على الرغم من السعي الحثيث من جانب الولايات المتحدة وشركائها الآسيويين للحفاظ على توازن القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الهندوباسيفيك”؛ لمنع الصين من أن تصبح قوة مهيمنة في المنطقة، فإنهم، بحسب مقال بمجلة فورين بوليسي، بعنوان “توقفوا عن القلق بشأن الهيمنة الصينية في آسيا”، للكاتب “ستيفن والت” – وهو كاتب عمود في المجلة وأستاذ كرسي “روبرت ورينيه بيلفر” للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد – لا يزالون يخشون من قدرة بكين على إقناع دول جوارها للنأي بأنفسها عن الولايات المتحدة، والقبول بالسيادة الصينية والإذعان لرغبات بكين في قضايا السياسة الخارجية الرئيسية في المنطقة.
طموحات مقلقة
أكد المقال أن ثمة مخاوف أمريكية من قدرة الصين على تحقيق الهيمنة الإقليمية في آسيا، بما يساعدها على البزوغ قوى كبرى، فتُهدِّد نفوذ الولايات المتحدة، ليس في آسيا فقط، بل في العالم كله. ووفقاً للمقال، تتضح أبعاد القلق الأمريكي من حدوث هذا الأمر من خلال ما يلي:
1. مخاوف أمريكية من الصدام مع الصين نتيجة طموحات بكين: أوضح المقال أنه توجد لدى الولايات المتحدة مخاوف من رغبة الصين القوية في أن تسيطر على منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الهندوباسيفيك”؛ حيث أبدى عدد من المسؤولين الأمريكيين السابقين مخاوفهم من رغبة الصين المعلنة في أن تكون “قوة عالمية رائدة”، وجهودها لتغيير الوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي؛ الأمر الذي لن تتقبله الولايات المتحدة بطبيعة الحال، بما يعني تزايد احتمالات المواجهة بين القوتين، ومن ثمَّ صعوبة تجنب الصدام المباشر بين أقوى دولتين في العالم إذا استمر هذا التناقض في المصالح، وفق ما ذكر المقال.
2. رغبة الصين في فرض هيمنتها في الهندوباسيفك لتأمين مصالحها: أشار المقال إلى أن الصين – كغيرها من القوى الكبرى التي تسعى لتحقيق الهيمنة الإقليمية في محيطها الجغرافي؛ لما يوفره لها ذلك من تأمين مصالحها الاقتصادية، ومساعدتها في فرض سيطرتها الأمنية، ومن ثمَّ جعلها آمنة تقريباً من أي مخاطر محيطة – تسعى أيضاً لفرض هيمنتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الهندوباسيفيك”؛ وذلك للتأكد من ابتعاد دول جوارها الإقليمي في هذا المنطقة عن فلك الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي يجعلها أقل عرضةً للتهديد من جانب واشنطن، وأكثر قدرةً على استعراض قوتها في مناطق أخرى حول العالم، وهو ما حدث مع الولايات المتحدة في حروبها في فيتنام والعراق وأفغانستان؛ حيث كانت أراضيها بعيدة عن أي مخاطر، وهو ما سمح لها بممارسة النفوذ حول العالم؛ الأمر الذي يرغب القادة الصينيون أيضاً في تحقيقه، على حد ذكر المقال.
3. سعي الولايات المتحدة لمنع وجود قوة مهيمنة في آسيا وأوروبا: أوضح المقال أن الولايات المتحدة حرصت منذ بداية القرن العشرين على الحفاظ على توازن تقريبي للقوى في أوروبا وشرق آسيا، وحالت دون انفراد أي قوة بالهيمنة على أيٍّ من المنطقتين، موضحاً أن قادة الولايات المتحدة كانوا قلقين من احتمالية وجود قوة مهيمنة في أوروبا أو آسيا، على اعتبار أن هذه القوة المهيمنة قد تكتسب في نهاية المطاف قوة اقتصادية وعسكرية مساوية، أو ربما تتخطى قوة الولايات المتحدة، بما يهدد وضعها الاقتصادي والعسكري ومكانتها قوة عظمى.
عوامل مفقودة
شبَّه المقال سعي بكين للهيمنة في منطقة الهندوباسيفيك بـ”الهدف المستحيل تحقيقه”، خاصةً في ظل عدم وجود العوامل التي ساعدت الولايات المتحدة سابقاً في تحقيق الهيمنة في مناطق أخرى في العالم، ويرتبط بذلك ما يلي:
1. فشل جميع المحاولات التاريخية لتحقيق الهيمنة الإقليمية: وفقاً للمقال، فإن من غير المحتمل أن تنجح أي قوة إقليمية في تحقيق الهيمنة الإقليمية؛ حيث فشلت كل التجارب التاريخية لتحقيق الهيمنة الإقليمية بدءاً من المساعي الفرنسية لتحقيق الهيمنة إبان حكم “نابليون بونابرت”، مروراً بالمساعي اليابانية والألمانية المماثلة خلال الحربين الأولى والثانية؛ وذلك لسببين رئيسيين؛ أولهما اتحاد القوى المجاورة للقوة الإقليمية عادةً لردعها، أو إلحاق الهزيمة بها، ومن ثمَّ إجبارها على التراجع عن فكرة الهيمنة الإقليمية، فيما يتمثل السبب الثاني في النزعة القومية التي تجعل السكان المحليين يبذلون تضحيات هائلة لصد الغزاة، ومن تزايد قوة هذه الدول “الضعيفة” في مقابل القوة المهيمنة، وفق ما ورد في المقال.
2. وجود تداعيات كارثية لفشل تجارب الهيمنة الإقليمية تاريخياً: أكد المقال أن إخفاق فرنسا واليابان وألمانيا سابقاً في تحقيق طموحات الهيمنة أدى إلى تعرض هذه الدول لأوضاع كارثية؛ حيث فقدت فرنسا أكثر من مليون شخص خلال الحروب النابليونية، كما عانت ألمانيا بشدة في كلتا الحربين العالميتين، وانتهى الأمر بها إلى التقسيم لأكثر من 40 عاماً. ووفقاً للمقال، تعرضت اليابان كذلك للقصف بالقنابل الحارقة في الحرب العالمية الثانية، ودُمرت مدينتان بالقنابل الذرية، وأُعيد تشكيل نظامها السياسي من قبل محتل أجنبي.
3. تواجد عدد من القوى الدولية البارزة في محيط بكين الإقليمي: أكد المقال أن هدف الصين في تحقيق الهيمنة في آسيا ربما يكون بعيد المنال، مُرجحاً أن تفشل محاولة الصين لفرض الهيمنة الإقليمية هناك، بل توقع أن تنتهي مساعيها في هذا الصدد بإلحاق ضرر جسيم بمكانتها. وبرر المقال هذا الأمر بغياب الظروف والفرص التي أتاحت للولايات المتحدة تحقيق الهيمنة الإقليمية في آسيا اليوم، بالنظر إلى وجود عدد من القوى الأخرى البارزة في محيط الصين الإقليمي، مثل الهند، وهو ما لم يكن موجوداً في الحالة الأمريكية. ونوه المقال كذلك بامتلاك جيران الصين إمكانيات اقتصادية وعسكرية كبيرة وأسلحة ردع نووية، ناهيك عن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنهم.
وشدد المقال على أهمية أن يقرر القادة الصينيون بأنفسهم الخيار الذي عليهم أن يتخذوه، محذراً من الوقوع في المنطق الخاطئ نفسه الذي أغرى القادة اليابانيين والألمان سابقاً بتحقيق الهيمنة الإقليمية، خاصةً الاستنتاجات الخاطئة بميل ميزان القوى لصالحهم في مقابل القوى الأخرى في آسيا؛ ما قد يدفع هذه القوى إلى الاتحاد في مواجهة الصين، ومن ثمَّ انقلاب ميزان القوى ضد بكين.
4. احتمالية توحد دول الجوار الصيني ضد طموحات بكين: أشار المقال إلى أنه مع تقدم تكنولوجيا المراقبة والاتصالات الحديثة، سيكون من المستحيل إخفاء أي محاولة صينية للهيمنة في آسيا، مضيفاً أنه يمكن للدول المُهدَّدة بهذه المحاولة أن تتشارك المخاوف، وتحشد الموارد، وتُشكِّل استجابة جماعية سريعة، موضحاً أنه يمكن لدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند التوحد في مواجهة الصين، بالإضافة إلى إمكانية حصول هذه الدول على دعم غربي كبير، كما هو الحال في الأزمة الأوكرانية الراهنة؛ حيث كشف الرد الغربي السريع والقويُّ على التدخُّل العسكري الروسي في أوكرانيا، كيف يمكن للدول أن تتعاون معاً في مواجهة خطر مشترك، وأن تأتي استجابتها في إطار نهج متكامل، سريع وجماعي، في مواجهة أي أخطار طارئة.
5. وجود اعتبارات مقيدة لحدوث مواجهة بين واشنطن وبكين: نوه المقال بأن الولايات المتحدة والصين قوتان كُبرَيان، ولا يمكن لأيٍّ منهما شن غزو ناجح ضد الأخرى؛ لاعتبارات متعددة، اقتصادية وعسكرية وديموغرافية وجغرافية، مشيراً إلى ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة على تهدئة المخاوف الصينية إزاءها، وتأكيد عدم رغبة الولايات المتحدة وحلفائها في تهديد استقلال الصين أو وحدة أراضيها، أو تقويض سلطة الحزب الشيوعي الصيني، أو تحطيم الاقتصاد الصيني. وبحسب المقال، فمن جانب آخر، يجب أن تعمل واشنطن على تخفيف العوامل التي يمكن أن تقود بكين إلى أي استنتاج خاطئ بأن محاولات هيمنتها قد تنجح.
الاستثناء الأمريكي
وختاماً، أشار المقال إلى أن الولايات المتحدة هي الاستثناء الوحيد الذي استطاع تحقيق هيمنة إقليمية؛ كونها كانت بعيدة عن القوى العظمى الأخرى، وكانت قادرة على التوسع عبر أمريكا الشمالية دون الاضطرار إلى محاربة أو تحدي قوة كبرى أخرى، أو التغلب على تحالفات مضادة، كما أنها لم تواجه صعوبات كبيرة متعلقة بالنزعات القومية، خاصةً أن السكان الأصليين لم يكونوا يشكلون تحدياً كبيراً لها، وفق ما ذكر المقال.