• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55

هل يمكن تصور أن الانفلات النووي سيكون أحد سمات النظام الدولي الجديد قيد التشكل؟ إذ لم تشهد عملية ضبط التسلح النووي منذ حقبة الحرب الباردة مستوى التراجع الحالي والمواكب للحرب الروسية-الأوكرانية، ولا يزال من غير المعروف ما هي سيناريوهاتها المستقبلية، وبالتالي فإن مصير اتفاقية NEW START المُعلَّقة بين الولايات المتحدة وروسيا سيرتهن بمستقبل هذه الحرب. فقد أعادت موسكو نشر قواتها العسكرية النووية، كما أجرت بعض التجارب الصاروخية (الفرط صوتية) Hyper Sonic العابرة للقارات وآخرها في 11 أبريل 2023، بالإضافة إلى نشر أسلحة تكتيكية في بيلاروسيا، في 4 من الشهر نفسه.

وفي المقابل، اتخذت واشنطن إجراءات مضادة، ففي خطوة جديدة، في مطلع يونيو الجاري، تراجعت واشنطن عن مشاركة موسكو إشعارات الإطلاق والانتشار النووي، بعد أن علَّقت الإشعارات الخاصة بمواقع الصواريخ والقاذفات، في 28 مارس الماضي. وفي ضوء هذه الخطوة، من المرتقب أن تقوم الولايات المتحدة بسلسلة اختبارات خاصة مع تحديث شامل للثالوث النووي الأمريكي قيد التحديث والتطوير المدرج في قانون تفويض الدفاع للعام الحالي بموازنة تقدر بنحو 30 مليار دولار.

تناقضات أمريكية

على الرغم من أن الولايات المتحدة تدعو روسيا إلى العودة إلى استئناف تفعيلNEW STِART، والتي كانت إحدى رسائل مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سولفيان أمام Arms Control Association، في 2 يونيو الجاري، إلا أن هناك شكوكاً في هذا الأمر، يتصدرها التصور الأمريكي بأن معاهدة NEW START كانت سبباً رئيسياً في إهمال واشنطن لتحديث قوتها النووية منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وهو ما اتضح من النقاشات التي جرت في الكونجرس حول الاستراتيجية والسياسات النووية للولايات المتحدة، في 20 سبتمبر 2022، والتي تبعها إدراج موازنة تقدر بـ30 مليار دولار لتحديث قدرات الدفاع النووي.

العامل الآخر الذي يعزز من الفرضية السابقة، هو نظرة الولايات المتحدة للقدرات النووية الصينية المتصاعدة والتي تقدر وزارة الدفاع الأمريكية بأنها ستصل إلى 1550 رأس نووي بحلول عام 2035، ما يفرض على واشنطن التحرر من قيود الاتفاقية، ويعزز من هذه الفرضية أيضاً التطور الخاص بتشكل تحالف AUKUS بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا والذي ستكون بنيته البحرية في الإندو–باسيفيك نووية متطورة.

التهديد الصيني

على هذا النحو، يبدو أن عملية ضبط التسلح النووي على حافة الهاوية، لكن ربما يكون الأسوأ من ذلك هو تراجع الحد من انتشار الأسلحة النووية في ظل تنامي القدرات النووية الصينية، ففي حال صدقت التقديرات الأمريكية بشأن القدرات الصينية فستكون هناك قوة نووية عظمى ثالثة تقترب من سقف القدرات النووية التي حددتها NEW START بفارق 50 رأس نووي فقط، أخذاً في الاعتبار أن بكين تمارس سياسة الغموض النووي، حيث لم تفصح عن قدراتها الفعلية وطموحاتها المستقبلية بشأن التسلح النووي، إضافة إلى غياب أي رد فعل على الرسائل الأمريكية بشأن الانضمام إلى ركب ضبط التسلح النووي.

ومن دون شك، فإن ما يضاعف من مخاوف الانفلات، هو أجواء السباقات متعددة المستويات والأطراف، والتي يواكبها بخلاف استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، ظهور أنماط متعددة من سباقات التسلح والعسكرة ما بين القوى العالمية، منها على سبيل المثال: عسكرة الفضاء، التي سيكون لها انعكاساتها على منظومات التسلح الصاروخي، وكذلك عسكرة الذكاء الاصطناعي الذي سيلعب الدور الأبرز في تشغيل وتطوير هذه المنظومات، بالإضافة إلى التسلح النووي التكتيكي. كما تمتد تلك السباقات على مستويات أقل من القوى العالمية، بالنظر إلى التصعيد الكوري الشمالي، واقتراب إيران من العتبة النووية، واستثنائية البرنامج النووي الإسرائيلي، فضلاً عن الحيازة الفعلية لكل من الهند وباكستان.

مرحلة انتقالية في النظام الدولي

استناداً إلى محصلة المؤشرات السابقة، يمكن القول إنه بالفعل يمكن تصور أن الانفلات النووي سيكون أحد سمات التحولات الجارية في النظام الدولي والذي ستكون موازين القوى العسكرية (الاستراتيجية والتقليدية) هي أحد محدداته. وعلى التوازي مع تشكل هذا النظام ستتشكل بالتبعية منظومة الضوابط والقيود في آن واحد. لكن في هذا السياق، من الأهمية بمكان النظر إلى عدة عوامل مهمة يتمثل أبرزها في:

1. إن الولايات المتحدة تاريخياً كانت هي القوة المبادرة إلى استخدام السلاح النووي ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية، وهي أيضاً التي قادت سباق التجارب النووية من الجيل الثاني مع ظهور القنابل النووية الحرارية أو الهيدروجينية أواخر عام 1952 وهو انفجار أقوى بمئات المرات من القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وهي التي تدرج ميزانية عسكرية لتطوير القدرات النووية للجيل الخامس، في إطار ما يسمى بالعصر النووي الثالث. لكنها في الوقت ذاته كانت القوة العظمى التي وضعت مبادرات للحد وضبط التسلح النووي، منها: اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT-1,2 -1972 :1979)، ومعاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى (INF-1987-2019)، ثم معاهدات START وNEW START (2010-2026). وكذلك كانت الولايات المتحدة هي صاحبة مبادرة إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية (نوفمبر 1974).

ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تطرح مبادرات بديلة لـNEW START العالقة، وإنما تطرح فقط دعوة للعودة إليها مع روسيا، بالإضافة إلى التفاوض مع الصين بشأن الحد من التسلح، ومن ثم فإن غياب المبادرات أو تطوير آليات الضبط والحد من التسلح النووي يدعم فرضية التوظيف الأمريكي لمرحلة الانفلات الحالية في تطوير القدرات النووية بشكل غير مسبوق، كما أنه لا يمكن الرهان على أن رابطة مجلس الأمن التي تجمع الأطراف الثلاثة يمكن أن تشكل الرافعة لوضع ترتيبات أو صيغ لمعاهدات واتفاقيات جديدة يمكن أن تستجيب لها الصين، وتنهي التمرد الروسي، وتعمل على ترويض كل من بيونج يانج وطهران، وطمأنة الدول العربية القلقة في الشرق الأوسط على خلفية برنامج طهران النووي وحيازة تل أبيب للسلاح النووي.

2. هناك أبعاد فنية تتعلق بمؤشر السباقات متعددة الأطراف والمستويات، وهو التساؤل الذي طرحه كل من Stephen Cimbala  و Lawrence J. Korb في مقال مشترك لهما نشر في دورية The National Interest في ديسمبر الماضي، عن مدى جاهزية العالم لعصر الردع الجديد؟، حيث يقران فيما يتعلق بالردع النووي بأنه من المحتمل أن تسبق الضربة النووية الأولى هجمات إلكترونية ضد أنظمة الإنذار المبكر والقيادة والسيطرة والاستجابة للخصم من أجل إحداث ارتباك أو شلل يمكن أن يؤخر أو يحبط استجابة فعالة، ما قد يشكل تحدياً للضربة النووية الثانية، وهنا ستظهر أدوار لعوامل أخرى منها الصواريخ الفرط صوتية Hyper Sonic القادرة على حمل الرؤوس الحربية إلى أي مكان في العالم ونقلها في زمن قياسي، بل ربما يبادر متخذو القرار النووي إلى شن هجمات استباقية بدلاً من انتظار الضربة الأولى. وتشير هذه الاحتمالات إلى حجم المخاوف من الحروب النووية في المستقبل.

كما تناول الكاتبان نقطة أخرى محتملة وهي أنه بافتراض عودة واشنطن وموسكو إلى قواعد اللعبة التقليدية وتطلعهما إلى ما هو أكثر من ذلك وهو نقل خبرات ضبط التسلح إلى الصين، فإنه لا توجد ضمانات لقبول الصين بذلك، بل على العكس سيغري بكين للعب دور القوة النووية العظمى هي الأخرى، إلى جانب أنه يصعب التنبؤ بما يدور في العقل الصيني بشأن عامل الردع النووي.

خيارات صعبة

واقعياً؛ يصعب الاقتناع بأن واشنطن يمكن أن تقنع كلاً من بكين وموسكو بترتيبات نووية على خط واحد، لذا يتطلب العودة عن حافة الهاوية إلى الأمن النووي منح الأولوية للعودة إلى تفعيل NEW START، بالنظر إلى خطورة الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها المحتملة فيما يتعلق بالمخاوف من اندلاع حرب نووية أو عدم القدرة على السيطرة النووية على نحو ما تشير إليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن هناك مخاوف بشأن صمود مفاعل زبوريجيا النووي وتنامي الحديث عن احتمالية اللجوء للأسلحة النووية التكتيكية، وهو أمر يصعب معالجته فقط في إطار ثنائي أمريكي–روسي، إذ من الأهمية بمكان الأخذ في الاعتبار موقف حلف شمال الأطلسي (الناتو) في المعادلة، فمن هنا بدأت نقطة الاشتباك ما بين الحرب الروسية-الأوكرانية وبين الحلف في المقاربة النووية، وهو ما يمكن الاستدلال من وثيقة مدريد 2022 التي سلطت الضوء على أهمية الردع النووي.

أما بالنسبة للصين، فلا شك أنها ستكون الأولوية التالية، رغم صعوبة الخيار ما بين الأولويات، لكن ثمة مؤشرات موضوعية في هذا الصدد، منها أن سباق التسلح الصيني لا يزال في البداية، بالإضافة إلى أن الصين تواجه تحديات في تسريع وتيرة بناء ترسانة تسلح نووي، من أبرزها  فجوة اليورانيوم عالى التخصيب التي تحاول بكين التغلب عليها، وهي فجوة كبيرة تصل إلى 90% تقريباً وفق تقديرات صينية بعد عملية مسح جيولوجي لليوارنيوم العام الماضي، وقد بدأت الصين بالتغلب عليها جزئياً باللجوء إلى روسيا، ففي الأسبوع الأول من مايو 2023 وافقت موسكو على توريد اليورانيوم 235 عالي التخصيب إلى بكين خلال السنوات الثلاث المقبلة. كما تباشر الصين البحث عن بدائل أخرى في أفريقيا.

لكن من جهة أخرى، من المهم النظر إلى أن الصين لا تتبنى بالضرورة الإسراع في سد تلك الفجوة من أجل عمليات التسلح النووي، بالنظر لحاجة الصين إلى الطاقة النظيفة للأغراض المدنية، وكل ما لديها يغطي فقط نحو 10% من تلك الاحتياجات. كذلك ووفقاً لبيان منشور على موقع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 22 مايو الفائت، فإن الصين وقعت عدة اتفاقيات مع الوكالة (93 مشروعاً للتعاون التقني تشمل الأنشطة الوطنية والإقليمية و49 مشروعاً بحثياً مشتركاً)، في مؤشر على أن الوكالة يمكن أن تكون هي الآلية المقبولة لدى بكين في هذا السياق، وليس الولايات المتحدة وروسيا.