عشية انطلاق الجولة العشرين من اجتماعات أستانا يومي 21 و22 حزيران 2023 كثر الحديث عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي عن إمكانية تصعيد ميداني قد تشهده مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري استناداً إلى عدد من المؤشرات المستجدة والصادرة عن معظم الأطراف التي لها حضور عسكري مباشر ومؤثر على الجغرافيا السورية، ومع مرور الوقت تزداد المؤشرات الدالة على أن السيناريوهات المتوقعة متعددة ومفتوحة على أكثر من احتمال، ولقراءة الموقف المتشكل ودلالاته بشكل موضوعي من المفيد تسليط الضوء على بعض الأفكار والعناوين المهمة التي قد تساعد على توضيح اللوحة، ومنها:
ـ دخول تعزيزات عسكرية أمريكية جديدة إلى القواعد التي تنتشر فيها قوات التحالف الذي تقوده أمريكا بذريعة مكافحة داعش، وهو صناعة أمريكية صرفة باعتراف المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، ترامب وهيلاري كلنتون وغيرهما.
ـ سبق ذلك نشر خبر في "واشنطن بوست" عن خطط إيرانية لتصعيد الهجمات ضد القوات الأمريكية في سورية، والعمل مع روسيا على إستراتيجية واسعة لطرد الأمريكيين من المنطقة، وتلا ذلك الحديث عن إرسال طائرات الجيل الخامس "أف-22" إلى المنطقة.
ـ تكثيف تركي لاستهداف قوات "قسد" عبر الطيران المسير، وقتل عدد من مقاتليها بمن فيهم قادة ميدانيون تمّ استهدافهم في منطقتي منبج وتل رفعت في ريف حلب الشرقي، واستمرار الاستهداف على امتداد خطوط الانتشار من حلب إلى أقصى الشمال الشرقي.
ـ الحديث عبر عدة وسائل إعلام عن تعزيزات عسكرية سورية وازنة تحركت إلى ريف حلب الشمالي باتجاه تل رفعت ومنبج، وأخرى إلى ريف إدلب الشرقي باتجاه جبهة "سراقب"، وانتشارها في مواقع قتالية على خطوط التماس مع قوات الاحتلال التركي والفصائل المسلحة التابعة لأنقرة على امتداد جبهات حلب وإدلب، وكذلك في مواجهة مجموعات "قسد" المرعية من قوات الاحتلال الأميركي بشكل مباشر.
ـ تأكيد الجانب الروسي تجهيز "خارطة طريق" لتطبيع العلاقات السورية ـ التركة، وعرضها على الأطراف المجتمعة في أستانا بجلستها العشرين، وعدم الإفصاح عن مضمونها بشكل عام.
ـ يقين "قسد" بعقم تكرار المحاولات الهادفة لانتزاع اعتراف دمشق بـ"الإدارة الذاتية"، ومنح قواها العسكرية والأمنية صفة شرعية جراء إصرار قسد على علاقتها مع الأمريكي وتلقي دعمه، في حين ترى دمشق في الوجود الأمريكي على الجغرافيا السورية احتلالاً يحول دون بسط سيطرة الدولة السورية على جميع المواقع والمناطق والثروات التي يشرف الأمريكي على نهبها وحرمان الشعب السوري منها، وهو بأمس الحاجة إليها، ولا خيار أمام الدولة السورية إلا مواجهة من يرتضي لنفسه أن يكون أداة لأي محتل يسعى لضرب وحدة الجغرافيا السورية وتعريض أمنها الوطني للخطر.
ـ زيادة وتيرة الاعتداءات التي تنفذها المجموعات الإرهابية ضد المدنيين انطلاقاً من إدلب واستهدافها بالقذائف الصاروخية والطيران المسير العديد من القرى والبلدات الآمنة في محافظتي حماة واللاذقية: (سلحب ـ جورين ـ دير شميل ـ القرداحة.. الخ) مما أدى إلى ارتقاء شهداء من بينهم أطفال ونساء، وخلف خسائر مادية كبيرة في الممتلكات، وعرض حياة المواطنين المدنيين الآمنين للخطر، ومن المهم والضروري وضع حد لإجرام تلك المجموعات الإرهابية المسلحة.
ـ تزامن التصعيد الجديد للمسلحين التكفيريين في إدلب ضد أهالي بلدات المحافظات المجاورة مع شكلين آخرين من العدوان ضد الدولة السورية:
أ ـ تحرك ما تبقى من خلايا تنظيم داعش، وتنفيذ اعتداءات إرهابية ضد الجيش والمدنيين السوريين في أكثر من محافظة: حماة ـ الرقة ـ الحسكة ـ دير الزور، وكأنَّ أمراً عملياتياً أمريكياً أعطي بتزامن مدروس لكل من داعش والتنظيمات الإرهابية تلك لزيادة الضغط على الدولة السورية، ومحاولة إبقاء الوضع الداخلي متوتراً، وقطع الطريق على أية تفاهمات يمكن التوصل لها مع الأتراك بجهود الأصدقاء الروس والإيرانيين.
ب ـ تصعيد إسرائيلي ضد أهلنا في الجولان المحتل، ومحاولات سرقة أراضيهم بذريعة إقامة مشروع للتوربينات الهوائية، ووقوف الجولانيين السوريين البطولي في مواجهة الوحشية الإسرائيلية التي يعتقد أن تعود أكثر حدة بعد انقضاء عطلة عيد الأضحى المبارك، وهذا يؤكد تكامل أدوار جنود الاحتلال وشرطته ومستوطنيه في الجولان المحتل وفلسطين، مع دور تلك الجماعات الإرهابية المسلحة التي ما تزال تنتشر في إدلب وأماكن أخرى على الجغرافيا السورية بغض النظر عن مسمياتها المتعددة ومرجعياتها المتكاملة.
ـ تفعيل الرد السوري ـ الروسي المشترك على الاعتداءات التي ينفذها المسلحون ضد الأهالي، وتكثيف الغارات الجوية التي استهدفت الجبهة الشمالية الغربية من ريف حلب الغربي وصولاً إلى جبهات سهل الغاب وريف اللاذقية، وتحقيق إصابات دقيقة في جميع المواقع التي استهدفها الطيران الحربي الروسي والطيران السوري بشكل مباشر، واستكمال ذلك بقصف مدفعي وصاروخي مركز ودقيق أدى إلى تدمير العديد من مقرات القيادة والسيطرة التابعة لهيئة تحرير الشام والحزب الإسلامي التركستاني، وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة المنتشرة في إدلب وحولها، وعلى المحور الغربي لحلب، كما أسفر القصف الجوي والمدفعي عن تدمير عدد من نقاط ارتكاز الفصائل المسلحة، ومقر لإطلاق الطيران المسير بكل ما فيه من عتاد وذخائر بالإضافة إلى مستودعات للأسلحة وخطوط إمداد خلفية، والقضاء على عشرات المسلحين من بينهم عدد من متزعمي تلك التنظيمات الإرهابية، وقد تم ذكر أسمائهم في تصريح المصدر العسكري وفق بيان وزارة الدفاع السورية.
ـ الحديث عن خطوات عملية للتقارب بين "قسد" و"هيئة تحرير الشام" التي تسيطر على مناطق عديدة في ريف حلب، من بينها معابر مع "قسد"، وهذا لا يكون إلا بغطاء أمريكي لإبقاء الوضع متوتراً مع الدولة السورية، وقطع الطريق على أي تقارب ممكن بين دمشق وأنقرة برعاية روسية وإيرانية، في الوقت الذي تزداد فيه حدة الاشتباك الروسي ـ الأطلسي على الجغرافيا الأوكرانية، مع ارتفاع منسوب تبادل الاتهام بين الطرفين حول خرق اتفاقيات سابقة تمنع الاحتكاك الجوي في الأجواء السورية.
ـ من المهم قراءة هذا الموقف المتشكل مع الأخذ بالحسبان عدة تطورات أساسية أرخت بظلالها على ساحات الصراع المزمن والاشتباك الحاد إقليمياً ودولياً، وهي:
1- استعادة سورية مقعدها في جامعة الدول العربية، وتسارع خطوات الانفتاح على دمشق، وعودة تبادل افتتاح السفارات بين سورية وعدد من الدول العربية، مع استمرار التشدد في الموقف الأمريكي والأطلسي، والجنوح نحو مزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية بهدف ليّ ذراع الدولة السورية.
2- زيادة العدوانية الإسرائيلية في الداخل الفلسطيني، مع ازدياد تآكل قدرتها الردعية، واتساع الشروخ الداخلية والانقسام البيني عمودياً وأفقياً بما يشكل تحديات وجودية لكيان الاحتلال بالتزامن مع عدم رضا أمريكي عن سياسة نتنياهو وحكومته الأكثر تطرفاً، وخشية واشنطن من إقدام أصحاب الرؤوس الحامية في تل أبيب على تصدير أزماتهم الداخلية والذاتية، وما يحمله مثل هذا التهور من إمكانية اشتعال المنطقة في توقيت لا يناسب التوجهات الأساسية المعتمدة في الأجندة الأمريكية.
3- إنجازات نوعية تحققها إيران دبلوماسياً عبر التوقيع على اتفاق مع المملكة العربية السعودية برعاية صينية، وعسكرياً عبر الكشف عن منظومات تسليحية عسكرية غير مسبوقة مثل صواريخ "خيبر 4” والصاروخ فرط الصوتي "فتاح"، إضافة إلى اهتمام أمريكي لم يعد سراً بالتوصل إلى تفاهم مع إيران بخصوص ملفها النووي.
4- تمرد جماعات "فاغنر" بزعامة يفغيني بريغوجن، وحكمة القيادة الروسية ورباطة جأشها في التعامل المسؤول والحازم، وإنهاء الواقع الشاذ في غضون أقل من /24/ ساعة، مع إصرار الغرب الأطلسي بزعامة واشنطن على تصعيد وتائر الحرب عبر أوكرانيا لإغراق روسيا في مستنقع يحول دون تفكيرها واستمرارها بكسر الأحادية القطبية، وهذا يشكل خطراً وجودياً يواجه الأمن القومي الروسي، وليس أمام موسكو إلا الاستمرار باستراتيجيتها المعلنة، والنجاح في تهيئة البيئة الاستراتيجية المناسبة للانتقال إلى نظام عالمي جديد.
وقفة تحليلية مع معطيات الموقف المتشكل:
قراءة الأفكار والعناوين السابقة تفتح مروحة واسعة من الاحتمالات الممكنة والمتوقعة لما قد تشهده الأيام والأسابيع القادمة، ويمكن باختصار التوقف عند بعض الرسائل والدلالات والتطورات المحتملة والمتعددة، ومنها:
- تكثيف نشاط الطيران الحربي الروسي ضد الجماعات التكفيرية المسلحة في إدلب وريف حلب الغربي جواب مباشر للغرب الأطلسي بخاصة، وكل من يدور في فلكه بعامة يؤكد أن تمرد "بريغوجن" لم يؤثر على الدور الجيوبولتيكي الفاعل لموسكو إقليمياً ودولياً.
- نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وتجاوز ضغوط الخوف من مغادرة الحياة السياسية يضيق هامش المناورة لديه، ولا يوسعه، كما يُخَيَّلُ لبعض الكتَّاب والمحللين، لأن استمرر المماطلة والتسويف يتناقض مع مواقف موسكو وطهران الداعمة لفوز أردوغان، ومهما كان دهاؤه السياسي واحترافه الرقص على الحبال المتناقضة سيجد نفسه أمام إلزامية اختيار مكان وضع القدمين وليس القدم الواحدة، بغض النظر عن أن تركيا تشكل ضرورة لكل من روسيا وأمريكا بآن معاً.
- المتابع الموضوعي للتصعيد الميداني في الشمال السوري، واستهداف التنظيمات الإرهابية المسلحة المنتشرة هناك بإشراف مباشر أو غير مباشر من حكومة أنقرة يجد نفسه أمام احتمالين لا ثالث لهما:
1- معرفة تركيا المسبقة بما حدث وما قد يحدث من استهداف مستمر ومتصاعد للوجود المسلح في أماكن خارج سلطة الدولة السورية، وهذا يعني التنسيق مع التركي وموافقته على إنهاء هذا الملف المفتوح، والقضاء التام على أولئك المسلحين المصنفين على لائحة الإرهاب وفق قرارات المنظمة الدولية.
2- عدم معرفة تركيا ومن دون موافقتها على قصف المناطق التي استهدفها الطيران الروسي والسوري، وهذا يعني أن القرار متخذ، ويتم تنفيذه سواء رضي أردوغان أم لم يرضَ، فالموجودون في تلك المناطق هم من عتاة المسلحين الذين تم كنسهم من مناطق جغرافية تم تحريرها سابقا، وبقاؤهم كظاهرة إرهابية مسلحة يشكل خطراً وتهديداً يواجه الأمن الوطني والقومي للجميع دونما استثناء.
خلاصة:
إدلب وما حولها وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها هذا التنظيم المسلح أو غيره من المسميات تبقى أرضاً سورية، ومن حق الجيش العربي السوري وواجبه العمل على تحريرها من سيطرة أية قوة احتلال سواء أكانت ضمن قوام تنظيمات إرهابية مسلحة، أم تتبع لدول وتحالفات، وعندما تنتقل بعض وحدات الجيش العربي السوري وتشكيلاته من منطقة إلى أخرى ضمن جغرافية الدولة السورية فهو حق مشروع لا يتطلب إعلام أحد قط، وهذا لا يقلل من أهمية التنسيق مع بقية الحلفاء والشركاء لضمان القضاء على الإرهاب بأقل خسائر، وأعلى مردودية ممكنة، مع الأخذ بالحسبان أن مسلمات التفكير العسكري الاستراتيجي تفرض على أية قوات يتم تحريكها أن تتمتع بجهوزية عالية واستعداد تام على مدار الساعة للتعامل مع كل المستجدات والاحتمالات بما في ذلك إمكانية "الاشتباك من الحركة" حتى قبل الوصول إلى أماكن الانتشار الجديدة.