تدهورت الأوضاع الإنسانية في السودان بشكلٍ عام، وفي العاصمة الخرطوم بشكلٍ خاص، مع تفجر الصراع بين القوات المسلحة السودانية بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، في منتصف شهر أبريل/نيسان 2023. وقد تسبب الصراع في مقتل المئات من المدنيين ووقوع ما يزيد عن خمسة آلاف جريح وفشل عدة مبادرات للاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد (IGAD) لوقف إطلاق النار، ناهيك عن مبادرات رؤساء عدد من الدول العربية والإفريقية. ولم تتمكن الوساطة الأميركية السعودية بعدُ من ضمان وقفٍ كاملٍ لإطلاق النار، نظراً لعشرات الخروقات التي شهدتها الهدن التي أُعلن عنها سابقًا.
عادةً ما يصاحب نشوب الصراعات، تدهور في الأوضاع الإنسانية وتزايد الاحتياجات الأساسية وبروز تعقيدات في الاستجابة نتيجةً لديناميكيات الصراع المعقدة. وتعد مسألة تقديم الإغاثة الفورية أحد أوجه تخفيف المعاناة الإنسانية، دون إغفال التخطيط لإيجاد حلول على المدى الطويل.
لقد عانى السودان من أزمات إنسانية منذ فترات طويلة، نظرًا للنزاعات المتعاقبة التي تعرض لها، مثل أزمة دارفور وأزمة حرب جنوب السودان التي أفضت إلى انفصال جنوب السودان كدولة مستقلة. إلى جانب ذلك، شهد السودان حراكاً ثورياً انتهى في أبريل/نيسان 2019 بخلع الرئيس السابق عمر البشير عقب ثلاثة عقود من الحكم. ومع اندلاع الصراع المسلح بتاريخ 15 أبريل/نيسان 2023 نتيجةً لتغير موازين القوى العسكرية التي شاركت في تشكيل مشهد ما بعد الثورة، تقلص "الفضاء الإنساني" إلى حدٍ كبير. فتعرض المدنيون إلى أضرار هائلة، وقتل عدد من العاملين في المجال الإنساني، وخرج القطاع الصحي برمته من العمل وتقديم الخدمات الضرورية، وانسحبت المنظمات الدولية، لاسيما وكالات الأمم المتحدة من مواقعها بفعل القتال الدائر.
يشير مفهوم الفضاء الإنساني إلى "بيئة عمل يتمسك فيها السكان بحقهم في الحصول على الحماية والمساعدة الإنسانية، بما يمكن المنظمات الإنسانية من العمل الإنساني الفاعل عبر الاستجابة لحاجات السكان الطارئة بطريقة نزيهة ومستقلة". تعرض هذه الورقة التحليلية خلفيات الأزمة الحالية في السودان، وتناقش التحديات التي تواجهه والتي جعلت منه مثالًا صارخًا لانحسار الفضاء الإنساني، ومن ثم تستكشف خطورة تسييس العمل الإنساني وتداعياته. وبناء على مخرجات ورشة العمل التي احتضنها مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني في الدوحة حول تطورات الوضع في السودان مع ممثلين عن منظمات الأمم المتحدة والجهات الإنسانية القطرية، والتي عقدت بتاريخ 18 مايو/أيار 2023، تقدم الورقة مجموعة من الخطوات الضرورية للاستجابة الإنسانية والحيلولة دون المزيد من انحسار الفضاء الإنساني في السودان.
خلفيات الأزمة الراهنة
يواجه السودان أزمة سياسية معقدة هي نتاج عدة سنوات من انعدام الثقة بين النخب العسكرية والسياسية ومراحل متعددة من محاولات الانتقال الديمقراطي المتعثرة. فما لبثت أن تجاوزت البلاد أزمتي دارفور وانفصال جنوب السودان، حتى شهدت في 11 أبريل/نيسان 2019، انعطافًا هامًا في الحياة السياسية ستكون له آثار عميقة على النظام السياسي برمته. فبعد الإطاحة بنظام عمر البشير إثر مظاهرات سلمية اندلعت شرارتها الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2018 ودامت عدة أشهر، دخلت البلاد في مرحلة انتقالية لمدة عامين، كان يفترض أن تجري في نهايتها انتخابات عامة. كان يمكن أن تشكل نهاية نظام البشير بداية مرحلة جديدة من التداول السلمي على السلطة، وأن تتبعها خطوات أخرى في إطار عملية التحول الديمقراطي، إلا أن الاتفاق على المرحلة الانتقالية كان مخالفا لتوقعات العديد من التيارات السودانية الداعمة للثورة، والتي نادت بتقاسم السلطة مع المدنيين. وأبرز تلك التيارات "قوى إعلان الحرية والتغيير"، التي تشكل "ائتلافا من 22 حزبًا سياسيًّا وجماعة اجتماعية سودانية أُسس في يناير/كانون الثاني 2019 لقيادة المعارضة المدنية".
ومع توقيع الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، والذي يعد بمثابة خطة جديدة للانتقال السياسي، كان من المفترض أن يبدأ فصل جديد من فصول السياسة السودانية، بما في ذلك الاتفاق على آلية تسليم السلطة للمدنيين، غير أن المكونين المدني والعسكري لم ينجحا في تنفيذ بنود هذا الاتفاق على أرض الواقع. ففي سياق التنافس المحتدم بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، شكّل الخلاف على دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني سببًا جوهريًا في فشل الاتفاق الإطاري، وبالتالي في اندلاع الأزمة الراهنة.
يشير أحد التفسيرات إلى أن مساعي قائد قوات الدعم السريع حميدتي للتحالف مع التيارات المدنية في ائتلاف قوى الحرية والتغيير أثارت حفيظة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، ما أدى إلى نشوب الصراع بين الطرفين. ويحاول حميدتي تحسين صورته أمام المجتمع السوداني والدولي من خلال التحالف مع بعض القوى المدنية السودانية، في حين أنه كان من الداعمين لتولي المكون العسكري الحكم بعد الإطاحة بنظام البشير. وإذا استمرت حالة انعدام الثقة بين أطراف النزاع فإن الأزمة الإنسانية ستتعمق، وسيواجه السودان سيناريو كارثة إنسانية ستمتد آثارها إلى دول الجوار.
تحديات انحسار الفضاء الإنساني في السودان
يواجه السودان عددًا من التحديات الإنسانية والتنموية المتعلقة بالأمن والسلام، أدت إلى انحسار الفضاء الإنساني، نستعرض أبرزها فيما يلي.
أولًا: منذ اندلاع الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع، تراجعت الخدمات الصحية بدرجة كبيرة، وهو ما ينذر بانهيار النظام الصحي الذي خرجت حوالي (68%) من مستشفياته في الخرطوم من الخدمة حتى تاريخ 22 مايو 2023. وتفاقمت أزمة الغذاء، وتعذر الوصول إلى خدمات الماء والكهرباء، وتضررت البنية التحتية المادية بشكلٍ كبير. كما تفاقمت أزمات اللاجئين والنازحين، الذين يتجاوز عددهم، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة 345 ألف لاجئ وأكثر من مليون نازح. خلال الأزمة الحالية، استقبلت مصر وحدها 164 ألف لاجئ مع نهاية شهر مايو/أيار، بينما لجأ آخرون إلى بلدان أخرى مثل تشاد وإثيوبيا وليبيا وجنوب السودان، وهي بلدان تعاني أصلًا من أزمات. ومن المتوقع أن يصل عدد المهددين بانعدام الأمن الغذائي إلى حوالي 60% من السكان إذا استمرت الأزمة على حالها. وقد أدت السنوات الطويلة من عدم الاستقرار في السودان إلى تدني مستويات الحالة المعيشية، حيث يحتاج حاليًا أكثر من نصف السكان للمساعدة الإنسانية، في ظل ارتفاع مؤشر الفقر الذي وصل وفقًا للتقديرات إلى 80% من مجموع عدد السكان.
ثانيًا: تأثرت مكاسب التنمية نتيجة عدم الاستقرار في السودان بشكلٍ كبير. وقد أدت الأزمات المتتالية، بالإضافة إلى الأزمة الحالية، إلى تجميد تدفق المساعدات الخارجية التي تعتمد عليها البلاد لإنعاش جهود التنمية وتقليص أعباء الديون ودعم عملية الانتقال الديمقراطي ودعم انخراط السودان مع المجتمع الدولي الذي انطلق بين عامي 2020 و2021. فقد كان من أبرز تداعيات سيطرة البرهان على السلطة في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 تجميد المعونات من جانب المانحين الدوليين. فوقع تعليق أكثر من 500 مليون دولار لدعم الميزانية من البنك الدولي و150 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي. وكانت "مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون" قد أدت، قبل ذلك، إلى تخفيض ديون السودان الخارجية من 77.2 مليار دولار عام 2020 إلى 62.4 مليار دولار عام 2021، إلا أن استمرار عدم الاستقرار السياسي عطل نتائج تلك المبادرة، كما جرى وقف المفاوضات مع دول أعضاء نادي باريس في نهاية 2021. والخطير في الأمر أن تراجع التنمية وتدهور الاقتصاد يحدثان دفعة واحدة في إحدى أكثر دول العالم فقرًا.
ثالثًا: يواجه السودان مجموعة من التحديات الأمنية المعقدة التي تحتاج إلى حلول جذرية. فقد أدى اندلاع القتال إلى زعزعة أمن المدنيين واستقرارهم. ونظرًا لخطورة الوضع الأمني، فقد قررت منظمات الأمم المتحدة تجميد كافة عمليات الاستجابة الإنسانية في المنطقة، كما شهدت البلاد انسحاب العديد من البعثات الدبلوماسية وخروجها من العاصمة الخرطوم. ومع استمرار القتال وانعدام الأمن وتفاقم أزمتي اللجوء والنزوح، بدأت الأزمة تنذر باتساع دائرة العنف في بلد كان أكثر من ثلث سكانه يعاني من أوضاع إنسانية صعبة قبل اندلاع الصراع.
علاوةً على ما سبق، يُخشى أن تتسبب الأزمة الراهنة في فقدان الثقة بين الشعب السوداني والقوات المسلحة في ظل السياق السياسي الذي يمر به السودان وما يشهده من تعطل مسار الانتقال الديمقراطي وغياب الأمن والاستقرار. وقد تتسع رقعة الاحتجاجات التي انطلقت في البداية بسبب تعثر المرحلة الانتقالية، لتتحول إلى تظاهرات رافضة لسلطة المكون العسكري بشقيه، ما يهدد بالمزيد من الاضطرابات وانعدام الأمن الشامل. ومع استمرار الأزمة، يُتوقع انخفاض مستويات الدخل وارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية وتفاقم البطالة وتوقف المعونات. إلى جانب ذلك، ستزيد المخاوف من تهديد الاستقرار في القرن الإفريقي واتساع أعمال العنف خارج مراكزه الرئيسية الحالية، مع زيادة المعاناة في مجتمعات اللجوء في الدول المجاورة. كما تزداد المخاوف بشأن تراجع طموح السودان لزيادة إنتاجه من القمح بعدما توجهت إليه الأنظار على إثر تراجع صادرات القمح الأوكراني. في المقابل يتسع نطاق الأنشطة الاقتصادية غير القانونية كتهريب الذهب.
رابعًا: يستمر السودان في مواجهة التحدي الذي لم يقع حله في السابق والمتمثل في التوصل إلى سلام دائم وإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي. وإذ لم ينجح السودان في حل أزمة الحكم والسلطة، فإن صراع القوات المسلحة وقوات الدعم السريع سيضيف طبقة جديدة من التعقيدات في مسار السلام والحوار الوطني. فرغم الضغوط التي تمارسها أطراف دولية وإقليمية، ورغم موافقة طرفي النزاع على سلسلة من الهدن لوقف إطلاق النار، كان أبرزها تلك التي أعقبت محادثات جدة في السعودية، استمر القتال في مناطق متفرقة من العاصمة الخرطوم وولايات غرب السودان، واستمرت في الأثناء عمليات إجلاء المدنيين. تجدر الإشارة إلى أن تجاوز هذه التحديات مجتمعةً بالاعتماد على القدرات السودانية وحدها لن يكون ممكنًا في الوقت الراهن لتفادي الانزلاق إلى كارثة إنسانية. وعلى المجتمع الدولي واجب والتزام أخلاقي، دولًا ومنظمات دولية، لتوسيع مساحة العمل الإنساني، وضمان حماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني.
تسييس العمل الإنساني في السودان
أصبح تسييس العمل الإنساني ظاهرة عالمية تعتبر المساعدات الخارجية جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المانحة، إضافةً إلى اعتبار المنظمات العاملة في الفضاء الإنساني أذرعًا إضافية لتنفيذ السياسات الخارجية للدول المانحة. وبينما يرفض الكثيرون ربط العمل الإنساني بالسياسة لما يمكن أن يشكله ذلك من خطر على العمل الإنساني، يؤيد آخرون هذا التوجه باعتبار ربط المساعدة بالسياسة ضروريًا لتعزيز قدرة المجتمع الإنساني وزيادة فعالية المساعدات الإنسانية. وأيًا كان التوجه الذي تتبناه الدول والمنظمات الفاعلة في البيئة الإنسانية، فإن تسييس العمل الإنساني قد أدى إلى انحساره في حالاتٍ كثيرة، بسبب طرد بعض الحكومات للمنظمات الإنسانية ومنعها من العمل، وتوجيه الاتهامات لها. وفي حالات أخرى، أدى انعدام الأمن إلى وقف العمليات الإنسانية كما يحصل في السودان.
يشعر المتابع للفضاء الإنساني في السودان وكأنه مصاب بوهم سبق الرؤية "ديجافو"، حيث تكررت حالات استهداف العمل الإنساني وانحسار حيزه خلال موجات الصراع السابقة. فعلى سبيل المثال، طردت حكومة الرئيس السابق عمر البشير عام 2009 ثلاثة عشر منظمة إغاثية دولية كانت تعمل في المنطقة أثناء الحرب الأهلية في دارفور. واتهمت حكومة البشير تلك المنظمات بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وتزويدها بتقارير كاذبة، بعد إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. وكانت الحكومة السودانية تنظر إلى العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية على أنها جهات أجنبية معادية لا تلتزم بمبادئ العمل الإنساني، بل تعمل ضمن أجندات سياسية وتقدم تقارير غير محايدة، لذلك حرمتها من العمل في السودان.
في الحالة السودانية الراهنة، أدى تسييس المساعدات الإنسانية إلى تداعيات سلبية على المدنيين، وكذلك على المنظمات الإنسانية التي تعمل في الميدان. وتفتقر المنظمات الإنسانية العاملة في الميدان إلى الوصول الآمن لتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين وسط صراع دموي مسلح. وقد شهدت العاصمة الخرطوم، منذ الأيام الأولى لتفجر الصراع، تجميدًا للعمليات الإنسانية من جانب منظمات الأمم المتحدة، كما هوجمت العديد من المستودعات والمقرات التي تضطلع بتقديم المساعدات الإنسانية في ظل استمرار المخاوف من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية ستكون تداعياتها الإنسانية شديدة الخطورة على المدنيين.
وتشير التجربة في السودان إلى أن الممرات الإنسانية تُعتبر حلًا لتخفيف الأزمة الإنسانية، ويمكن لأطراف ثالثة مثل الأمم المتحدة ودول مثل قطر دعم مثل هذا الحل. فعلى مدى الأسابيع الماضية، انخرطت مجموعة من الأطراف الدولية والإقليمية في مساعي دبلوماسية نتج عنها سلسلة من الهدن ركزت على إجراءات الدبلوماسية الإنسانية من أجل وقف إطلاق النار وإجلاء الأجانب والمدنيين إلى مناطق آمنة. إلى جانب ذلك، فُتحت ممرات آمنة لإدخال المساعدات الإنسانية، وسط استمرار الاشتباكات المسلحة واتهامات متبادلة بين أطراف النزاع بخرق الهدن. ومن أجل إنجاح هذه المساعي، دعم المجتمع الدولي مبادرة الوساطة السعودية الأميركية التي تستضيفها السعودية في جدة. وعلى الرغم من الدعوات المستمرة لفتح ممرات إنسانية لإيصال مساعدات من المستويين الدولي والعربي، إلا أن الأزمة الإنسانية ما تزال مستمرة.
جدير بالذكر أن مفهوم "الممرات الإنسانية" صيغ في العام 1993، بعد فشل الأمم المتحدة في التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك بهدف إدخال المساعدات للمدنيين الذين كانوا محاصرين بسبب القتال. أما في الأزمة الراهنة، فرغم تعدد الهدن، لم يجر تنفيذ فكرة الممرات الإنسانية على أرض الواقع. ففي 20 مايو/أيار 2023، وافق طرفا النزاع على هدنة إنسانية قصيرة الأمد تمتد إلى 7 أيام مع قابليتها للتمديد. وقد ركزت الهدنة على ضمان وصول المساعدات الإنسانية وإعادة إنعاش الخدمات الأساسية وسحب القوات العسكرية من المرافق الصحية، ووقف الهجمات والأعمال العدائية، وضمان سلامة المدنيين وأمنهم وحرية تنقلهم، وحماية العاملين في المنظمات الإنسانية. وقد جرى دعم هذا الاتفاق، على عكس الاتفاقات السابقة، بـ"آلية مراقبة دولية" تحت إشراف أميركي سعودي مشترك إلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لضمان تنفيذ واحترام وقف إطلاق النار. غير أن الواقع يشير إلى وجود خروقات للتهدئة من جانب طرفي النزاع، ما يدل على استمرار الفضاء الإنساني بالانحسار.
خطوات ضرورية لتوسيع الفضاء الإنساني في السودان
أولاً: ترسيخ إجراءات الدبلوماسية الإنسانية من جانب الأطراف الثالثة المتدخلة دبلوماسيًا وإنسانيًا في السودان. فالدبلوماسية الإنسانية "أداة للاستجابة الإنسانية، تستفيد من العلاقة بين أنشطة الاستجابة والأدوات الدبلوماسية للتفاوض والتسوية والبراغماتية". وتعتمد هذه الأداة على "إقناع صانعي القرار والقادة العسكريين وقادة الرأي والجهات الفاعلة غير الحكومية بالتصرف لصالح السكان المتضررين، مع الاحترام الكامل للمبادئ الإنسانية الأساسية، وزيادة الدعم للعمليات الإنسانية إلى أقصى حد... من أجل تحقيق الأهداف الإنسانية". يشار هنا إلى أهمية الممرات الإنسانية وضرورة اعتمادها في السودان، والتحرك العاجل لإنقاذ أرواح المدنيين لتجنب وقوع كارثة إنسانية في البلاد. في هذا السياق، ومن خلال تجارب الانخراط في البيئة الإنسانية في السودان، يمكن لدولة قطر أن تلعب دورًا مؤثرًا في إطار دعم الوساطة الأميركية السعودية. يمكنها، بحكم تجربتها السابقة في الوساطة في إقليم دارفور بين الحكومة والفصائل المعارضة، أن تسهم في تفعيل إجراءات الدبلوماسية الإنسانية وإقناع أطراف النزاع باحترام الحيز الإنساني وضمان وصول المساعدات إلى محتاجيها. ففي العام 2009، ورغم طرد السلطات السودانية، آنذاك، مجموعة من المنظمات الإنسانية الدولية، استمرت المنظمات الخيرية الإنسانية القطرية، مثل قطر الخيرية والهلال الأحمر القطري، في إيصال المساعدات الإنسانية وتنفيذ مجموعة من المشاريع التنموية والمشاريع المتعلقة ببناء السلام في دارفور. وقد تمكنت قطر من لعب ذلك الدور بفضل قدرتها على التحدث مع مختلف الجهات الفاعلة غير الحكومية في السودان وإقناعها بأهمية تلك الإجراءات. وقد ساعدها في ذلك علاقاتها الوطيدة مع الحكومة السودانية والفصائل المعارضة، ما مكّنها من لعب دور محوري في عملية سلام إقليم دارفور التي انطلقت في سبتمبر 2008 بتفويض من جامعة الدول العربية. وقد تعززت تلك الجهود باستمرار قطر في تنفيذ أنشطة إنسانية وتنموية واسعة النطاق، سواء عبر منظماتها الإنسانية، أو وبالاشتراك مع منظمات الأمم المتحدة. بناءً على ذلك، يمكن لقطر أن تقدم دعمًا نوعيًا للمحادثات الجارية، من أجل ترسيخ إجراءات الدبلوماسية الإنسانية وتفادي انحسار الفضاء الإنساني في السودان، بالاعتماد على خبرتها في هذا المجال وخبرة الأطراف الثالثة المتدخلة دبلوماسيًا لحل الأزمة الراهنة والتخفيف من آثارها الإنسانية.
ثانيًا: إذا تحقق اختراق جذري في المحادثات بين طرفي النزاع في السودان والتزم كلاهما بالهدنة دون وقوع خروقات، عندئذٍ يمكن توسيع مساحة المساعدات الإنسانية وفق نهج يعمل على تعزيز السلام وتقديم المساعدة الإنسانية والانمائية بدلاً من نماذج الاستجابة التقليدية التي تركز على الجانب الإغاثي فقط. فالربط بين ثلاثية العمل الإنساني والتنمية والسلام يوفر إطارًا قويًا للمضي قدمًا في نهج أكثر تكاملاً من شأنه أن يحقق قفزة إيجابية في الاستجابة ومعالجة الأزمة وتحقيق التعافي المبكّر. من هذا المنطلق، يجب الاستمرار في دعم مشاريع التنمية وبناء السلام في كافة أنحاء السودان، بما في ذلك مشاريع دعم صمود المجتمع السوداني. وعليه، فإن هناك ضرورة لاستئناف المساعدات الخارجية مع وجود آلية تعاون وتنسيق دولية وإقليمية مبتكرة قائمة على الشفافية والمساءلة. إلى جانب ذلك، ينبغي الحفاظ على تقديم الخدمات العامة الأساسية لجميع المواطنين في مجالات حيوية مثل الماء والكهرباء والخدمات الصحية والتعليم. هذه الخطوات، إذا التزمت بها كل الجهات الفاعلة، يمكنها أن تسهم في التخفيف من آثار الأزمة الإنسانية الراهنة وخلق أرضية للوقاية من الصراعات المستقبلية.
ثالثًا: التركيز على الإجراءات الوقائية لمنع تفجر الصراع في المستقبل، إذ يلاحظ أن هناك نقصًا في التركيز على أنظمة الوقاية من الصراعات في السودان، لا سيما من جانب المجتمع الدولي والإقليمي الذي يمكنه أن يبذل جهدًا أكبر في هذا الصدد. فرغم أن الانقسام بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع كان متوقعًا منذ إعادة ترتيب شؤون الحكم في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقع تهميش تفعيل أنظمة الوقاية من الصراع. لذلك، يجب التركيز على بناء نظام متكامل لتعزيز تدابير الوقاية من الصراع، مع الاستمرار في الحوار الوطني لتسهيل عمليات الاستجابة الإنسانية. تجدر الإشارة هنا إلى أن توقف المنظمات الإنسانية الدولية عن العمل في الخرطوم خلال الأزمة الحالية أدى إلى تدمير أنظمة الإنذار المبكر، وهو ما سيضر بدوره بعمليات الاستجابة الإنسانية مستقبلًا. لذلك، فإن تفعيل جهود الوقاية لمنع نشوب الصراع، مثل فهم الجذور السياسية والثقافية والتاريخية للصراع، ورسم خارطة للمسار السياسي لحل الأزمة، ووضع المجتمع المحلي في قلب الاستجابة، واتخاذ إجراءات فاعلة لاستعادة الثقة بين أطراف الصراع، كلها جهود من شأنها وضع السودان على مسار صحيح يمكن أن يؤدي إلى بناء سلام دائم ومستدام.
رابعاً: البدء في إنعاش القدرات المحلية، فمن بين السمات المشتركة بين معظم البلدان المتضررة من النزاعات التغير الهائل في القدرات المحلية ودورها في الاستجابة الإنسانية وإعادة الإنعاش. فالقيود التي فرضتها الأزمة على العمل الإنساني تهدد بإفشال جهود التنمية والتعافي وتنذر بتداعياتٍ خطيرةٍ على القدرات المحلية السودانية. وعلى الرغم من أهمية وضع المجتمع في جوهر عملية الاستجابة الإنسانية، عادةً ما تكون هناك موارد وخبرات أقل على المستوى المحلي لمجابهة التحديات الإنسانية، بسبب ما يحدثه العنف من آثار على المجتمع. وغالبًا ما يؤثر الصراع بشكل سلبي على العلاقات الاقتصادية والخدمات الأساسية والبنية التحتية المادية والمرافق العامة. وفي الحالة السودانية الراهنة، تراجعت جودة الاستجابة الإنسانية وتعطلت على نحو شبه كلي. فعلى سبيل المثال، بمجرد اندلاع الصراع في الخرطوم، توقفت عمليات الاستجابة الإنسانية بسبب انعدام الأمن واستهداف العمل الإنساني بشكلٍ مباشر.
ورغم أن الصراع يمكن أن يؤدي إلى انهيار المجتمع وتفكك علاقاته نتيجة لانتشار الفقر وعجز السكان عن سد حاجاتهم الأساسية، فمن الخطأ افتراض ضياع القدرات البشرية بشكلٍ كامل. لذلك، ينبغي العمل على بناء القدرات المحلية في الاستجابة وتطويرها بالتنسيق والتعاون مع القدرات الإقليمية والدولية. فانحسار الفضاء الإنساني له آثار سلبية جسيمة على المدنيين، والعمل على إعادة الوظائف الحيوية للخدمات الإنسانية بمساهمة من المجتمع المحلي مسألة حيوية في مراحل تسوية الصراع.
خامسًا: العمل على بناء رؤية مشتركة قائمة على التنسيق والتعاون بين المجتمع المحلي والفاعلين الإقليميين والدوليين في السودان. فالتركيز على تحقيق رؤية شاملة وواضحة للاستجابة الإنسانية في البلاد يعد خطوة ضرورية، خاصة أن عملية الاستجابة الإنسانية ستصبح أكثر تعقيدًا عندما تتوقف الحرب وتسكت المدافع. وبما أن الانقسامات والخلافات يمكن أن تتجدد في المستقبل، فإن الأطراف الثالثة الفاعلة في المجال الإنساني والتنموي والدبلوماسي مدعوة للتعاون والتنسيق مع مكونات المجتمع السوداني والأطراف المتنازعة أيضًا، لوضع تصور شامل للاستجابة الإنسانية خلال الفترة المقبلة.