• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
قراءات

عُقِدت القمة الرئاسية الأولى بين الصين ودول آسيا الوسطى بمدينة “شيآن” الصينية يومَي (18-19) مايو 2023؛ وذلك بحضور الرئيس الصيني شي جين بينج الذي أعلن عن بدء “حقبة جديدة” في العلاقات بين الطرفين، تقوم على دعم استقرار وسيادة دول المنطقة، ومنحها 3.7 مليار دولار مساعدات مالية تنموية، وطرح بدء التعاون في المجالات الدفاعية والأمنية؛ ما يعد نقلة نوعية في التعاون بين الطرفين، وهو ما رحبت به دول المنطقة، وأكدت عزمها تعزيز التعاون مع الصين في شتى المجالات، وتنفيذ كافة المشروعات المنضوية في مبادرة “الحزام والطريق”؛ ولذا فإن القمة تدشن مرحلة جديدة من التعاون بين الطرفين، علاوةً على تعزيز نفوذ بكين في المنطقة؛ ما يدعم مكانتها الدولية والتنافس بينها وبين موسكو وواشنطن على بسط النفوذ في المنطقة.

الحقبة الجديدة

عُقدت قمة رئاسية افتراضية بين الصين ودول آسيا الوسطى عبر تقنية الفيديو كونفرانس يوم 25 يناير 2022 بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وتم الاتفاق على عقد قمة “شيآن” – التي تحظى بأهمية تاريخية – بين الطرفين؛ حيث إنها كانت نقطة الانطلاق لطريق الحرير القديم، وتُعَد “بوابة” التواصل بين الصين وآسيا الوسطى. وقد حضر القمة شي جين بينج الذي رحَّب بحفاوةٍ بنظرائه من كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، وقيرغيزستان صدير جاباروف، وطاجيكستان إمام علي رحمن، وتركمانستان جربانجولي بيردي محمدوف، وأوزبكستان شوكت ميرضياييف. وبوجه عام، أكدت القمة عدداً من الأبعاد الرئيسية:

1- تأكيد الأهمية الاستراتيجية لآسيا الوسطى: تتمتع آسيا الوسطى بموقع استراتيجي بالنسبة إلى الصين؛ فهي تربط شرق آسيا بغربها، وجنوبها بشمالها؛ حيث تمتد بين بحر قزوين في الغرب ومنغوليا شرقاً حتى الحدود الروسية شمالاً وأفغانستان جنوباً. وهذا الموقع يتحكم في الممرَّات الجيوسياسية لنقل الطاقة والبضائع التي تربط الصين بالشرق الأقصى ثم بأوروبا، وله دور هام في مبادرة “الحزام والطريق” التي أعلن عنها الرئيس الصيني قبل عقد كامل من كازاخستان، وكانت طاجيكستان أول دولة تُوقِّع على مذكرتها.

وتسعى بكين إلى ربط هذه الدول بالعواصم الأوروبية عبر ممرات برية وموانئ بحرية تقوم الصين بإنشائها، كما أن بكين تستغل هذا الموقع لنقل النفط والغاز الروسيَّين إليها عبر كازاخستان، بما يُقدَّر بنحو 10 ملايين طن من النفط سنويّاً، فضلاً عن نقل 30% من واردات بكين من الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب الصين-آسيا الوسطى؛ هذا فضلاً عن تعزيز التعاون الإقليمي لحماية الحدود مع أفغانستان، ومنع نشاط الجماعات الإرهابية والمتطرفة والجريمة المنظمة، علاوة على التعاون الاقتصادي الهام بينهما؛ حيث شهد عام 2022 ارتفاعاً تاريخيّاً للتبادل التجاري بينهما بلغ 70.2 مليار دولار أمريكي بزيارة 100 ضعف عن مقداره منذ ثلاث عقود.

2- التكريس لرؤية الصين للتعاون مع دول المنطقة: أوضح “بينج” أن القمة تدشن “حقبة جديدة” للتعاون مع دول المنطقة؛ لأن العالم يحتاج “آسيا الوسطى منعمةً بالاستقرار والازدهار والتناغم والترابط” لبناء مجتمع قائم على حسن الجوار والصداقة والازدهار المشترك، وطرح ثلاث مبادرات للتعاون بين الدول الست هي “مبادرة الأمن العالمي” للتصدي للمحاولات الخارجية لإثارة “الثورات الملونة” أو التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ومحاربة الإرهاب والحركات الانفصالية والتطرف، ومبادرة “الحضارة العالمية” للحفاظ على “الصداقة الأبدية” بين دول وتعزيز التعاون الثقافي الشعبي وتعزيز الحوار بين الحضارات عبر تقديم منح دراسية، ومبادرة "التنمية العالمية" لتعزيز التبادل التجاري بين دول المنطقة وتنفيذ مشروعات مبادرة "الحزام والطريق".

3- محاولة دول آسيا الوسطى الاستفادة من الصين: تدرك دول آسيا الوسطى حالة الاضطراب الدولي الحالية، وترى في الصين قطباً إقليميّاً ودوليّاً سيُساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية لديها عبر الاستفادة من حجم القروض والمنح التنموية التي تقدمها بكين سنويّاً، وسيدعم الاستقرار الداخلي بدول المنطقة دون شروط سياسية، لا سيما بعد دعم بكين لكازاخستان وأوزبكستان لمواجهة الاحتجاجات التي شهدتها الدولتان عام 2022؛ لذا فإن التعاون بين الطرفين قائم على حسن الجوار والمنفعة المتبادلة، والاعتقاد بأن بكين تساهم في الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميَّين لمواجهة الاستقطاب الدولي بين موسكو وواشنطن الذي ينعكس على دول المنطقة.

ولذا فإن التعاون بين آسيا الوسطى والصين هام لإحداث نوع من التوازن في علاقاتهما الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية الآنية، وقد اتضح ذلك في كلمة “توكاييف” بالقمة؛ حيث دعا بكين إلى المشاركة في توسيع موانئ بحر قزوين وخط السكة الحديدية “كازاخستان – تركمانستان – إيران”؛ لأنه من أهم أجزاء ممر “الصين – آسيا الوسطى – أوروبا” المعروف باسم "الممر الأوسط".

4- الإعلان عن اتفاقيات متعددة للتعاون: بختام القمة، صدر “إعلان شيآن” الذي حدد عقد القمة كل عامين بإحدى دولها، على أن تعقد في كازاخستان عام 2025. واتفق الرؤساء على إقامة أمانة دائمة لآلية التعاون بينها في الصين، وتعزيز التعاون في جميع المجالات، مع إعطاء الأولوية للنقل والاقتصاد والتجارة. وأعلن “شي جين بينج” أن بكين ستنفق 26 مليار يوان على تنفيذ البرامج المحددة بالقمة، وستقدم 3.7 مليار دولار مساعدات مالية ودعماً مجانيّاً لدول المنطقة وللتخفيف من حدة الفقر.

كما وقَّعت بكين مع الدول الخمس على سبع وثائق ثنائية ومتعددة الأطراف، و100 اتفاقية تعاون في شتى المجالات، وتم الإعلان عن افتتاح قنصلية كازاخية جديدة بمدينة شيآن هي الثالثة بالصين، وتم إطلاق عام 2024 ليكون عامَ السياحة الكازاخستاني في الصين، ووقعت بكين والأستانة اتفاقية للإعفاء المتبادل من التأشيرات، وهي الأولى بين بكين وإحدى دول المنطقة، وتم إطلاق عام الثقافة والفنون لشعوب الصين ودول آسيا الوسطى رسميّاً.

تحديات جيوسياسية

تدشن “قمة شيآن” بالفعل مرحلة جديدة من التعاون بين بكين وآسيا الوسطى، وهي جزء من استراتيجية عامة طرحها الرئيس الصيني “شي جين بينج” في رؤيته للعالم، خلال كلمته أمام المؤتمر الوطني الـ20 للحزب الشيوعي الحاكم عام 2022، وأوضح أن بكين تهدف إلى إقامة نمط جديد من العلاقات الدولية، يتسم بالاحترام المتبادل، والإنصاف والعدالة، والتعاون المربح لمختلف الشركاء لتقاسم ثمار التنمية، بما في ذلك دول آسيا الوسطى، بيد أن هناك عدداً من التحديات التي تواجه التعاون بين الطرفين، ومنها:

1- التأثير المحتمل للاضطرابات الداخلية في آسيا الوسطى: تتوافق النخب السياسية الحاكمة حاليّاً بآسيا الوسطى مع بكين توافقاً تامّاً، وترتبط بعلاقات متميزة مع القيادة السياسية الصينية، وتتبنى التقارب معها، بيد أنه إذا تغيرت بفعل الانتخابات أو الاضطرابات، فإن ذلك سيعرقل تنفيذ الاتفاقيات الطويلة المدى مع الصين، لا سيما إذا تبنت النخب السياسية الجديدة أفكاراً مناوئة لبكين، وربما كان هذا دافع “شي” للتحذير من “الثورات الملونة” التي شهدتها قيرغيزستان لتغيير نظام الحكم فيها، كما أن بعض التقارير الدولية تحذر دول المنطقة من تداعيات القروض المتزايدة من الصين، التي تفرض شروطاً اقتصادية عليها مستقبلاً.

2- إمكانية استهداف المصالح الصينية في آسيا الوسطى: تثار المخاوف من استهداف المصالح الصينية؛ حيث يمثل موقف دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة الرافض لإدانة الصين بشأن الانتهاكات بحق أقلية الإيجور المسلمة التي تنتشر في كازاخستان بكثرة، دافعاً لذلك، وقد شهد عام 2020 حدثاً مماثلاً عندما هاجم المتظاهرون القيرغيز اثنين من مناجم الذهب التي تقوم الشركات الصينية بإدارتها؛ احتجاجاً على تزوير الانتخابات؛ هذا فضلاً عن احتمالات حدوث أعمال إرهابية تهدد استقرار تلك الدول، لا سيما في ظل انتشار التنظيمات الإرهابية، كـ”داعش” و”القاعدة” في أفغانستان المتاخمة لها؛ ما يرفع احتمالية تسلل الإرهابيين منها إلى دول المنطقة.

3- معضلة التحول للتعاون الدفاعي: طرح الرئيس الصيني استعداد بلاده لمساعدة دول آسيا الوسطى في تحسين قدراتها في مجال إنفاذ القانون والأمن والدفاع. وتعد تلك المرة هي الأولى التي يُطرَح فيها رسميّاً تطوير التعاون الدفاعي بين الجانبين، وهو ما سيُثير حفيظة روسيا التي تمتلك فيها قاعدتين عسكريتين بطاجيكستان وقيرغيزستان، وتحظى دول المنطقة بتسليح روسي منذ الحقبة السوفييتية، وتندرج معظمها تحت منظمة “معاهدة الأمن والتعاون الجماعي” بقيادة روسيا، وتنفذ عشرات المناورات مع موسكو سنويّاً؛ ولذا فإن التعاون الدفاعي مع بكين سيمثل تنافساً للوجود الروسي العسكري في المنطقة.

ومع ذلك فإن دول المنطقة قد تنظر إلى التعاون الدفاعي مع الصين باعتباره أمراً مهمّاً لها؛ فبكين قامت بدعم طاجيكستان أمنيّاً لمواجهة الإرهاب، ومن صور هذا الدعم مواجهة تسلل العناصر من أفغانستان إليها، وبنَت قاعدة لحرس الحدود بطاجيكستان. وشارك في عام 2016 بعشرة آلاف جندي وضابط من الصينيِّين والطاجيك في تدريبات مقاومة الإرهاب، ثم أسست بكين “آلية التعاون والتنسيق الرباعي” مع طاجيكستان وباكستان وأفغانستان لضمان الأمن في المنطقة.

4- تفاقم التنافس الإقليمي على النفوذ: رغم تنوع التعاون الاقتصادي والتنموي الذي تقدمه بكين لآسيا الوسطى، فإن ذلك سيعزز التنافس الإقليمي مع دول المنطقة، لا سيما الهند الخصم التقليدي للصين، التي بدأت تعزز تعاونها مع دول المنطقة، خاصةً في ظل منظمة “شنجهاي” التي تتمتع تلك الدول بعضويتها، هذا بالإضافة إلى التعاون الصيني الأفغاني المتصاعد الذي يمثل تهديداً للهند أيضاً؛ حيث تسعى الصين إلى بناء محور سياسي جديد بجنوب آسيا يضم (الصين – باكستان – أفغانستان)، وربما تضم إليه آسيا الوسطى، وهذا سيضمن دعماً إقليميّاً سياسيّاً لمواقف بكين الإقليمية ضد منافسيها؛ فعلى سبيل المثال دعمت كازاخستان المبادرة الصينية لتسوية الأزمة الأوكرانية، وتدعم بكين انضمام كازاخستان إلى مجموعة "بريكس".

كما أن تعزيز التعاون الثقافي وإحياء التاريخ الصيني الآسيوي المشترك، سيعزز التنافس بين تركيا والصين بتلك المنطقة؛ حيث تسعى الأولى إلى تأكيد الروابط والجذور التاريخية التركية لآسيا الوسطى في ظل عضوية هذه الدول بمنظمة “الدول التركية”؛ هذا فضلاً عن احتمالات التنافس حول المشاريع الاقتصادية لنقل الطاقة والتحكم بالممرات الجيوسياسية بين بكين وأنقرة وموسكو.

5- تصاعد حدة الاستقطاب الدولي: بالتزامن مع عقد قمة “شيآن”، عُقدت باليابان قمة السبع الصناعية الكبرى، وأصدرت بياناً تطرق إلى الصين، وهو ما انتقدته الأخيرة، كما عقدت “قمة كواد” التي تضم (الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، والهند، وكوريا الجنوبية)، وهي ضمن سلسلة تحالفات تقودها واشنطن لاحتواء النفوذ الصيني بآسيا، كما أعلنت مجموعة السبع عن تبني استراتيجية جديدة هي “معركة العروض” العالمية مع روسيا والصين، وتهدف إلى استقطاب دول وسيطة مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وكازاخستان، وتقديم منح تنموية لها مقابل تقليل تعاونها مع موسكو وبكين. وسبق لمجموعة السبع أن أعلنت تقديم 600 مليار دولار ستُستثمَر بحلول عام 2027 في البنى التحتية العالمية لمنافسة مشروع “الحزام والطريق” الصيني.

وهذا يتناقض مع إعلان “شيآن” الذي اتفقت فيه الصين ودول آسيا الوسطى على “الدفاع عن التعددية، ومقاومة الأحادية والهيمنة وسياسة القوة”، وهو ما أكده رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس خلال اجتماعهم مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” باحتفالات “عيد النصر” بموسكو في 9 مايو 2023، وهو ما دفع موسكو إلى اتهام واشنطن بأنها تنظر إلى منطقة آسيا الوسطى على أنها أداة ضمن “سياسة احتواء” روسيا والصين، وهو ما يمثل تحدياً لدول آسيا الوسطى التي أصبح لزاماً عليها أن تختار حليفاً دوليّاً وتعادي آخر، وهو ما يفاقم حالة الاستقطاب الدولي بالمنطقة التي سيكون لها ارتدادات إيجابية وسلبية عليها.

مما سبق، نجد أن الصين تعمل على ملء الفراغ الاستراتيجي بآسيا الوسطى بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية. ويسعى الرئيس الصيني شي بين بينج إلى تعزيز مكانته باعتباره قائداً عالميّاً يمتلك رؤية للنظام الدولي قائمة على الاحترام والتعاون المشترك وتبادل المنفعة، وهو ما سيعزز تعاونه مع دول المنطقة التي ترفض التدخلات الغربية في شأنها الداخلي؛ ما سيعزز التنافس بين بكين وواشنطن على بسط نفوذهما بالمنطقة.