• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
مقالات مترجمة

الشرق الأوسط المتعدد الاتجاهات: كيف تتكيف أميركا مع نفوذ الصين المتزايد في المنطقة


في الوقت الذي أُعلن فيه في آذار \مارس 2023 ، كان يُنظر إلى الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بين إيران والسعودية على نطاق واسع على أنه علامة على وصول بكين إلى سياسات القوة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن نفت أن دور الصين في التوسط في الاتفاق الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران يعكس تراجع النفوذ الأميركي ، فإن تصرفات واشنطن منذ ذلك الحين ترسم صورة مختلفة. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية ، نشرت الولايات المتحدة موارد عسكرية إضافية في المنطقة ، وزادت من الدوريات والتدريبات المشتركة حول مضيق هرمز، وأشارت إلى أنها ستدفع الأسلحة إلى الأمام.  وأشارت إلى أنها ستدفع صفقات الأسلحة مع شركاء إقليميين مثل السعودية والإمارات، وتوسيع نطاق التدريب مع مصر والكويت وغيرهما ،  وكل ذلك لطمأنة الشركاء العرب على التزامها أمن الشرق الأوسط.

لن تزيد هذه الجهود من التأثير الأميركي ، فتوجه القوى العربية نحو الصين لم يكن نتيجة تراجع الوجود العسكري الأميركي؛ بل كونها ليست متأكدة من استعداد واشنطن لنشره نيابة عنها. فهذه الدول تعترف بالرصيد العسكري الأمريكي بالمنطقة

تتعاون هذه الدول مع الصين في مجالات مثل البنى التحتية والتكنولوجيا حيث لا تستطيع الولايات المتحدة أو غير مستعدة لمساعدتها بها. وهي تريد الحصول على أنظمة عسكرية متقدمة مثل المسيرات القتالية التي وضعتها الولايات المتحدة خارج الطلب.  أكثر من هذا، تميل السياسة الخارجية الصينية إلى التعامل الودي مع الأنظمة الديكتاتورية واستطاعت البقاء على مسافة متساوية من القوى الإقليمية المتنافسة، الأمر الذي منحها الفرصة لأداء دور الوسيط.

وفي ضوء هذه التوجهات، باتت الولايات المتحدة بحاجة إلى نهج جديد في المنطقة. وعليها قبول الملامح الإيجابية من الوجود الصيني في الشرق الأوسط، وتشجيع مساهمة بيكين في التنمية الإقليمية والاستقرار. وعلى واشنطن تبني رد واضح ضد ممارسات الصين التي تضر بالمصالح الأميركية.

وعلى أميركا في الوقت نفسه ألا تضاعف من استراتيجيتها التي عفا عليها الزمن وتركز على الأمن، أي المتجذرة في جهود أميركا في انشاء  كتل دفاعية لمواجهة الزحف الصيني. وبدلًا من هذا، على الولايات المتحدة توسيع أدوات سياستها والاستثمار في المنطقة في مجالات تمنحها التفوق النسب،ي مثل الاستثمار في تعزيز القوى البشرية والتعليم والتكنولوجيا الخضراء والمنصات الرقمية. وعليها دعم اتفاقيات مع الشركاء العرب والقوى الصاعدة المتوسطة مثل البرازيل والهند واليابان التي تسمح بتنويع المساهمين بالمنطقة وجلب الاستثمار وإنعاش المشاركة الأميريكية في التجارة والتغيرات المناخية والأمن الغذائي وبقية الأمور.

اتسمت سياسات دول الشرق الأوسط الخارجية على مدى العقد الماضي بالتحول نحو الانحياز المتعدد، ولم يعد شركاء الولايات المتحدة التقليديون  كمصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة راضين عن جهودها لخلق كتل بقيادة أميركية خالصة. فهذه الدول تبحث عن شراكات مع قوى عديدة بما فيها الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة. فقد عمقت الإمارات على سبيل المثال ـ على الرغم من شراكتها الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة ـ علاقاتها مع الصين من خلال التجارة والتشارك في التكنولوجيا وصفقات أسلحة جديدة، كما أنها لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا على الرغم من غزو أوكرانيا عام 2022. وتقوم بمبادرات واستثمارات ثنائية تجارية وتكنولوجية مع الهند، ودخلت معها في شراكة اقتصادية شاملة عام 2022.

ومثل دول الشرق الأوسط التي تسعى لانحياز متعدد، فهذا سيعيد تشكيل النفوذ الأميركي بالمنطقة. ومع أن الشرق الأوسط بات منطقة انحياز متعدد إلا أنه ليس منطقة متعددة الأقطاب، لأن الولايات المتحدة لا تزال المهيمن الأمني ومن المستبعد أن تحدي هيمنتها في المستقبل القريب. وقد انخفض عدد القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة من ذروتها، إلا أن عددها الحالي 30.000 جندي وهو نفسه قبل غزو العراق. ولا تزال الولايات المتحدة تنفق مليارات الدولارات سنويًا على المجالات الأمنية في المنطقة، ووفقًا لأرقام معهد ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي ارتفعت حصة واشنطن ( 2018 – 2022) من صفقات السلاح إلى 54 في المئة بزيادة عن 47 في المئة في فترة ما بين 2010-2014. والسبب هو العقوبات الأميركية على روسيا بعد غزوها شبه جزيرة القرم عام 2014.

ولاتزال تحتفظ الولايات المتحدة بمنشآت عسكرية تتراوح ما بين قواعد عسكرية كبيرة وصغيرة ونقاط عسكرية أو تدريب ومخازن للسلاح والمعدات العسكرية في دزينة أو أكثر من دول المنطقة. لكن الهيمنة لا تعني التفرد، فوجود الصين العسكري وإن كان محدودًا إلا أنها تستطيع منح شركائها فرصًا دفاعية واقتصادية لا تقدمها أميركا. فالصين ليس لديها سوى قاعدة عسكرية واحدة في جيبوتي، لكنها استثمرت في موانئ المنطقة التي يمكن أن تستخدم للنشاط المدني والعسكري مع زيادة التجارة مع دول الشرق الأوسط.

وبحسب تقرير استخباراتي جرى تسريبه في كانون الأول/ديسمبر 2022، سمحت الإمارات للصين باستئناف العمل في منشأة لوجيستية عسكرية بهدف الإضافة إلى الوجود العسكري الأميركي الكبير، وليس  استبداله. واستخدمت الصين استراتيجية التشارك في التكنولوجيا العسكرية مع المنطقة، فهي لا تدعم دولها عسكريًا، ولا تشكل صفقات الأسلحة مع الصين إلا 5 في الكئة من مجمل صفقات السلاح للمنطقة، ولكنها تعطي فرصة لشراء أسلحتها الرخيصة ومنفذًا مجانيًا على أسلحتها المتقدمة، مثل المسيرات والصواريخ الموجهة بدقة وغير المتوفرة لدى الدول في أميركا.

وتتعامل دول المنطقة، مثل السعودية والإمارات مع أنظمة السلاح الصينية كمتمم للسلاح الأميركي وليس بديلا عنه، بل تواصل شراءه وتفضله لنوعيته ومكانته. ووفرت الصين مساعدات للحكومات العربية ودعم أمنها الداخلي، بما في ذلك التدريب وتوفير تكنولوجيا الرقابة. ومنذ العام 2021، حصل كل من مصر والبحرين والكويت وقطر والسعودية والإمارات على صفة "شريك حوار" في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة أمنية واقتصادية صينية تضم روسيا. وانضمت إلى تركيا التي كانت شريكًا منذ 2013، وإيران التي مُنحت عضوية كاملة هذا العام. وبالنسبة إلى شركاء واشنطن، فالمشاركة في منظمة شنغهاي للتعاون تقوي علاقاتها مع الصين وروسيا ودول وسط آسيا من دون استبدال علاقاتها العميقة والشاملة مع الولايات المتحدة. ويمكن للصين أداء  دورا أهم من الولايات المتحدة في المجال الاقتصادي من دون أن تحل محلها.

فقد تجاوزت التجارة الصينية التجارة الأميركية مع المنطقة، وتفوقت على الاتحاد الأوروبي في العام 2019 لتصبح الشريك التجاري الأول للمنطقة. وتكشف بيانات صندوق النقد الدولي خلال العقد الماضي عن زيادة تجارة الصين مع الشرق الأوسط بنسبة 40 في المئة بسبب الصادرات للمنطقة وتعطشها المستمر إلى النفط القادم منها. في المقابل تراجعت صادرات أميركا ووارداتها. وجلب توسع حجم التجارة الصينية مع المنطقة معه نفوذًا، لكن الهيمنة الأميركية لم ينكسر نتيجة استخدام الدولار كعملة تبادل، وهو ما أعطى واشنطن ورقة نفوذ مهمة. وزادت الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط، مع أنه لدى الولايات المتحدة الحصة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتركز في السعودية والإمارات وإسرائيل وتنحصر في صناعات محددة. في حين أن استثمارات الصين أكثر تنوعًا، وتشمل دولًا عديدة مثل عمان التي لا تحظى بدعم أميركي كبير، وتشمل صناعات النفط والبنى التحتية المادية والرقمية والعقارات. وتعد الصين جذابة للدول العربية لاستعدادها للاستثمار في أي قطاع من دون شروط، مقارنة بالولايات المتحدة التي تربط الاستثمارات بشروط تحسين حقوق الإنسان والديمقراطية أو الإصلاحات الاقتصادية. وكشف استطلاع للباروميتر العربي دعمًا للنهج المتعدد وزيادة الاستثمارات الصينية والأميركية على الرغم من التشكيك بنفوذ الطرفين.

 ومع تفضيل المنطقة للنهج المتعدد، يتوقع صناع السياسة الأميركية من الدول العربيةـ وخاصة التي حصلت على دعم واشنطن وحمايتها الطويلةـ مواصلة التعامل مع أميركا كشريكها الوحيد والأوحد. وبدا واضحًا دفع إدارة بايدن لتوسيع اتفاقيات إبراهام مع إسرائيل، فهي تحاول إقناع السعودية عقد اتفاقية تطبيع مع إسرائيل أسوة بالبحرين والإمارات والمغرب والسودان، بل تريد أيضًا أن يشمل التطبيع قضايا أمنية واقتصادية وتنسيقًا عسكريًا أكبر ضد إيران وخلق حاجز ضد النفوذ الصيني. لكن التنافس الإقليمي والنزاعات والمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها أجزاء كثيرة من المنطقة كشفت عن ضعف النهج القائم على الأمن. ولم تؤد مليارات الدولارات التي أنفقت على التدريب والدعم العسكري إلى بناء قوى عسكرية قادرة على الدفاع عن الدول أو المشاركة في عمليات التحالف.

بل على العكس، جرأ الدعم العسكري شركاء واشنطن على شن عمليات عسكرية كارثية في اليمن وليبيا. وأدت هذه النزاعات لخلق الفرص أمام  أعداء أميركا مثل إيران ومرتزقة فاغنر وأسهمت في عدم استقرار المنطقة وخلقت تهديدات جديدة للمصالح الأميركية. وساهم الدعم الأميركي في مناطق أخرى كالعراق ومصر في ظهور طبقة فاسدة ثرية وفاقم الفساد.

 ولم تؤد هذه الاستثمارات الأمنية لبناء ولاء للولايات المتحدة، فالإمارات ليست الوحيدة التي واصلت التعامل مع روسيا بعد غزو أوكرانيا، بل الأردن ومصر والسعودية أيضًا. وحاولت إدارة بايدن الابتعاد عن طموحات بناء الدول في الشرق الأوسط بالقوة، كما في حالة العراق بعد الغزو عام 2003، لكنها لم تتخل عن النهج الأمني وجهود إجبار القوى المحلية على الشراكة معها ووحدها. ولهذا واصلت إدارة بايدن التمسك بالمعيار الأمني الإقليمي القائم على الضمانات الأميركية ومشاركة الشركاء في المنطقة. وتم دعم هذا من خلال المناورات العسكرية المشتركة وصفقات السلاح وتوقع واشنطن من شركائها الاختيار بينها وبين منافسيها. وكما قالت المسؤولة الدفاعية مارا كارلين في أيار/مايو “نريد من شركائنا الذين يشترون الأنظمة الأميركية ومن الحلفاء ألا يقوضوا شراكاتنا وعناصر نهجنا الإستراتيجي في المنطقة”.

وهذه المطالب غير الواقعية تفشل في التركيز على الأمور الاقتصادية، ففي الوقت الذي توسع فيه الصين تجارتها في المنطقة، لم تظهر الولايات المتحدة رغبة بتوسيع شراكتها التجارية معها، فالشرق الأوسط مشمول بالشراكة العالمية للبنى التحتية والاستثمار، وهي جواب مجموعة الدول السبع على مبادرة الحزام والطريق الصينية. لكن الاستثمار الجديد محدود لأنها تخدم التدخل الاقتصادي الأميركي في المنطقة.

وعلى الولايات المتحدة ـ كي تعيد إحياء دورها ـ الاعتراف بأن عهد التفرد والكتل الأمنية انتهى، وألا ترى في تنويع شركائها لمصادر الأسلحة والتعاون الأمني تهديدًا، وأنهم صاروا في فلك أعدائها، بل هي تعبير عن واقع جديد للانحياز المتعدد. وحتى تتكيف مع الواقع، على واشنطن تجنب ردات الفعل ومحاولة وقف النفوذ الصيني. ولن يكون مصير هذه السياسات الفشل، فقد تجبر الولايات المتحدة على تقديم تنازلات اقتصادية وفي مجال حقوق الإنسان. كما عليها تجنب منح الضمانات الأمنية للدول العربية كتلك التي تطالب بها السعودية، أو التخلي عن الرقابة أو الأمن المرتبط بعمليات نقل السلاح في محاولة لحرمان الصين من النفوذ. وفي مجال الأفضلية، فلن تدير السعودية والإمارات ومصر ظهرها للولايات المتحدة، وخاصة في مجال الدفاع والأمن. وعلى الولايات المتحدة تبني سياسة اقتصادية وأمنية تقدم الدعم الملموس للمنطقة، وعليها استثمار ميل الدول العربية إلى الانحياز المتعدد.