دخلت الحرب الروسية-الأوكرانية منحنى جديداً في السادس من يونيو؛ وذلك مع تدمير سد “نوفا كاخوفكا الكبير”، الواقع بمنطقة خيرسون في جنوب أوكرانيا. وعلى الرغم من رفض الجانب الروسي تحمل مسؤولية انفجار السد في ضوء الاتهامات الأوكرانية لموسكو في هذا الصدد، وظهور اتجاه آخر يرجح وقوع أعمال تخريبية داخلية في السد؛ ما أدى إلى انهياره، فإن هذه الواقعة بدأت بالفعل في التأثير على مسار الحرب المستمرة منذ أكثر من عام؛ فمن ناحية، ساهم انهيار السد وتدمير محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية بالقرب منه، إلى غمر المياه نحو ستمائة كيلومتر مربع، من خيرسون والمناطق الأخرى المجاورة القائمة في الجنوب الأوكراني. وقد أدى ذلك إلى تشريد الآلاف، وتدمير جزء كبير من البنية التحتية بالمنطقة. وعلى صعيد آخر، يهدد انهيار السد بوقوع كارثة نووية؛ حيث إنه يساهم في تبريد المفاعلات النووية الخاصة بمحطة زابوريجيا النووية. وأخيراً، قد تدفع واقعة انهيار السد الحكومة الأوكرانية إلى تعديل خطتها الهجومية على المدى القصير.
خلفية الواقعة
في الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء الموافق السادس من يونيو، بدأت المحطات العالمية في رصد الانهيار المفاجئ لسد نوفا كاخوفكا الواقع في جنوب البلاد. وقد امتد التأثير السلبي للسد المنهار ليشمل 30 قرية في الجنوب الأوكراني، من بينها 10 قرى تقع تحت سيطرة القوات الروسية. وقد سارع الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” إلى زيارة منطقة خيرسون الجنوبية التي ضربتها الفيضانات لتقييم الأضرار الناجمة عن انهيار السد. وقد انتقد “زيلينسكي” في الوقت ذاته الأمم المتحدة والصليب الأحمر، واتهمهما بالتخاذل؛ لعدم مشاركتهما في جهود الإغاثة.
وبالتوازي مع ذلك، دخلت موسكو وكييف في صراع جديد حول الرواية، في ظل اتهام كل طرف للطرف الآخر بالتسبب في هذه الكارثة، وبوجه عام أثار الحادث عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- الأهمية المحورية لسد “كاخوفكا”: يمتد سد كاخوفكا على طول نهر دنيبر، وهو ممر مائي رئيسي أصبح على خط المواجهة في الصراع الروسي الأوكراني؛ وذلك لوقوعه بمدينة خيرسون القائمة في الجنوب الأوكراني، التي تعرف باسم مدينة السفن على البحر الأسود. وقد سعت موسكو منذ اللحظات الأولى للحرب إلى السيطرة على مدينة خيرسون؛ لموقعها الاستراتيجي على البحر الأسود، ولأنها تخدم الأهداف الجيوسياسية الروسية في المنطقة، باعتبارها منفذاً هامّاً على المياه الدفيئة، التي تعد البوصلة التي تحرك السياسات الخارجية الروسية في حربها الحالية بأوكرانيا.
يضاف إلى ذلك، وقوعها على مقربة من جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إلى أراضيها في عام 2014. إلا أنه في نوفمبر من 2022، تمكن الجيش الأوكراني من تحرير جزء كبير من مدينة خيرسون الواقعة على الضفة الغربية، عقب ثمانية أشهر من السيطرة الروسية الكاملة عليها، إلا أن أغلبية المناطق الواقعة على الضفة الشرقية للنهر جنوب سد نوفا كاخوفكا بالمدينة، لا تزال تحت السيطرة الروسية. وقد كانت أوكرانيا تخطط لاستعادة هذه المناطق بصورة كاملة خلال الصيف القادم، كما بدأت بالفعل تنقل المعركة إلى الخطوط الأمامية الروسية.
2- رفض موسكو تحمل مسؤولية انهيار السد: منذ الساعات الأولى لتدمير السد، بدأت كل من موسكو وكييف بتبادل الاتهامات حول مسؤولية ومنشأ التفجير؛ ففي الوقت الذي نفت فيه القوات الروسية مسؤوليتها عن هذا العمل التخريبي الكبير – الذي لن تقتصر آثاره التدميرية على المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الأوكرانية في الجنوب، وإنما ستشمل جزيرة القرم وبعض المناطق التي توجد بها القوات الروسية – رفضت أوكرانيا هذا الطرح.
وتلقي روسيا باللوم على أوكرانيا، بدعوى أن تدمير السد يخدم مصالح كييف، ويعمل على تقويض التحركات العسكرية الروسية. يضاف إلى ذلك، معاناة جزيرة القرم من حالة من الشح المائي الكبير منذ ضمها إلى روسيا في 2014، ومضاعفة انهيار السد من الوضع المائي المتراجع بالفعل في الجزيرة. أخيراً، دعمت شهادة ضابط أوكراني هذا الطرح الروسي؛ حيث قال النقيب الأوكراني “أندريه بيدليسني”، خلال مداخلة هاتفية أجراها مع شبكة “سي إن إن” الأمريكية، إن رجاله قد شهدوا تعرض جنود روس للجرف بفعل مياه السد، وأكد أيضاً غمر المياه معسكرات الجنود الروس القائمة في الضفة الشرقية للسد، مع عدم وجود أي أدلة على بقاء أي من قاطني هذه المعسكرات على قيد الحياة.
3- تأكيد أوكراني للتورط الروسي في الواقعة: يرجح بعض الخبراء الرواية الأوكرانية التي تساندها بعض الدول الغربية؛ حيث إن القوات الروسية تسيطر على السد والمناطق المحيطة به منذ أشهر طويلة، كما أن أي هجوم خارجي ضد البنية التحتية للسد، لا يمكن أن تؤدي إلى انهياره بصورة شبه كاملة، على غرار وضعه حالياً. يضاف إلى ذلك، عدم تعرض البنية التحتية لأي أذى هيكلي منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، ولم ترصد الأقمار الصناعية أي خلل في بنيته التحتية قبيل الانهيار التام الذي شهده في السادس من يونيو، وهو ما يدعم رواية الحكومة الأوكرانية. وقد قال “إيهور سيروتا” رئيس الشركة الأوكرانية الحكومية القابضة للطاقة الكهرومائية، في مقابلة صحفية: “إن ضربة صاروخية لن تتسبب في مثل هذا الدمار؛ حيث تم تدشين البنى التحتية للسد بمعايير أمان عالية، تسمح له بتحمل قنبلة ذرية”.
4- توظيف أوروبي لحادث انهيار السد: سارع العديد من القيادات السياسية الأوروبية إلى اتهام روسيا بالوقوف خلف هذه العملية، مع تأكيد أنها تعد جريمة من جرائم الحرب؛ وذلك بالنظر إلى البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف، التي تم إقرارها عام 1977. وقال المستشار الألماني “أولاف شولتز” إنه يرى الهجوم “بُعداً جديداً” للحرب الروسية. وبينما تجنب القول صراحة إن قوات الكرملين دمرت السد، قال إن الهجوم “يناسب الطريقة التي يدير بها بوتين هذه الحرب”، بينما وصف وزير الخارجية البريطاني “جيمس كليفرلي” الهجوم الذي أدى إلى انهيار السد بأنه “عمل بغيض”، مضيفاً أن “الهجوم المتعمد على البنية التحتية المدنية حصرياً هو جريمة حرب”.
5- التعامل الأمريكي والصيني الحذر مع الحادث: اللافت أن ثمة تعاملاً حذراً من جانب واشنطن والصين مع الحادث؛ فواشنطن لم تسارع باتهام موسكو بالتسبب في الحادث؛ حيث خرج منسق مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض للاتصالات الاستراتيجية جون كيربي، يوم 6 يونيو الجاري، ليعلق أن “الولايات المتحدة تقيم تقارير حول ما قد يكون سبباً لانهيار سد نوفا كاخوفكا في أوكرانيا”، لكنه أوضح أنه “لا يمكننا أن نقول بشكل قاطع ما حدث في هذه المرحلة”. ورفض أن يقول “إذا ما كانت الولايات المتحدة قد استنتجت أن روسيا من المحتمل أن تكون وراء انهيار السد، أو إذا ما كان ذلك فعلاً متعمداً”.
وبدورها، تجنبت الصين توجيه أصابع الاتهام إلى طرف بعينه في هذه الواقعة، إلا أنها قد عبرت عن تخوفها ورفضها الكبير لمثل هذه الوقائع؛ حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانج وينبين” تعليقاً على الواقعة: “تعرب الصين عن قلقها البالغ إزاء الأضرار التي لحقت بالسد كاخوفكا”، وأضاف أن بكين “قلقة للغاية بشأن الآثار الإنسانية والاقتصادية والبيئية الناتجة”. وقال “وانج”: “ندعو جميع أطراف الصراع إلى الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وبذل قصارى جهدهم لحماية سلامة المدنيين والمنشآت المدنية”.
6- الدعوة التركية إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية: حيث ظهرت بعض الدعوات عقب حادث انهيار السد إلى تشكيل لجنة تحقيق للوقوف على أسباب الحادث؛ فعلى سبيل المثال، سارعت تركيا للعب دور في هذا الموقف المشتعل؛ حيث أجرى الرئيس التركي مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، الذي قال خلالها “بوتين” إن ما يجري ما هو إلا لعبة جديدة. وقد أعلن مكتب الرئيس “أردوغان” عن اقتراح الرئيس التركي إمكانية تشكيل لجنة تحقيق بمشاركة خبراء من أوكرانيا وروسيا والأمم المتحدة والمجتمع الدولي، بما في ذلك تركيا، لإجراء تحقيق مفصل حول الواقعة.
تبعات محتملة
على الرغم من عدم حسم الجانب الروسي والغربي الطرف الذي يقف خلف هذه الواقعة، فإن تداعياتها الكارثية قد توالت وأثرت بالسلب على حياة المواطنين والأنشطة العسكرية للطرفين المتقاتلين بدون أدنى تفرقة على النحو التالي:
1- التسبب في كارثة إنسانية وبيئية: أشارت التقديرات إلى أن انهيار سد “نوفا كاخوفكا” سيعرض حياة 40 ألف شخص ممن يعيشون في المناطق القريبة من السد، لخطر الفيضانات؛ حيث يحتوي السد على نحو 18 مليون متر مكعب من المياه، ويؤدي انهياره إلى تدهور الزراعة في جنوب أوكرانيا، وتدمير البنية التحتية، وإعاقة إمدادات المياه لشبه جزيرة القرم، فضلاً عن التسبب في كارثة بيئية في جنوب أوكرانيا.
كما حذر “إريك تولفسن” رئيس وحدة مكافحة التلوث الناتج عن الأسلحة التابعة للصليب الأحمر، من جرف مياه الفيضانات بعض الألغام التي تم زرعها في هذه المنطقة، خلال فترة حكم الاتحاد السوفييتي، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفة خطر تعرض المزيد من المشردين للموت في حالة انفجارها، وقد يدفع أيضاً بعض المتطوعين إلى الإحجام عن المشاركة في أعمال الإنقاذ خوفاً من تعرض حياتهم للخطر. أخيراً، قال مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة إن إحدى فرقها المشاركة في جهود الإغاثة بمنطقة خيرسون، قد أكدت صعوبة القيام بأنشطة الإغاثة في ظل شح وعدم وفرة أبسط الأدوات اللازمة للإغاثة، وعلى رأسها مياه الشرب.
2- التأثير المحتمل على محطة زابوريجيا النووية: أعربت “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” عن مخاوفها من تأثير انهيار السد على سلامة وكفاءة عمل محطة طاقة نووية أوكرانية؛ حيث تتخوف الوكالة من انقطاع مياه التبريد لمفاعلات محطة زابوريجيا النووية، التي تعتمد على بحيرة السد القريبة من المحطة. وعلى الرغم من خروج المفاعلات النوعية القائمة في المحطة عن العمل منذ أن استولت القوات الروسية على المحطة في مارس 2022 – أي أنها لا تحتاج كميات كبيرة من المياه لخفض حرارة هذه المفاعلات – فإنها ما زالت بحاجة إلى نحو 500000 لتر من الماء في الساعة الواحدة لتبريدها. وعلى الرغم من إمكانية الاعتماد على المياه المتجمعة في البحيرة الصناعية التي تم تدشينها قبل سنوات بالقرب من السد، فإن السلطات الأوكرانية تؤكد أنه يمكن الاعتماد على هذه المياه لمدة لا تزيد عن 8 أشهر، كما أن ارتفاع درجات الحرارة، سيساهم في تسريع عمليات البخر، وخسارة البحرية جزءاً كبيراً من مخزونها الاستراتيجي من المياه.
3- احتمالية إبطاء التحركات العسكرية للطرفين: تزامن حادث انهيار السد مع تخطيط أوكرانيا لشن هجوم مضاد لاستعادة الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية في جنوب البلاد. وقد استعدت أوكرانيا بصورة موسعة لهذا الهجوم طوال فصل الشتاء الماضي؛ حيث منعت الثلوج قيام كييف بمثل هذا الهجوم خلال فصل الشتاء، إلا أن الفيضانات المتوقعة قد تتسبب في إبطاء أو إيقاف أي خطط عسكرية ميدانية من جانب القوات الأوكرانية. ومن غير المرجح أن تتحمل الأرض التي غمرتها الفيضانات، أوزان الدبابات والمدفعية والمعدات العسكرية الثقيلة التي كانت تخطط أوكرانيا لنقلها إلى جنوب البلاد، استعداداً لتوجيه هجوم مضاد للقوات الروسية المسيطرة على هذه الأماكن.
4- ضغط أوكرانيا على الدول الغربية للتسليح: ربما توظف كييف حادث انهيار السد من أجل الضغط على الدول الغربية لتسريع وتيرة التسليح والحصول على المزيد من الأسلحة النوعية، وخصوصاً أن ثمة تحركات تقودها بعض الدول، على غرار بريطانيا، من أجل إمداد أوكرانيا بطائرات مقاتلة من طراز “إف 16″، وكذلك العمل على تدريب الطيارين الأوكرانيين على قيادة هذه الطائرات.
وختاماً، يمكن القول إن انهيار سد كاخوفكا ما هو إلا ملمح بسيطة لحرب الصيف القادمة، التي يتوقع أن يلجأ كل طرف فيها إلى استخدام جميع الأساليب والأدوات المتاحة لحسم المعركة، دون الاضطرار للدخول في عام ثانٍ من هذه الحرب المكلفة.