• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
تقدير موقف

كيف طورت "بكين" أدوات مواجهة الضغوط الغربية؟


أثار اقتراح المفوضية الأوروبية إدراج عدة شركات صينية في قائمة سوداء والحد من الصادرات إلى الدول التي انتهكت العقوبات المفروضة على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا منذ فبراير 2022، مخاوف في بكين من أنها قد تكون التالية؛ ما استدعى الجدل حول الكيفية التي ترد بها الصين على مثل هذه الإجراءات وتُحسِّن بها المرونة ضد العقوبات الأجنبية؛ لذلك تم تقديم مقترحات لإطار قانوني صيني يسمح بفرض عقوبات مالية ومناهضة العقوبات، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات حول المراحل الحاسمة ونقاط التحول التي شكَّلت تطور سياسة العقوبات الاقتصادية الصينية، وأهم قرارات فرض العقوبات من الصين ضد أطراف أخرى، بالإضافة إلى دوافع تبني هذه السياسة من جانب الصين.

تطور ملحوظ

على الرغم من أن الصين تُعَد لاعباً حديثاً نسبيّاً في مباراة العقوبات الرسمية وغير الرسمية، فإنه على مدار العقد الماضي، تزايدت معدلات استخدام الصين للعقوبات بأنواعها الرسمية وغير الرسمية، بل طورت أدوات سياسية وقانونية لاعتماد مجموعة أدوات العقوبات الخاصة بها؛ لذلك يمكن تتبع مراحل هذا التطور على النحو التالي:

1التعلم في مجلس الأمن الدولي: مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة هو المنتدى الذي وجدت بكين نفسها فيه لأول مرة مشارِكاً نشطاً في صنع العقوبات بصفتها عضواً دائماً، ومنذ أن أصبح “شي جين بينج” أميناً عامّاً للحزب الشيوعي الصيني، واصلت الصين تقليدها في دعم معظم العقوبات المقترحة على مجلس الأمن الدولي.

على سبيل المثال، في عام 2009، ألغت الصين قمة سنوية مع الاتحاد الأوروبي رداً على الاجتماع المخطط له بين الرئيس الفرنسي آنذاك “نيكولا ساركوزي” و”دالاي لاما”، لكنها امتنعت في ذلك الوقت عن اتخاذ إجراءات عقابية أخرى، كما صوتت في عام 2014 لصالح القرار 2140 الذي فرض تجميد الأصول وحظر السفر وحظر توريد الأسلحة إلى “الذين يهددون السلام والاستقرار في اليمن”. وفي عام 2015، صوتت لصالح القرار 2206 الذي يحدد الشروط نفسها للجهات الفاعلة في جنوب السودان.

2البداية الفعلية مع الحرب التجارية مع واشنطن: على الرغم من وجود اعتقاد صيني بأن العقوبات هي أداة جيوسياسية أمريكية، فإن موقفها تجاه فرض العقوبات تغيَّر عندما بدأت الولايات المتحدة الصراع التجاري في 2018؛ حيث أدى الخلاف التجاري الذي بدأته إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” إلى تغيير قواعد اللعبة في نهج الصين تجاه العقوبات للرد على الرسوم الجمركية وضوابط التصدير التي فرضتها الولايات المتحدة؛ إذ تبنت الصين في الفترة من 2018 إلى 2019 سلسلة من الإجراءات التقييدية انتقاماً من واشنطن، وكذلك جاءت رداً على التدخل الأمريكي المُتصوَّر في الشؤون الداخلية لبكين، وتحديداً هونج كونج وشينجيانج وتايوان أو التبت أو مناطق حيوية أخرى، ومنذ ذلك الوقت أصبح فرض العقوبات أمراً أساسيّاً لكل طرف للتعبير عن نفسه.

فعلى سبيل المثال، فرضت بكين العقوبات على عدد من الشركات والأفراد الأمريكيين في أكتوبر 2020 بسبب مبيعات الأسلحة إلى تايوان، (بما في ذلك الرؤساء التنفيذيون لشركتي الدفاع الأمريكيتين “لوكهيد مارتن” و”رايثيون”). وفي أغسطس 2022، فرضت الصين عقوبات على رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك “نانسي بيلوسي”، ونائبة وزير النقل والمواصلات الليتوانية “جني فايسيوكيفيتشيوتو” بسبب زيارتهما إلى تايوان في أغسطس 2022. وبعد ثمانية أشهر، فرضت عقوبات على رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي “مايكل ماكول” بعد أن التقى رئيسة تايوان “تساي إنج وين”؛ حيث جمدت أي أصول وممتلكات لديه في الصين، ومنعت المنظمات والأفراد في البلاد من إجراء أي معاملات معه.

3التوسع في العقوبات الأحادية الجانب: إذ أدت التغيرات الجيوسياسية في العقد الأخير إلى قيام الصين بتشديد عقوباتها من جانب واحد؛ حيث يبدو أن الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين قد منح بكين الخبرة والثقة اللازمتَين لتعزيز العقوبات الأحادية، والبدء في فرضها بشكل متكرر، وهو ما ظهر في ارتفاع عدد العقوبات التي اعتمدتها الصين من جانب واحد بشكل كبير منذ عام 2020؛ حيث أظهرت الصين تفضيلاً متزايداً للعقوبات التي تستهدف الأفراد والشركات الفردية والجماعات أو المؤسسات الوطنية.

والجدير بالذكر أن هناك تفضيلاً صينيّاً لهذه النوعية من العقوبات؛ لما لها من تأثير قوي من ناحية الرسائل، المباشرة وغير المباشرة، لكن بتأثير محدود على اقتصاد الصين، ومن ثم يمكن لبكين أن تفرض عقوبات بتكلفة منخفضة نسبيّاً، وهو ما ظهر في نزاعات بحر الصين الجنوبي؛ حيث أدت مُطالَبات الصين الإقليمية وممارساتها في بحر الصين الجنوبي إلى توترات مع الدول المُجاوِرة، وردّاً على الانتهاكات المتصورة لسيادتها، فرضت الصين عقوبات على دول مثل الفلبين وفيتنام.

4مواجهة انتقادات حقوق الإنسان: في ديسمبر 2019، فرضت الصين عقوبات على أحد عشر فرداً أمريكيّاً وخمس منظمات غير حكومية مقرُّها الولايات المتحدة تُدافِع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ردّاً على العقوبات الأمريكية على المسؤولين الصينيين تحت شعار تقويض الديمقراطية في هونج كونج.

ومع ذلك، كانت العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا في عام 2021 ضد المسؤولين والكيانات الصينية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان ضد أقلية الإيجور المسلمة في شينجيانج في الصين، علامةً بارزةً أخرى؛ حيث فرضت الصين بسرعة عقوبات مضادة، وسارعت إلى اعتماد إطار جديد في قانون مكافحة العقوبات الأجنبية (AFSL) في عام 2021؛ إذ قدَّم للصين إطاراً قانونيّاً لفرض عقوبات مستهدفة أحادية الجانب وتعميمها.

وبذلك يمكن القول إن مجموعة أدوات العقوبات الخاصة بالصين، تتضمن حظراً على التأشيرات والسفر، وحظراً على التعاون مع الكيانات الصينية، وتجميد الأصول، وقيوداً رسمية على الصادرات. ومنذ عام 2018، فرضت الصين حظراً على التأشيرات والسفر 17 مرة (وهذا يشمل رفض تراخيص العمل في الصين)، كما تم تبني حظر على التعاون مع الكيانات الصينية 14 مرة، بينما تم اعتماد تجميد الأصول سبع مرات، لكنها فرضت قيوداً رسمية على الصادرات مرة واحدة فقط ضد شركة “لوكهيد مارتن” و”رايثيون” عندما فرضت قيوداً على الاستيراد على الشركتَين.

دوافع متعددة

لا شك أن الصين اليوم أكثر ثقةً وقدرةً على استخدام الإشارات الدبلوماسية أو التوبيخ بالعقوبات؛ حيث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنوع الأهداف، سواء كان تجميد الأصول وحظر التأشيرات وحظر التعاون مع الكيانات الصينية؛ لذلك يستلزم الأمر دراسة الدوافع الصينية المحتملة التي تكون وراء اختيار هذا النوع من الأدوات في السياسة الخارجية، وهي الدوافع التي جاء أبرزها فيما يلي:

1الحفاظ على المصالح الاقتصادية: تدرك الصين جيداً أن قوتها الرئيسية هي سوقها الكبيرة وإنتاجها التصنيعي، ومن ثم فإن أقوى مقياس هو الاستيراد والقيود الأخرى لتقييد أو إغلاق الوصول إلى هذه السوق، وهو الاعتبار الذي يمنح واشنطن قوة هائلة عند فرض العقوبات؛ بسبب دور الدولار الأمريكي بصفته عملة تجارية عالمية.

والجدير بالذكر أن جزءاً من النجاح الاقتصادي الصيني كان مدفوعاً بالشركات الأجنبية المنتجة في البلاد للتصدير؛ فعلى الرغم من أن هذا من الناحية النظرية يمنح بكين نفوذاً كبيراً، فإنها كانت متحفظة بشأن فرض قيود على الصادرات؛ لأنه يمكن للصين بالفعل أن تتحكم في صادرات السلع ورأس المال بشكل أكثر إحكاماً من اقتصادات السوق، خاصةً أن اقتصادها لا يزال يعتمد على إنتاج الصادرات، لا سيما في القطاعات ذات الطاقة الزائدة، مثل الحديد والصلب والأسمنت والزجاج والألمنيوم والألواح الشمسية ومعدات توليد الطاقة.

2مخاوف الأمن القومي: هناك تفاعل مُعقَّد بين القوة والأمن في بكين؛ حيث تشير حقيقة أن بكين كانت تعمل بالفعل على مشروع القانون قبل عقوبات مارس 2021 إلى أن بكين كانت تدرك أنها بحاجة إلى حماية نفسها من العقوبات الأجنبية المحتملة. ومع ذلك، فإن قانون مكافحة العقوبات الأجنبية (AFSL) هو أكثر من مجرد أداة سياسية للرد بشكل متماثل على العقوبات، وهو ما تم توضيحه في الأهداف والتدابير المحتملة المدرجة في النص القانوني؛ حيث تشمل الأهدافُ الأفرادَ والمنظمات المشاركين بشكل مباشر أو غير مباشر في صياغة أو اتخاذ قرارات بشأن أو تنفيذ العقوبات، وفي الإجراءات التمييزية ضد المواطنين الصينيين، والتدخل في الشؤون الداخلية للصين.

ومن السمات المهمة للعقوبات الصينية المعاصرة، أن بكين لم تحدد – في كثير من الأحيان – الإجراءات التي تتضمنها العقوبات؛ فعلى سبيل المثال، من بين 28 حالة عقوبات أحادية الجانب، تم فرض 12 حالة دون أن تكشف الصين عن أي تفاصيل. على سبيل المثال، العقوبات التي فرضتها بكين على الاتحاد الأوروبي وحلفائه في مارس 2021 لا تُحدِّد بالضبط ما تنطوي عليه هذه العقوبات؛ لذلك تحافظ الصين على درجة عالية من المرونة بشأن هدف العقوبات وتوقيتها، باستخدام مجموعة من الإجراءات قد لا يتم الإبلاغ عنها أبداً، لكنها في الغالب تعتمد على قائمة الكيانات غير الموثوق بها، وقانون مكافحة العقوبات الأجنبية.

كما تُصعِّب الطبيعة الواسعة النطاق وغير المحددة لإجراءات الصين في التعامل مع العقوبات، عملية تتبُّع العقوبات الصينية والرد عليها؛ فإن أي تدخُّل فيما تُصنِّفه الصين شأناً داخليّاً، بما في ذلك هونج كونج وشينجيانج وتايوان، يمكن أن يقابَل بعقوبات أحادية الجانب، كما أن مثل هذا التأطير لا يُستخدَم لتبرير الفرض غير المتكافئ للعقوبات فحسب، بل يشير أيضاً إلى أن بكين تنظر إلى فرض العقوبات على أنه يشمل العقوبات الرسمية وغير الرسمية؛ ما يجعل من الصعب على الدول الأخرى بوجه خاص تتبُّع العقوبات الصينية والرد عليها؛ إذ تريد الصين خلق تصوُّر بأن إجراءاتها العقابية يصعب التنبُّؤ بها؛ من أجل ثني الدول الأخرى عن فرض عقوبات. ومن ثم، فإن من غير المرجح أن يتغير هذا الاتجاه الواضح في نظام العقوبات الصيني كثيراً في المستقبل.

3الطموحات الاستراتيجية: يدفع طموح الصين الاستراتيجي لتعزيز نفوذها الجيوسياسي، إلى فرض عقوبات اقتصادية من خلال استهداف الدول التي تتحدى أو تُقوِّض مصالحها الإقليمية؛ حيث تهدف الصين إلى تأكيد هيمنتها، وإعادة تشكيل ميزان القوى، وترسيخ نفسها لاعباً رئيسيّاً في الشؤون العالمية. وبالفعل، تعمل العقوبات الاقتصادية وسيلةً للضغط على الأطراف الأخرى من أجل الامتثال لمطالب بكين، وردع القوى المتنافسة، وترسيخ مكانة الصين قوةً إقليميةً.

4حماية التقدم التكنولوجي: يمكن لطموح الصين الاستراتيجي لتحقيق الريادة التكنولوجية والابتكارية، أن يدفعها إلى فرض عقوبات اقتصادية في القطاعات الحاسمة لنموها الاقتصادي وأمنها القومي، وحماية تقدُّمها التكنولوجي، وتقييد الوصول إلى التقنيات الحيوية، وحماية ملكيتها الفكرية؛ حيث تهدف هذه الإجراءات إلى تأمين مكانة الصين بصفتها قوةً تكنولوجيةً عالميةً، وتقليل الاعتماد على الابتكارات الأجنبية.

إذ فرضت الصين قيوداً وعقوبات على شركات التكنولوجيا الأجنبية استجابةً لتهديدات الأمن السيبراني المُتصوَّرة، ردّاً على تصرفات الولايات المتحدة التي استهدفت شركات الاتصالات الصينية، مثل “هواوي” وZTE.

5الأولويات المحلية: قد تستخدم الصين عقوبات لقمع الأيديولوجيات المعارضة؛ حيث أصبحت التدابير الاقتصادية أداةً لتشكيل الروايات والحفاظ على الاستقرار الداخلي وتكريس الامتثال الأيديولوجي. ويظهر ذلك في العقوبات التي فرضتها بكين على بعض الدول نتيجةَ انتقادها ملفات داخلية في الصين، مثل ملف حقوق الإنسان، أو التعامل مع بعض الأقليات في الدولة.

خلاصة القول أنه على الرغم من أن الصين اليوم أكثر ثقةً وقدرةً على استخدام الإشارات الدبلوماسية أو التوبيخ بالعقوبات، فإن سيناريو استمرار فرض الصين العقوبات المالية يبدو غير مُرجَّح، بالنظر إلى العقبات القانونية والهيكلية الكبيرة التي تواجهها بكين؛ حيث لا تزال قدرة الصين على تطوير العقوبات المالية محدودة في الوقت الحالي، وتُظهِر المناقشات السياسية الجارية في الصين اهتماماً شديداً بتطوير أساس قانوني لها.