – على منطقة الهندو–باسيفيك، كما أنها لن تدعم واشنطن عسكريّاً إذا قررت خوض حرب في تايوان ضد الصين؛ فالهند تركز بشدة على مصالحها الخاصة، التي ترتكز على تنويع علاقاتها الخارجية، ومن ثم سيكون من الخطأ الفادح افتراض أن رغبة الهند في تعميق علاقتها بدول مثل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، ستأخذها إلى علاقة من نوع التحالف.
إضافة إلى ذلك، فإن التوقعات الأسترالية بشأن الشراكة الاستراتيجية مع الهند قد يكون مُبالَغاً فيها؛ ففي حين أن الهند عضو في الرباعية، فهي أيضاً الرئيس الحالي لمنظمة شنجهاي للتعاون المُؤسَّسة من قِبل الصين، ناهيك عن كونها عضواً مؤسِّساً في تكتل البريكس الذي تسيطر عليه كل من روسيا والصين، ومن ثم فإن فالسمة الوحيدة الواضحة للتفكير الاستراتيجي الهندي هي أنه مرتبط بشدة بالاستقلالية الاستراتيجية للتحرك من أجل تحقيق مصالحها.