• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
دراسات

الإسلامويّة التونسيّة والانتقال المستحيل نحو الديمقراطيّة قضيّة “الطواغيت” مثالًا


مقدمة:

حُكم على راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية يوم الإثنين 15 مايو 2023 بسنة سجنًا وغرامة مالية تُقدر بألف دينار تونسي بسبب ما يعرف بقضية الطواغيت، وتتمثل هذه القضية في دعوى رفعها ضده نقابي أمني على خلفية أقوال ذكرها الغنوشي يوم 20 فبراير 2022، في أثناء تأبينه لأحد قياديي حزب النهضة، فرحات عبار، أشاد فيها بشجاعة الفقيد وبأنه “لا يخشى حاكمًا ولا طاغوتًا”. ورأى الشاكي أن ذلك يمثل تحريضًا على المؤسسة الأمنية، وأن المقصود بالطاغوت هو الشرطة.

يُعبّر حكم القضاء التونسي بتجريم استخدام لفظة “طاغوت” في سياق التأبين عن تطور الوعي بخلفيات الأيديولوجيات الإسلاموية ومخاطرها التي تخفيها وراء كلمات قد لا يدرك الإنسان العادي دلالاتها العنيفة. وجدير بالذكر أن بيانًا وقعه أكاديميون غربيون وعرب عَدّ الحكم الصادر ضد الغنوشي سياسيًّا وماسًّا بحقوق الإنسان، واعتداءً على ما سماه الديمقراطية الإسلامية، ومن بين هؤلاء الموقعين: الأساتذة تشارلز تايلور، وجون إسبوزيتو، وفرانسيس فوكوياما، وفيليب شميتير، وكليمنت إتش مور، وأوليفييه روي، وفرانسوا بورغا، وجوسلين سيزاري، ونعوم تشومسكي، ولاري دايموند، وجون إنتيليس، وبرهان غليون، وإلين لوست، وخالد أبو الفضل، وجون كين وتشارلز تريب. ومما ورد فيه: “من أبرز وآخر من تعرضوا للاعتقال التعسفي راشد الغنوشي، الذي انتُخب ديمقراطيًّا رئيسًا للبرلمان التونسي الذي حلّه الرئيس قيس سعيد بطريقة غير دستورية. اعتُقل الغنوشي يوم السابع عشر من إبريل 2023، وبذلك انضم إلى العشرات من زعماء المعارضة الذين غُيّبوا وراء القضبان في السجون. وما التُّهم الموجهة إليه، كما هو الحال مع غيره من زعماء المعارضة، إلا محاولة يائسة لاجتثاث واحد من الأصوات الأعلى التي تقاوم تدمير الديمقراطية في تونس وتحويل الأنظار بعيدًا عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تعصف بالبلاد”.

وسنحاول فيما يأتي أن نوضح بإيجاز تاريخ العنف الذي تحمله لفظة “طاغوت” ودلالاتها الخطيرة وخلفية القضية وسياقها، ساعين إلى رفع اللبس الحاصل بين الديمقراطية والأسلمة المتخفية وراء الشعارات الطنانة لكلمات كـ “علمنة الإسلام السياسي” أو “الإسلام الديمقراطي”.

التاريخ الأيديولوجي للفظة “طاغوت”:

الطاغوت في الأدبيات الإسلامية تعني السلطة القائمة، والبوليس/الشرطة فيها هم “جنود الطاغوت”، التي تُعدّ في نظر الإسلاميين غير شرعية وغير دينية، تنتمي الكلمة إلى معجم قرآني، ولها في اللغة العربية دلالات، ولكنها اتخذت مع محمد عبدالوهاب “معاني ثواني” عاد بها إلى كتب ابن قيم الجوزية وابن تيمية، ثم صارت مع سيد قطب مصطلحًا له دلالة تكفيرية واضحة، وعملت هذه اللفظة عملًا أيديولوجيًّا لتعبر عن توجه الإسلامويات بأنواعها: تكفير المختلف؛ حتى لو كان من داخل الدائرة الإسلاموية، كما حدث في تكفير الجهاديين وعدّهم مرتدين، وتسميتهم بالطواغيت وتحليل قتلهم. وتنتشر على الفضاء الافتراضي فتاوى عديدة تبيح قتل “الطواغيت” بصفتهم مشركين.

والطاغوت في أصل اللغة مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، يقول العرب: (طغى السيل) إذا جاوز ماؤه حافتي الوادي وفاض من بين جوانبه، (وطغى الماء) إذا ارتفع مده وفيضانه عن قامة الإنسان بحيث يغرقه، كقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} سورة الحاقة، آية:11

لقد أُخذت لفظة “الطاغوت” من القرآن، إذ ورد في 8 آيات: البقرة/42-43. النساء/ 86-88-90. المائدة /118. النحل/ 271. الزمر/460. وردت هذه الآيات جميعًا في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله الواحد واجتناب الشرك وعدم الخوف من الحكام القائمين، ولهذه الآيات سياقها التاريخي الذي يمكن أن نتوسع في تحليله بالعودة إلى ما اكتشفته الدراسات القرآنية من علاقة بين الوحي والظروف التاريخية التي كانت تمر بها قبائل العرب في الجزيرة العربية، فهذه الآيات لها سياقها التاريخي ومرجعيتها الأنثروبولوجية وظروفها، وهي لا تنطبق بأي حال من الأحوال على مجتمعات عرفت الإسلام منذ قرون عديدة وصارت تحمل الثقافة الإسلامية في ممارساتها وعاداتها وطقوسها وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية.

 لقد شرح الأنثروبولوجي يوسف الصديق في كتابه “هل قرأنا القرآن.. أم على قلوب أقفالها؟” إمكانية أخرى لفهم بعض ألفاظ القرآن من بينها الطاغوت، وقدم أدلة تثبت أن لهذه اللفظة قصة تعود بنا إلى ما كان يعبده العرب القدامى، بل حتى المصريين وشعوب مجاورة لهم مُحيت أسماء آلهتهم ولم يبق منها سوى بعض الألفاظ الدالة، وهو عمل يتطلب حفرًا كبيرًا في المعاجم القديمة لإعادة تكوين دلالات الكلمات الضائعة. وذكر ذلك مرة في بروز إعلامي لينشر المعلومة بين أكبر عدد ممكن من الجمهور غير المختص، فالطاغوت بالنسبة إليه اسم إله مصري قديم يُسمى “توت” يضاهي الإله “هرمس” عند اليونان، ولكن ذلك المعنى ضاع ولم يبقَ عند المسلمين سوى الدلالات التي نقلها تفسير القرآن وهي على الأغلب تفسر كلمة طاغوت بإبليس، ولكن تحويل لفظة الطاغوت من سياقها القرآني الخاص بمجتمع الحجاز في القرون الأولى للهجرة إلى دلالة تكفيريّة لمجتمعات إسلاميّة جرى عبر خطاب رموز إسلاموية من بينها سيد قطب.

الطّاغوت والتحول الدلالي:

يبدأ سيد قطب بتعريف عام لمعنى “الطاغوت” في سياق تفسير آيات سورة البقرة فيقول: “والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنّها الله، ومنه كل منهج غير مستمد من الله، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يُستمد من الله. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها”.

لقد ترسخ قبل سيد قطب تقليدٌ يتضح جليًّا في رسالة منشورة ضمن كتاب مجموعة التوحيد؛ إذ طرح محمد عبدالوهاب على تلاميذه سؤالًا عن معنى العبادات ومعنى الطاغوت، فكان من ضمن الإجابات إجابة على لسان أحدهم ويدعى ابن بابطين، يتوسع في تحليل لفظة طاغوت ويجمع ما قاله السلف في ذلك ثم يستنتج أن الطاغوت هو كل ما فيه حكم بغير الشريعة، وأن عبَدة الطاغوت هم كل من يأتمرون بأحكام غير تلك الشريعة، فيقول ابن بابطين في خلاصة نص طويل في شرح لفظة الطاغوت: “فيحصل من مجموع كلامهم -رحمهم الله- أن اسم الطاغوت يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال يدعو إلى الباطل ويحسّنه، ويشمل أيضًا كل من نصّبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله، ويشمل أيضًا الكاهن والساحر، وسدنة الأوثان إلى عبادة المقبورين، وغيرهم بما يكذبون من الحكايات المضللة للجهال، وأصل هذه الأنواع كلها وأعظمها الشيطان، فهو الطاغوت الأكبر والله سبحانه وتعالى أعلم”. ولقد صار هذا المعنى تقليدًا وسنّة يسير عليها أصحاب هذا الفكر الذين جعلوا يكررون بلا ملل شيطنة كل ما يعدّونه حُكمًا غير شرعي، بدءًا بالأولياء الصالحين والطرق الصوفية والتقاليد الشعبية والعادات كزيارة الأضرحة والموالد، وصولًا إلى شيطنة الشرطة وكل عمال الدولة وأعوانها، وعدّهم جندًا للطاغوت؛ لأنهم يعبدون غير الله ويُطبّقون ما يعتقدون أنه أحكام شيطانية.

توسع سيد قطب أكثر في تكفير المجتمع المصري والعربي والإسلامي بصفة عامة، وأصبح المجتمع القابل للدولة الحديثة والحكم الجمهوري أو الحكم الحديث عمومًا غير شرعي في نظره ويُعدّ طاغوتًا، كما رأى في ذلك الجاهلية الجديدة، وأسس لفكرة الجهاد لتحرير الجاهلية من كفرها ورِدّتها، والدعوة إلى الوحدانية والإيمان والكفر بالطاغوت، فقال: “الإسلام هو إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو يهدف إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وردّ الحاكمية إلى الله، ولذلك فإن أي محاولة لتعريف الجهاد في الإسلام بأنه حرب دفاعية لصدّ العدوان من القوى المجاورة هي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض”. بهذا المعنى يرى قطب أن الإسلام هو حرب الطواغيت، وهو جهاد ضد الحكم بغير الشريعة الإسلامية، وهو محاولة لإقامة الخلافة والحاكمية الإلهية.

تتحول لفظة “طاغوت” لتصبح دالة على كل مَن يعطّل مشروع أسلمة المجتمع كما يتصوره الدعاة إلى خلافة دينية، وتتمثل أسس هذه الدعوة في اعتقادهم أنهم مكلفون باستئصال “الشيطان” وبحربه وبتمكين الإسلام في الأرض، ويعتقدون أن تلك المهمة الخلاصية منوطة بهم منذ خلق الله الإنسان، وعلى هذا الأساس الذي فسر به سيد قطب آيات الاستخلاف في الأرض تمكنت أدبيات الإسلام السياسي من أن تضع خلفية وجودية لمفهوم استئصال الشرّ أو الطواغيت، وهذا الشرّ يتجسد- بحسب هؤلاء- في قوى التحديث التغريبية التي تعطل مشروع الحداثة الإسلامية التي هي بالنسبة إليهم العودة إلى تطبيق السياسة الشرعية، كما حددها ابن تيمية، والعودة إلى الشريعة والحكم بما أمر الله. وكل محاولة لتعطيل ذلك تُعدّ بالنسبة إلى الإسلامويين طغيانًا في الأرض، وكل أعوان هذا الذي يسمونه طغيانًا يعتبرونه “طاغوتًا”، وقد أباحوا في بعض نصوصهم وإعلامهم قتال هذا الطاغوت، وتلك الفتوى المطلقة في قتال الشر هي التي تمثل مرجعًا للذئاب المنفردة التي لا تجد حرجًا في القضاء على شرطي يقوم بعمله، أو رجل أمن يحرس مبنى أو جندي يحرس ثكنة أو الهجوم على رموز الدولة من أعوان أو منتمين إلى سلك الأمن. إن تكفير الدولة الحديثة وكل عمالها ومعاونيها وموظفيها هو الذي يسمح للإسلامويين- مجموعات أو فرادى- بالمرور إلى الفعل لمهاجمة مبنى حكومي أو عون أمن؛ حتى لو كان ذلك الشخص مجرد عامل بسيط يؤدي الفرائض الخمس ويتلو القرآن ويحمل عقائد السنة والجماعة؛ فإنه في نظر الإسلامويّة جند من جنود الشيطان، يبيحون التخلص منه في إطار استئصال الشر وإقامة الخلافة، وحين يضطر الغنوشي أو غيره من الدعاة إلى تحريم الاعتداء على الأمن أو المختلفين فإنهم يفعلون ذلك تحت الضغط مجبَرين ليحظوا بمباركة القوى التي يسوّقون لها خطابًّا على مقاس توقعاتها، في حين ينشرون لأتباعهم خطابًا مختلفًا تمامًا لا يقوم على الأسس نفسها بل يحمل البذور العميقة للتكفير ويؤسس للعنف.

التحديث التونسي “عمل الطاغوت “

يُعدّ راشد الغنوشي في كتاباته التي لا تزال تُطبع إلى اليوم بلا تنقيح ولا تعديل، أن التحديث التونسي انطلق أساسًا بتحديث مؤسسة الجيش، وأنها مؤسسة تغريبيّة وقمعية تمثل خطرًا على المسلمين. ويروي تفاصيل خروجه من القومية ومن الإسلام التقليدي إلى ما سماه “الدين”، ويعدّ ذلك وحيًا إلهيًّا وإلهامًا نزل عليه ذات ليلة فارقة. وتحدث عن أبو الأعلى المودودي، ومحمد إقبال، وسيد قطب، ومالك بن نبي، ومحمد قطب، وحسن البنا، وأشار إلى أن ما ظل ثابتًا في تكوينه في الفترة التي قضاها في سوريا هو توجّه الشيخ الألباني الذي كان مدخله للتعرف إلى ابن تيمية وابن القيم الجوزية. ورأى أن هذا هو العنصر الثّابت في تكوينه. إن هذا العنصر الثابت الذي عدّه الغنوشي ميزة تخصه في تكوينه الشخصي وتجعله صاحب اتّجاه فكري لا عضوًا تابعًا لأي تنظيم موجود سابق له هو الذي سيتواصل معه وداخل عقيدته ومن خلال خطابه، ليظهر في كل مرة توجه بها بالخطاب إلى أتباعه المخلصين، كالمثال الذي أبّن فيه عضو الحركة بكونه شجاعًا لا يهاب طاغوتًا. إنّ تأبين الموتى ليس جريمة ولكن الإيحاء بتكفير الشرطة والجيش هو الذي يُعدّ في القانون التونسي عملًا يستحق العقاب. فهل كانت نيّة الغنوشي لحظة التأبين أن يتجاوز القانون؟ ليس لنا أن نحكم على النيّات، لكننا ندرك أهمية الحفر في تاريخ لفظة “طاغوت”، وندرك خطورة ما تحمله هذه اللفظة من دلالات تبدأ بشق المجتمع شقين: الإخوة الأبطال، والطواغيت الأشرار، أهل الحق وأهل الباطل، وتنتهي بتبرير الصراع والتدافع الاجتماعي بين هذه القوى، وقد تصل إلى تبرير القتل والاغتيال. إن فكرة تكفير “الطاغوت”؛ بل إن مجرد تسمية أعوان الدولة بكل أنواعهم جند الطاغوت، يؤدي إلى غرس عقيدة داخل الأفراد المنتمين إلى الجماعة، والحاملين لفكر الدولة الدينية وما يُسمى أهل الحق والتوحيد، ومن هنا فخطورة هذه الأفكار كامنة في أنها تسوّغ القتل؛ سواء المنظم في الجماعة أو الفرد الذي قد يتأثر من بين هؤلاء فيتصرف من تلقاء نفسه موجِّهًا نحو أعوان الدولة انتهاكًا قد يصل إلى الموت، مسوّغًا لنفسه ذلك الاعتداء بأنه في صفّ المؤمنين الذين يقاتلون الطواغيت. ذلك أن عقائد التقسيم إلى أهل الضلال وأهل اليقين هي التي تحركهم، وهذه العقائد شرعت تنتشر ضد ما سمّاه الغنوشي “إسلامًا تقليديًّا” حين يقول إنه عاد من فرنسا يحمل إسلامًا مودوديًّا على نهج أهل التبليغ، ثم بعد رفض النظام له، لجأ إلى العمل على منهج الإخوان أي في السرّ والخفاء، ويصف نقطة التحول قائلًا: “كانت ليلة 15 يونيو 1966 نقطة التحول في حياتي حيث تجمعت في الحوض محصلة خبراتي إلى حد الامتلاء ففاض، فكان اليقين حازمًا برعاية الله لي، والاطمئنان كاملًا إلى أنه بدعوتي سبحانه دعوة لا تحتمل الانتظار إلى الخروج من عالم والدخول في آخر.. تلك كانت هي ليلة دخولي الإسلام، خلعت فيها عني أمرين، القومية العلمانية، والإسلام التقليدي في عملية واحدة، ودخلت في الإسلام الأصلي، الإسلام كما تلقيته من مصدره الأصلي: الوحي، لا كما صنعه التاريخ وصنعته التقاليد”.

هذا الإسلام الذي يتحدث عنه الغنوشي ويضعه مقابل إسلام التقاليد ويعدّه الإسلام الصحيح، والإسلام الأصلي، والإسلام الموحى به إليه، هو الذي يحاول أن يدفعه إلى أتباعه لينشروه وليدافعوا عنه ويموتوا لأجله شجعانًا لا يخافون “حاكمًا ولا طاغوتًا”. وهذا الإسلام الذي يتحدث عنه لا علاقة له بأي شكل من الأشكال بما يسميه مثقفو البيان المذكور أعلاه “إسلامًا ديمقراطيًّا”.

الإسلاموية التونسية ذات الخطاب المزدوج وسقوط القناع:

تكشف تصريحات الغنوشي عن الوجه الثابت في عقيدة الإسلاموية التونسية المسماة بحسب بعض التوجهات الغربية “علمانية” أو “ديمقراطية” لأنها بحسب منظّري هذا التوجه الغربي المشجع على دمقرطة الإسلام تقبل بالتعايش مع الآخرين وتضع حدًّا لخطاب العنف. لكنّ تمجيد تكفير الشرطة وتكفير الحكام المتواصل من خلال خطاب زعيم الحركة الغنوشي لا يمكن عدّه تحولًّا حقيقيًّا نحو إسلام ديمقراطي ولا علماني ولا غير ذلك من التسميات المخادعة. إنّ التمويه والخلط الذي يتعمده الخطاب الدعوي الإسلاموي حين يتجه إلى خارج دائرته والقائم على الإيحاء بالانتماء إلى حركة الإصلاح العربية من خلال الانتساب إلى فكر مالك بن نبي أو محمد عبده والثعالبي مثلًا تجعل الالتباس قائمًا بين التوجه الفكري الإصلاحي السابق للحركات الإسلاموية، وبين الاتجاه الفكري السياسي الإسلاموي الذي اضطرته ظروف الضغط الشديد إلى القبول بالانتماء إلى اتجاه أعلن مفارقته بشكل واضح في لحظات قوته. فالغنوشي يكتب بوضوح كيف كانت لحظة مفارقة الإسلام التقليدي فارقة في حياته، مع العلم أن الإسلام التقليدي بالنسبة إليه وبالعودة إلى كتابه نفسه ليس هو الإسلام الزيتوني الذي تلقّاه، ولا هو إسلام العامة من التونسيين في عصره، بل هو تربية دينية صارمة مع والده الذي أجبره على حفظ القرآن وعلى ترديد الأناشيد، وكان له أكثر من زوجة، من دون أن يمثّل ذلك بالنسبة إلى الغنوشي مشكلًا؛ بل إنه يكتب عن طفولته تلك بكل حنين إليها، ويعدّها طفولة سعيدة ومميزة بهذا التلقين الديني الصارم من أبيه والمختلف عن أترابه. فهذا الإسلام إذن الذي انسلخ عنه الغنوشي ذات ليلة ودخل في إسلام أصلي، ليس هو إسلام العامة ولا إسلام الزيتونة في عصره أي في خمسينيات القرن العشرين بل هو إسلام متشدد نوعًا ما؛ أي فيه التزام، وبرغم ذلك فإن الغنوشي عدّه مزيفًا وغير صحيح، وأما الإسلام الصحيح فهو الذي تعلمه في سوريا بعد أن تلقى معارف ذكر مراجعها بنفسه، فإذا هي ما كتبه آباء الإخوان المسلمين في أفغانستان وباكستان ومصر. إننا هنا ننطلق من داخل نصّ الغنوشي ومن داخل تجربته الوجدانية لنقارنها بما ينتجه في سياقات لاحقة من خطابات متنافرة ومتناقضة فيها الشيء وضده: فهو من جهة قطع صلته مع الأصولية والتطرف، ومن جهة ثانية وقف في العلن ليؤبّن شخصًا بمفردات تنتمي إلى معتقدات الإسلاموية المتطرفة.

ألا يبين هذا المثال بشكل واضح عمق المأزق الذي تضع فيه الإسلاموية نفسها؟ إن الخطاب يكشف عن أقنعته بشكل أو بآخر، وتتجلى العقائد التكفيرية التي تحملها اللغة واستعمالاتها بوضوح؛ حتى إن كانت رغبة القائل أن يخفيها أو أن يقطع صلته بها، لكنها تتجلى في سياقات عديدة مثل سياق التأبين المذكور.

أما اختلاف التأويل حول الحادثة، بين فعل بعض المثقفين الذين عدّوا الحكم على الغنوشي عملًا سياسيًّا يحدّ من حرية التعبير وبين رد فعل القضاء التونسي الذي عدّ التفوه بلفظة “طاغوت” عملًا يجرّمه القانون لأنه يمثل خطرًا على مؤسسة الشرطة وتكفيرًا علنيًّا، فإنه اختلاف في جوهره سياسي، فموقف هؤلاء المثقفين والأكاديميين يستند إلى موقف أيديولوجي ينبع من تمثيل تيار تقوده بعض مؤسسات البحث في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم اتجاهًا لعلمنة الإسلاموية أو ما شابه ذلك من تسميات؛ كالإسلام الديمقراطي أو ما بعد الإسلام السياسي أو ما شابه.

إنّ حماية المجتمع التونسي من مخاطر الإسلاموية عبر قوانين تجريم التكفير يمثّل أولوية وُقّعت في سياق ما بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، بعد ضغط شديد من المجتمع المدني والأحزاب المناوئة بوضوح للعنف الديني الذي انتشر في تونس بعد 2011 بسبب تحرير الخطاب الديني وانتشار السلفية التكفيرية وانفجار الخطاب وانتشار الاستقطاب للجهاد في سوريا.

إن إنكار الثابت في الخطاب الإسلاموي أمر لا يمكن تصديقه، فهذا الثابت المتمثل في فكرة جهادية تكفيرية تعارض الأشكال المختلفة للإسلام الذي يعيشه التونسيون بأشكال متعددة؛ كالتصوف، والإسلام اليومي المنفلت من رقابة الواجب الفقهي، أو الإسلام الشعبي، أو الإسلام الذي سماه الغنوشي تقليديًّا، أي إسلام العرف والعادة المالكية التونسية القائم على أداء الصلوات والعبادات والالتزام الديني بما يُعدّ في المالكية ثوابت السنة التي جرى عليها الآباء. هذه الأشكال العديدة للتدين في تونس مع أشكال جديدة عند الشباب تخلق تدينًا مناسبًا للحياة اليومية. إن هذا الثابت الإسلاموي التكفيري والجهادي لا يزال قائمًا في الخطاب، متخفيًّا في ثناياه، يهدد بالانفجار حين يجد الفرصة سانحة ليعيد تكوين إسلاموية ترغب في امتلاك السلطة لتحقيق الخلافة كما يتصورها البنا والمودودي وقطب وغيرهم. ويمكن في هذا الصدد أن نستحضر شهادة أبو مصعب الزرقاوي عن الغنوشي في كتابه دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، إذ اعتبر أن الصحوة الإسلامية مع النهضة التونسية بدأت “انقلابية” “ثورية” يقول: “انطبعت بالفكر الثوري الانقلابي والجرأة وسعة الأفق السياسي، وهي صورة للتركيبة الفكرية والنفسية للشيخ راشد الغنوشي” ويذكر الزرقاوي نقلًا عن شهادات شفوية من أعضاء التنظيم السري لحركة النهضة بحسب ما يقول أن “النهضة” زرعت عددًا من الضباط المتطوعين في الجيش التونسي وجنّدت من استطاعت من ذوي الميول الإسلامية في الجيش، وكانت المشكلة الكبرى بحسب ما يصف الزرقاوي أن الجيش منظم ومحكم وشديد العلمانية، يحظر التدين ويراقب همسات المصلين وتسبيحات المؤمنين ويعتبرها شبهة”، وقد كتب الغنوشي بنفسه أنه يرى في علمانية المؤسسة الأمنية التونسية حاجزًا عظيمًا لم يتوانَ عن التذكير به في فيديو شهير بعد الثورة بالقول: “الجيش موش مضمون” .

خاتمة: في وجوب الحذر من العقائد الكامنة في الإسلاموية والقائمة على التكفير:

خلاصة القول، إن خطاب حركة النهضة اليوم تغير في ظاهره وممارساته نحو القبول بالواقع وضغطه؛ ولكن استخدام ألفاظ حاملة لدلالات تاريخ طويل من العنف تطرح على المجتمع التأني في قبول هذه العملية التي تبدو في ظاهرها انتقالًا نحو الديمقراطية لحزب بُني في أساسه الأيديولوجي على معاداتها ومعاداة التحديث، وأحلْنا على مرجع كتبه الغنوشي يحدثنا فيه بنفسه عن ذلك العداء للتحديث وللعلمانية، ولما يعدّه قوى تغريب آتية من الخارج بقوة لتسلخ المجتمع من قيمه الإسلامية. إن هذه البنية النفسية التي يصفها الزرقاوي بأنها تسم الغنوشي بالانقلابية والثورية هي نفسها التي وصف بها الغنوشي نفسه في روايته لمذكراته بأنه لم يكن يحب شيوخ جامعة الزيتونة لأنهم من أهل المدينة وهو من البادية، ثم إنه لم يكن يحب أيضًا طلبة العلم في “الزيتونة” لأنهم كانوا وقت الصلاة يدخنون ويضحكون في ساحة الجامع، بينما كان تجار الدكاكين المحاذية يغلقون دكاكينهم للصلاة، وقد عدّ الغنوشي سبب ذلك التفسخ كامنًا في قوة الدولة التغريبيّة وتعليمها التغريبي اللذين فصلاهم عن دينهم وأخلاقهم. لقد بدت علامات التغير في هذا الشأن من خلال استبدال العمامة بالكسوة وربطة العنق، ومن خلال استضافة الفنانات اللواتي كانت حركة النهضة تصفهن بالكاسيات العاريات فصارت تعتبرهن من جنود الله لأنهن يعززن صورة “الإسلام الديمقراطي” ولكن هل تغيرت هذه العقائد القائمة على الفصل بين الحلال والحرام والحق والباطل والخير والشر في جوهرها؟

ليس تأكيد مرجعيات الغنوشي النفسية والفكرية عملًا نرغب من خلاله إنكار قدرات التحول التي يمكن أن يمر بها أي إنسان في مسار حياته أو تمر بها أي فكرة، فقد يتحول المرء فعلًا من العنف إلى التسامح ومن التعصب إلى العقلانية والتنسيب، ولكننا نرغب في التنبيه إلى هذه البنية الثابتة لأسباب اجتماعية وذاتية وأيديولوجية خاصة بفكرة الإسلاموية نفسها، فالإسلاموية يستحيل أن تتحول إلى الديمقراطية لأنها تقوم على أصول أنطولوجية يجب تفكيكها حتى يمكن للمرء أن يتحرر منها، وهذه الأصول تتمثل بكل بساطة في تفسير الكون على أنه اختبار، وتحميل الإسلامي نفسه مسؤولية أمانة الإسلام واعتبار نفسه جنديًّا من جنود الله مقابل الطاغوت وجنده، ولا يمكن أن تكون مهمة هذا الصراع الأزلي ضد الطاغوت إلا مقدسة، ولذلك يمسي الموت عملًا ممكنًا وثمنًا بخسًا أمام ما ينتظره الجندي من ثواب إلهي في الدنيا بالتمكين، وفي الآخرة بالجنة الموعودة والخلود والرضا الإلهي؛ أما الطاغوت فحربه خاسرة والجحيم في انتظاره.

 إن استخدام الغنوشي لهذه اللفظة إذن، وإن كان من دون قصد منه، يحمل تاريخًا من العنف الديني الذي يجعل الخطاب الإسلامي وجهًا لوجه أمام مفارقاته الأنطولوجية العميقة، ويؤكد أنه يستحيل على الإسلاموية أن تتحول نحو الديمقراطية لأنها من العمق ترفض الآخر رفضًا مطلقًا، فالديمقراطية تتطلب تأصيلًا جديدًا لفكرة الوجود، تتمثل في التخلي عن فكرة الحق والباطل والإقرار أن ما يعتقد أنه الحق قد يكون نسبيًّا، وأن الله لم يكلف أيًّا من البشر بحمل أي رسالة، وأنه لم يطلب من أي كان محاربة الشيطان والشر. ولكن هيهات أن تتمكن حركات الإسلام السياسي من إعادة مراجعة هذه الأصول الأنطولوجية وهي التي تأسست منذ اللحظة الأولى على تكفير العلم الحديث وإنكاره، وهي التي لا تزال تعدّ الكوسموغونيا القرآنية قادرة على تفسير أصل الكون، في حين تثبت العلوم كل يوم أن الإنسان لا يعرف بعد ما الحياة وأصل نشأتها وعلة الوجود، وليس ما يُعتقد في ذلك سوى إمكان قد يثبته أو يدحضه العلم الحديث في كل حين.

إن وقوف المثقفين والفلاسفة إلى جانب شخصية لا تزال تحمل خطاب التكفير وثنائية خير/ شر، إسلام/ كفر، حق /باطل لهو أمر يدعو إلى التأمل العميق في دور الفكر والفلسفة اليوم، فقد تكون هذه الفكرة القائلة بتشجيع الإسلاموية على التحول نحو العلمانية مدعاة للمراجعة العميقة على ضوء الانتباه إلى ازدواجية خطاب دعاتها وتوجيههم نوعين من القيم، إذ يتوجهون أولًا إلى العالم الحديث بخطاب مبني على قيم الحرية والتسامح والمظلومية، ويتوجهون ثانيًّا نحو أتباعهم بخطابهم القديم من دون تحديث يذكر، فضلًا عن تظلمهم الدائم من الذين ينتقدون هذا الخطاب أو يكشفون تفاهته وقيامه على الجهل بالنسبية العلمية. وقد تستغل الإسلاموية فكرة المظلومية ثانية لإبراز كونها مهددة في حرية التعبير كما تفعل الآن في تونس بعد 25 يوليو، في حين يُثبت تحليل خطابها أنها هي التي تهدد حرية الآخرين عبر تكفيرهم وتمجيد شيطنتهم على الأقل؛ إن لم نقل تحفيز الذئاب المنفردة على نهشهم رمزيًّا أو ماديًّا.