• اخر تحديث : 2024-05-03 14:30

شهدت مدينة “أنسي” الفرنسية الواقعة شرق البلاد، يوم 8 يونيو الجاري، حادث هجوم مروع ارتكبه لاجئ سوري عن طريق طعن 4 أطفال واثنين من كبار السن المتقاعدين بسكين حاد. وأظهر مقطع فيديو للهجوم، صوَّره أحد المارة وتحقَّقت منه وكالات الأنباء، المهاجم وهو يقفز فوق جدار منخفض ليتسلل إلى ملعب للأطفال، ويدفع بشكل متكرر طفلاً في عربة أطفال، ويدفع أيضاً امرأة تحاول صده جانباً. وعن حالة الضحايا الصحية، تداولت وسائل الأنباء أخباراً بأن اثنين من الأطفال الجرحى وشخصاً بالغاً في المستشفى يعانون من جروح خطيرة تهدد حياتهم، بينما أصيب الضحايا الآخرون بإصابات أقل خطورة.

وقد أعاد هذا الحادث إلى الأذهان، موجة عمليات العنف (الإرهابية في الأساس) التي تعرضت لها فرنسا بكثافة خلال الأعوام 2015–2017 وبشكل متقطع بعدها، وأعادت طرح تساؤلات على الطاولة بشأن مدى نجاح السياسات الفرنسية للتصدي لأشكال العنف المختلفة التي يتعرض لها الفرنسيون، ولعل أبرز أشكالها الراهنة: هجمات الذئاب المنفردة، وسياسة تحييد العنف الإسلاموي. بالإضافة إلى ذلك، فإن ملابسات الحادث الحالي قد تضع صانع القرار السياسي في مأزق؛ لكونها هجمة ربما تكون ذات صبغة مختلفة عن سابقاتها (لكون مرتكب الهجوم مسيحيّاً)، بما يُرتِّبه ذلك من انتقادات داخلية بشأن فشل الحكومة في التعامل مع ظاهرة العنف في الأماكن العامة من منظور شامل، وانتظارها وقوع الحوادث لبدء التعامل معها بمنطق "القطعة".

ملابسات الهجوم

تكشف المعلومات المتاحة عن الهجوم عن عدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1. تورط لاجئ سوري في الهجوم: بحسب الأدلة التي جمعتها جهات التحقيق الفرنسية، فإن منفذ الهجوم لاجئ سوري مسيحي يسمي “عبد المسيح”، ولد عام 1991 في سوريا، وغادر بلاده عام 2011 بعد اندلاع الحرب الأهلية؛ نظراً إلى تجنيده إجباريّاً في الجيش السوري آنذاك. وكانت أول محطة توقَّف فيها هي تركيا؛ حيث التقى زوجته (التي صارت طليقته) وهي سورية الجنسية أيضاً. وفي عام 2013، غادر الزوجان إلى السويد؛ حيث حصل على اللجوء السياسي في نوفمبر من العام نفسه، كما تشير البيانات إلى أنه تقدم بطلب لجوء لفرنسا، لكن تم رفض طلبه في 4 يونيو 2023، كما أظهرت وثائق محكمة سويدية اطلعت عليها رويترز، أن المشتبه به تم تغريمه بتهمة الاحتيال في السويد في عام 2022؛ للمطالبة بإعانة بطالة وإعانة طلابية في الوقت نفسه.

2. غموض دوافع تنفيذ الهجوم: لم تعلن الشرطة الفرنسية بعدُ عن الدوافع المؤكدة من وراء الحادث؛ حيث أبقت جهات التحقيق على كافة الاحتمالات مفتوحة، سواء كان الحادث ناتجاً عن حالة جنون أو صدمة نفسية نتيجة التغرب لمدة طويلة، أو مدفوعاً بمؤثرات ذات صلة بحالة الحرب في سوريا، أو وليد أزمة عائلية أو مشاكل شخصية.

وبالإضافة إلى الدوافع المحتملة السالفة الذكر، التي تبدو مرتبطة بخلل في الاتزان النفسي لمنفذ الهجوم، فإن احتمال وجود دافع إرهابي لا يزال أيضاً قائماً، وهو ما يتضح من تصريحات مكتب المدعي العام لمكافحة الإرهاب (PNAT)، الذي أكد إجراءه تحقيقاً من زاوية الكشف عن أي ارتباط للحادث بأي مجموعة أو تنظيم إرهابي، وإن رجَّح عدم وجود دليل قاطع بشأن أي روابط إرهابية للحادث.

3. حمل بعض الضحايا جنسيات أجنبية: أعلن مكتب المدعي العام في “أنسي” أن الكشف عن دوافع الجريمة يزداد تعقيداً؛ نظراً إلى حمل أحد الأطفال المصابين الجنسية البريطانية، وحمل آخَر الجنسية النمساوية، بما يضع شكوكاً معتبرة حول السرديات التي تدفع بأن فرنسا أو الشعب الفرنسي هم المستهدفون من وراء الهجوم، كما أن كون الضحايا الرئيسيين أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 22 شهراً و3 أعوام، يجعل احتماليات التعامل مع شخص متزن نفسيّاً ضعيفة إلى حد بعيد، خاصةً أنه حادث طعن مقصود لأشخاص بعينهم، وليس حادث تفجير يحصد ضحاياه بعشوائية.

4. مشاركة الشرطة السويدية في التحقيقات: بخلاف شهادات المارة والموجودين في مكان الواقعة، التي ركزت على ارتكاب الجريمة، قامت الشرطة السويدية باستجواب زوجته السورية المقيمة هناك، التي أفادت بأنه بدأ يتعرَّض لمشكلات نفسية نتيجة اختلاف وجهات النظر بشأن البقاء في السويد أو الذهاب إلى فرنسا؛ حيث كان الجاني يرغب في ترك السويد، في حين تفضل زوجته البقاء بها بعد استقرار الأحوال المعيشية.

تداعيات محتملة

سيكون لهذا الهجوم عدد من التداعيات المؤثرة على المشهد السياسي داخل فرنسا، وكذلك أوضاع اللاجئين في الدولة. وفي هذا الصدد، يمكن تناول أبرز التداعيات على النحو التالي:

1. تعقيد مواقف القوى السياسية في فرنسا: لم يتردد ماكرون عقب الحادث في الخروج للحديث إلى الأمة، وتوصيف هذا الهجوم بـ”الجبان”؛ وذلك لعلمه أن مثل هذه الحوادث تُعيد إلى الذاكرة الجمعية الفرنسية مخاوف الهجمات الإرهابية – حتى وإن لم تكن كذلك – وتهديدات السلم المجتمعي عامةً. وبينما ندد ماكرون بما سماها “عملية نزع الحضارة” في البلاد، استغل نواب معارضون هذا الموقف لإلقاء اللوم على حكومته بوصفها متساهلة للغاية فيما يتعلق بتطبيق القانون وفرض النظام والحماية للمواطنين. وبينما اعتقد البعض أن يُلقِي اليمين الفرنسي سهام النقد اللاذع على الحكومة عقب هذا الهجوم؛ نظراً إلى كون منفذ العملية لاجئاً سوريّاً، فإن غموض الدوافع وتفرُّد هذا الحدث من حيث الملابسات، جعلت تعليقات “مارين لوبان” وكوادر حزب التجمع الوطني متزنة؛ لمراعاة مشاعر الضحايا.

2. تصاعد الانتقادات للإجراءات الأوروبية بشأن اللجوء: اللافت أن حادث “أنسي” جاء بالتزامن مع إعلان دول الاتحاد الأوروبي، يوم 8 يونيو الجاري، عن توصلها إلى اتفاق حول تقاسم مسؤولية رعاية اللاجئين والمهاجرين. وبموجب تقارير إعلامية "يقضي الاتفاق بوجوب تقاسم أعباء المهاجرين وطالبي اللجوء الواصلين حديثاً إلى دول الاتحاد، على أن تدفع الدول الرافضة للمشاركة في تلك الآلية 20 ألف يورو عن كل مهاجر للدولة التي يوجد بها، كما اتفق وزراء داخلية التكتل على وجوب التسريع بالبت بطلبات اللجوء، خاصةً لمن هم غير مؤهلين للحصول على تلك الصفة، تمهيداً لترحيلهم".

هذه القواعد لم تكن موضع قبول بعض قادة اليمين في فرنسا، الذين استغلوا فرصة هجوم أنسي لتوجيه انتقادات للضوابط والإجراءات الأوروبية؛ فعلى سبيل المثال، ذكر رئيس حزب “الجمهوريين” إيريك سيوتي، يوم 8 يونيو الجاري، عقب الحادث، أن “علينا أن نستخلص كل العبر بدون سذاجة وبحزم ووضوح”، ثم عاد في يوم 9 يونيو الجاري، لينتقد ما اعتبره “إدارة كارثية للجوء في أوروبا”، وطالب بعدم “الخضوع للقواعد المفروضة علينا”؛ وذلك في إشارة إلى اتفاق دول الاتحاد الأوروبي الأخير بشأن الهجرة واللجوء.

3. جدل تعامل الإعلام الفرنسي مع الهجمات المماثلة: تناول الإعلام الفرنسي من جانبه الحادث بقدر من التحفظ وعدم الاستباق؛ نظراً إلى غموض الدوافع وعدم القدرة على تنسيب الواقعة إلى التيار المتطرف الإسلاموي؛ نظراً إلى ديانة منفذ العملية. وقد ركز الإعلام الفرنسي في تغطيته على الجانب الاستقصائي وجمع الأدلة، وإن كانت بعض التحليلات الإعلامية على بعض القنوات الفرنسية الشهيرة، مثل TV5 وFrance 24، خرجت لتتناول ضرورة مراجعة الوضع الأمني في فرنسا من جانب، وطريقة التعامل مع المهاجرين في سياق أوروبي أشمل من جانب آخر.

لذلك من المتوقع أن يسهم هذا الحدث في إيجاد حالة زخم عام حول ضرورة مراجعة الخطاب الإعلامي في مثل هذه المواقف، على اعتبار أن الأحكام المسبقة ولغة الاستنفار التي سادت خلال السنوات الماضية، لم تؤدِّ إلا إلى تكرار هذه الحوادث، بل تسليط الضوء على ثغرات النظام الأمني وهواجس المجتمع الهشة التي يمكن اختراقه من خلالها.

4. احتماليات التأثير على سياسة فرنسا تجاه اللاجئين: كثيراً ما تُنتقَد فرنسا سياستها المتبعة في موضوعات الهجرة واللجوء؛ نظراً إلى دفاعها عن أهمية اضطلاع الدول الأوروبية بمسؤولياتها بشكل عادل في هذا الملف (مثل سابق اتهامها لإيطاليا بالتنصل من التزاماتها عقب واقعة الامتناع عن استقبال مركب لاجئين من شمال أفريقيا)، في حين تُتَّهم بأنها على أرض الواقع تستضيف أعداداً ضعيفةً (مقارنةً بألمانيا) نسبةً إلى ناتجها المحلي الإجمالي.

وقد اتبعت فرنسا هذا النهج “المراوغ”، كما تصفه بعض الدول الأخرى، استناداً إلى التهديدات الإرهابية وعمليات العنف التي تعرَّضت لها، مع تنامي موجات اللجوء من سوريا ومناطق النزاعات خلال الأعوام الماضية؛ لذلك، وبغض النظر عن دوافع الهجوم وما ستكشفه التحقيقات من ملابسات إضافية، فإن من المتوقع أن يسهم هذا الحادث في خلق مبررات إضافية لباريس لتشديد سياسات الهجرة واللجوء التي تتبعها، وقد تستند إلى أنها ضحية أعمال إجرامية من اللاجئين، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والدينية.

5. إمكانية تحفيز خطاب “كراهية الأجانب”: بشكل طبيعي، تم إعلان حالة استنفار أمني في البلاد، وما صاحب ذلك من فحص لسجلات حركة المواطنين والأجانب عبر الحدود خلال الفترة الماضية؛ وذلك لتقييم مدى وجود احتمالية لتكرار مثل هذه الحوادث من لاجئين سوريين أو عرب دخلوا فرنسا مؤخراً. وبشكل متزامن، بدأت بعض الحركات المعروفة بمعاداتها لتيارات الهجرة والقادمين من الخارج، تنشر دعوات إلى العودة للضغط على الحكومة الفرنسية بقوة في هذا الملف، ومنها “الحركة الهويتاية الفرنسية Mouvement Identitaire Francais”.

الخلاصة: إنْ كانت دوافع وملابسات هذا الاعتداء لم تتضح بعدُ بالشكل الكامل، إلا أن هذه الواقعة تُعِيد إلى السطح من جديد المخاوف الأمنية التي سيطرت على المجتمع الفرنسي خلال الأعوام القليلة الماضية، كما أن التداعيات الأولية لهذا الهجوم تشير إلى أن غموض الدوافع والملابسات لم يَحُل دون إذكاء الحراك الشعبي المعادي للهجرة بشكل سريع، بل أثبت أن أي سياسات حكومية متحفظة تجاه ملف الهجرة، تتسم بقدر نسبي من التريث والهدوء مقارنةً بسرعة تعامل التيار المجتمعي معها وحِدَّة رد فعله تجاهها، وهو ما سيضع الحكومة الفرنسية في موضع ضغوط داخلية معتبرة قد يجعلها تُشدِّد الإجراءات المتبعة؛ لا لشيء إلا لمواكبة رد الفعل الشعبي المتسارع.