أولاً: المقدمة
يقال في المثل الروسي إنه إن كان في تقديرك للموقف أنه لا بد من وقوع مشكلة، وبداية تضارب وصراع؛ فلتكن أنت المبادر بالضربة الأولى؛ ففي مبادرتك بالضربة الأولى لخصمك؛ على الأقل تدفعه لكشف نواياه تجاهك، وتضعه في مربع رد الفعل الذي يفقده ميزة التفكير المنظم المطلوبة للتعامل مع الأزمات والخروج منها.
هذا النمط من التفكير -العمل الاستباقي والمبادر- والفعل مفيد جداً في التعاطي مع ما يعترض الانسان من مشاكل يومية، وأزمات حياتيه، فما بالنا بمن يتعامل مع محتل صائل يفسد الدين والدنيا، ولا يتوانى عن القتل والجرح والتدمير والاعتقال؛ فلا يكاد يمر يوم علينا دون رؤية أو قراءة أو سماع خبر عن اجتياحه لمدننا وقرانا، وتخريب ما تصل له يده من ممتلكات وأصول -بشرية ومادية- لمقاومتنا.
والمراقب عن بعد لمجريات الأحداث في الضفة الغربية؛ خاصة في شمالها حيث مثل الرعب المقاوم – نابلس جنين طول كرم – يرى أن العدو يمتلك هناك زمام المبادرة؛ فهو يدخل هذه المدن – فضلاً عن غيرها – في الزمان والمكان الذي يحدده، فيعيث فيها فساداً، ثم ينسحب، ليعيد الكرة من جديد متى شاء وكيف شاء!!
ومع أن المقاومة الفلسطينية في هذه المناطق بدأت تنمو وتراكم خبرات وقدرات، وأصبحت تشكل تهديداً ذا مصداقية على قدرات العدو المناورة في هذه الجغرافيات، بحيث أصبح يحسب حساباً لكل عمل قتالي في هذه المناطق؛ إلّا أننا لابد من أن نعترف أن فعل العدو في هذه المنطقة فعلٌ مؤثر ومؤذٍ، ويجبي من المقاومة وأصولها أثماناً، ويوقع فيها خسائر بشرية ومادية، تكاد تجز (عشبها) النامي هناك أولاً بأول.
الأمر الذي لابد للوقوف عنده وبحث أسبابه في وقفات لاحقة، علّنا بهذا نشخص أصل المشكلة، ونقدم ما هو مفيد، بحثاً عن امتلاك زمام المبادرة في منطقة العمليات تلك، وهذا – امتلاك زمام المبادرة، ما ستتناوله هذه الورقة في عناوينها التالية، حيث سنحرر المصطلح، ثم نطرح مجموعة من الأفكار والإجراءات التعبوية، ثم نختم ببعض التدابير والتوصيات التي نعتقد أنها قد تفيد، كوجهة نظر من مراقبين عن بعيد.
ثانياً: تحرير المفهوم والمصطلح
لنبدأ حديثنا هذا في تحرير المصطلح الذي يُكثر الحديث عنه القادة العسكريون، والذي يرون في امتلاكه؛ امتلاكاً لميزة قتالية لا تضاهيها ميزة؛ تُحسن من الموقف القتالي لمالكها أيما تحسين، حيث لن نطيل الحديث والتفصيل في تعريف هذا المصطلح وتحريره، فنقول إن “امتلاك زمام المبادرة” القتالية يعني أن القائد أو الجندي أو التشكيل القتالي المناور قادر على فتح وقطع الاشتباك في الزمان والمكان الذي يحدده هو، بحيث يبدأ القتال أو الاشتباك وينهيه من “موقف” وفي “موقف” قتالي تكون له فيه اليد العليا.
هذا باختصار شديد، أو بمعنى آخر: أن تقاتل متى وأين تشاء، وتوقف الاشتباك متى وأين تشاء.
ثالثاً: أهمية امتلاك زمام المبادرة:
إن امتلاك الجندي أو القائد أو التشكيل القتالي لزمام المبادرة يوفر له مجموعة من الميزات القتالية التي تُحسّن “موقفه” وتضع خصمه في مربع رد الفعل مضعفة “موقفه”، حيث أن أهم ما يوفره امتلاك زمام المبادرة القتالية من ميزات وامتيازات للمقاتل ما يأتي:
الكشف عن نوايا الخصم
إن المبادرة بالتعرض للعدو، هجوماً أو استطلاع بالنار، يجبره على التحرك وإظهار رد فعل مناسب للمناورة القتالية التي يراها أمامه، مما يعني كشفاً لنواياه، وافصاحاً عن مكنون نفسه، وإظهاراً لمناورته، وبعضاً من قدراته، وانتشاره وتموضعه، عندها يستطيع المُتعرض المبادر أن يحوّل “تقديره للموقف” المبني على “تقديراً لمعلومات ومعطيات” قد يكون بعضها صلبٌ وبعضها الآخر (رخو)، يُحوّل “تقديره للموقف ” إلى حقيقة واقعية، يبني عليها ما تقتضيه من مواقف وإجراءات.
إفقاد الخصم ميزة التفكير المنظم:
ومما يمنحه امتلاك زمام المبادرة من ميزات لحائزه؛ سلب العدو أهم ميزة وصفة تمكنه من استيعاب الموقف والتعامل معه للخروج منه، ألا وهي ميزة التفكير المنظم، فامتلاك زمام المبادرة يعني أن العدو واقع تحت ضربات متتاليات لا تتيح له التوقف والهدوء وجمع شتات الذات، ليفكر بشكل منظم في الموقف الذي هو فيه، مما يجبره على البقاء في مربع رد الفعل الذي يجعله غير قادر على المبادرة والرد على ما يتلقاه من صفعات وضربات.
بدء الاشتباك من موقف قوة
ومن مكتسبات امتلاك زمام المبادرة؛ بدء الجهة المالكة له الاحتكاك والاشتباك مع العدو من موقف قوة، فارضة على عدوها رتم العمل، وطبيعة السلوك، ونوع الإجراء، محولة كل الظنون والتقديرات التي تملكها، إلى يقين ومعلومات، فضلاً عن البعد المعنوي الذي تمنحه المبادرة للمبادر، فهي تضفي على روحه طابعاً هجومياً عدوانياً هو في أمس الحاجة له، وحيث أن المُبادر يحشد كل نقاط قوته ليضرب بها نقاط ضعف خصمه، ويفاجئه من حيث لا يحتسب، كان الموقف القتالي للمبارد، أفضل، وأجدى، وأقل أكلافاً مما لو بقي ساكناً منتظراً حركة عدوه، ليبني على فعل عدوه، رد فعله.
قطع الاشتباك من موقف قوة
المبادر الذي يتحكم في زمام الموقف ابتداءً؛ قادر على تحكم به ورسم شكله انتهاءً، فإن كان فتح الاشتباك في المكان والزمان المناسب له، فإنه -حكماً- قادر على قطع الاشتباك في الزمان الأفضل له؛ كون المُهاجم منشغلٌ في معالجة تداعيات التعرض له، وهمه ينصب على قطع الاشتباك لاحتواء الموقف، ومعالجة تداعياته، وليس مهتماً بإدامة المعركة في موقف غير مساعد ولا موات له، مما يعني قدرة المُبادر على قطع الاشتباك وتحسين الموقف القتالي له، وهو في أحسن حالاته، وأفضل استعداداته.
فرض ساحة المعركة على العدو:
أما آخر الميزات التي يمنحها امتلاك زمام المبادرة للمُبادر فهي: فرض مكان المعركة على العدو، وأسوء مواقف القتال هو: أن يقاتل المقاتل في أرض لا يناسبه القتال فيها، أو أن يفرض عليه خصمه الاشتباك في جغرافيا هو عنها غريب، أو لا يتوقع ضرب عدوه له فيها.
إن مثل هذا الموقف يعني أن المُهاجم واقعٌ تحت ضغط قوتين؛ قوة سلاح خصمه وعدوه الذي يضغط عليه، وقوة الجغرافيا غير المناسبة التي فُرضت عليه، فتتكالب عليه القدرات والجغرافيات، ويخسر ويتضرر أضراراً غير محتملات.
كانت هذه أهم الميزات التي يقدمها امتلاك زمام المبادرة للمقاتل الذي يبادر للقتال في الزمان والمكان المناسب له، فارضاً على عدوه رتم المعركة ونوع إجراءاتها وعدد صفحاتها.
أما عن الأفكار والإجراءات التعبوية المقترحة لامتلاك زمام المبادرة، فنأتي علي أهمها في العنوان الآتي.
رابعاً: أفكار وإجراءات تعبوية
لامتلاك زمام المبادرة القتالية، في مثل مسرح عمليات الضفة الغربية، والتي يصول العدو فيها ويجول -بذاته وبأدواته- بحرية كاملة، مستبيحاً أرضها وسمائها، لامتلاك زمام المبادة في مثل مناطق العمليات هذه، نقترح ونشير إلى بعض الأفكار والإجراءات التعبوية والتي من أهمها ما يأتي:
الإحاطة المعلوماتية
إن أول متطلب من متطلبات امتلاك زمام المبادرة القتالية -وغير القتالية- هو الإحاطة المعلوماتية، عن العدو ونقاط قوته وضعفه، والأرض وما فيها من ميزات وتفصيلات يمكن أن تستثمر في تقوية الذات، والبيئة وما فيها بشر وشجر، وكيف يمكن أن تضيف -البيئة- لنا قوة إلى قوتنا، إن المعلومات هي عين المقاتل، وهي زاده اليومي، وهي التي تقيه – بعد حفظ الله – من صولات عدوه، وهي التي تجعله ينطلق في الفعل من موقف قوة، وينهيه بأقل الخسائر وأفضل النتائج، إنها -المعلومات – الجهد والمسار الذي لا يتوقف، حتى لو توقف القتال، وصمتت المدافع، إنها جهد ما قبل وما بعد وما يتخلل المعارك والاشتباكات ويصاحبها، فالله الله فيها، لا تنسوا فضلها ولا تحطوا من قدرها.
تجميد العواطف
تجميد العواطف يعني أن نقاتل عدونا متى وأين نشاء نحن، لا أين ويشاء ويختار هو، وتعني أن لا نبادر حيث يتطلب الموقف ذلك، وأن نمتص الضربات بهدء وسكون، يُمكّنا من قلب الموقف لصالحنا، وتعني أن نفرض نحن زمان القتال ومكانه على العدو، وتعني أن نخوض اشتباكنا ومعركتنا بالحد المطلوب من القدرات، فلا تزيد؛ فنخسر أكثر مما نربح، ولا تنقص؛ فيفلت منا الموقف، وتقع فينا الخسائر، إن تجميد العواطف هو الذي أطار (ظبان) عقل العدو في معركة “بأس جنين” الأخيرة، فقد جهد عدونا لاستفزاز المقاتلين ودفعهم للخروج من أمكان تحصنهم للقتال في أماكن هو يريدها وتجهز فيها، ولولا فضل الله أولاً وأخيراً، ومن ثم التحكم بالعواطف، لعصفت بالمقاتلين العواصف.
توقع هجوم العدو واستيعابه ومن ثم معالجة تداعياته
ومن الأفكار التي تساعد على امتلاك زمام المبادرة أو استعادته من العدو؛ توقع هجومه زماناً ومكاناً، فنقدر عندها على استيعاب تعرضه علينا، وتحمل خسائره، وإدارة الموقف بأكفأ حالات القيادة والسيطرة، الأمر الذي يمكن المقاتل من تقليل خسائره، والتحكم بالموقف، ومن ثم استعادة زمام المبادرة القتالية، والكر على العدو في عمل معاكس يجرده مما كسب، ويخسره من جديد ما ربح.
إعادة التنظيم
لا بد بعد كل معركة من إعادة التنظيم، وترتيب الصفوف، وحصر الخسائر، وترميم الأضرار -البشرية والمادية-، وسد الثغرات في الجهاز الدفاعي، أو القدرات الهجومية، وهي كلها من الإجراءات التي تساعد على امتلاك زمام المبادرة، والتحكم في الموقف مستقبلاً، وتعيد الثقة بالنفس، وترفع الروح المعنوية، وتحفز الروح القتالية، وتضع المعالم الرئيسية في مسار بناء القدرات وتطويرها مستقبلاً، وكل ما ذكر من أهم الأمور التي تمكن من امتلاك زمام المبادرة والتحكم في الموقف القتالي.
اختيار زمان ومكان المعارك
إن اختيار الزمان والمكان المناسب للمعركة، هو أهم تجليات امتلاك زمام المبادرة، والمؤشر عليه، إن أخطر موقف قتالي يمكن أن يتعرض له التشكيل القتالي هو الكمين المُدبر والمُحضر له مسبقاً، حيث يختار المقاتل المكان ويفرضه على العدو وينتظره فيه، ويترك للعدو اختيار زمان الوصول إلى مقتله، فيُضرب العدو في المكان غير المتوقع، والزمان غير المحسوب، والإغارة تجل آخر من تجليات امتلاك زمام المبادرة، فيغير المقاتل على عدوه في المكان والزمان الذي هو يختار، فيوقع فيه الخسائر ويجبي منه الأثمان، ويضعه في مربع رد الفعل، ويحرمه ميزة التفكير المنظم.
تحديد المهام والتفاهم على الأهداف:
ومن الإجراءات التي تساعد على امتلاك زمام المبادرة؛ تحديد المهام والتفاهم على الأهداف، وهما من أهم إجراءات الفعل القتالي التي تساعد على حشد وتعبئة، ومن ثم تخصيص القدرات، وهذه الإجراءات هي التي تساعد على التحكم في تفاصيل الموقف القتالي وإدارته، فمعرفة الهدف يعني التركيز على إنجازه، وتأمين متطلبات النهوض بالمهمة على أكمل وجه، والمعرفة بمآلات الأمور تعني إدامة زخم الهجوم حتى تحقيق الأهداف، وهذا كله يعني المحافظة على امتلاك زمام المبادرة، من بداية الاحتاك وحتى نهاية الاشتباك.
المرونة وتشتيت قدرات العدو:
ومرونة المناورة وكفاءة المقاتلين، ومعرفتهم بأهداف معركتهم، تساعدهم في تحديد جهودها، بين ما هو رئيسي وثانوي، والحقيقي منها والخداعي، فتتشتت جهود العدو، ولا يعود يعرف الاتجاه الرئيسي للهجوم، فلا يقدر على تخصيص ما يمكن من قدرات لصده، فيفقد زمام المبادرة القتالية، ما يعني أن خصمه المرن العالم بحقيقه الموقف، هو المالك للمبادرة، والمتحكم في مسار المعركة، وهو من سيوقف نارها كما بدأ هو بالنفخ في شرارها.
تجنب الاشتباكات الحاسمة:
هذا الإجراء يعني أن المقاتل يقاتل حيث شاء، ومتى شاء، وبالكيف والكم الذي يشاء، ولا يمكن لعدوه أن يفرض عليه ما يريد، وتجنب الاشتباك الحاسم يعني فيما يعنيه، أننا نزعج العدو ونسدد له الضربات، ثم ننسحب قبل أن يستوعب الموقف ويحشد للتصدي له ما يناسب من قدرات، فإن لم يكن هذا الإجراء – تجنب الاشتباك الحاسم – تجلٍ من تجليات، ومساعد من أهم المساعدات في امتلاك زمام المبادرة، فماذا يكون؟
التأمين المتقابل:
والتأمين المتقابل بين المقاومين، وبين جغرافيات القتال، من الإجراءات المهمة في امتلاك زمام المبادرة، فعندما يشتبك المقاتل مع عدوه وهو آمن الجانب، مسنود الظهر؛ يعني أنه متحكمٌ في الموقف، وأن جزءاً من قدرات عدوه قد جُمد من خلال الاشتباك مع قوة التأمين الصديقة، كما يعني أيضاً عدم قدرة العدو على حشد طاقاته، واستجماع قدراته، وبقائه في مربع الأزمة الذي وضعناه فيها، وهذا – بقاء العدو حيث نريد شكلاً ومضموناً – هو جوهر امتلاك زمام المبادرة.
خامساً: توصيات وتدابير
نختم بمجموعة من التوصيات والتدابير التي تساعد على امتلاك زمام المبادرة والحفاظ عليه، نسردهاً سرداً، ليستنبط منها المقاتلون ما يساعدهم ويناسب مواقفهم، ومن أهمها ما يأتي:
- امتلاك المعلومات عن العدو الأرض والذات والمهمات، فالمعلومات ثم المعلومات ثم المعلومات.
- التحكم بالمشاعر وتجميد العواطف.
- امتلاك قدرات قيادة وسيطرة فاعلة وآمنة، خارجة عن سيطرة العدو التقنية والبشرية.
- تحديد المسؤوليات، شكلاً ومضموناً وجغرافيات.
كان ما تقدم عرضاً لمفهوم “امتلاك زمام المبادرة”، عَرّفنا به، وفصلنا حيث يقتضي الموقف التفصيل، وذكرى ما ينبني عليه ويتطلبه من إجراءات، وما يولده من أفضليات للمقاتل وميزات، ونختم بالحكمة المأثورة التي تقول: “إذا هِبتَ شيئاً فاقحمه”، ولكن بعقل، وتروٍ وتأنٍ، فلا تفلت منك الأمور.