شهدت النيجر، في 26 يوليو 2023، انقلاباً عسكرياً تورطت فيه قوات الحرس الرئاسي المعروفة بقوات النخبة، بقيادة الجنرال عمر تشياني، عقِب اعتقال الرئيس محمد بازوم في القصر الرئاسي، كما أصدرت قوات الدفاع والأمن بياناً عسكريّاً متلفزاً في 27 يوليو، ظهر فيه الكولونيل أمادو عبد الرحمن وتسعة من الجنود الآخرين، يقضي بعزل بازوم من السلطة، وتشكيل المجلس الوطني لحماية الوطن، واتخاذ عدد من الإجراءات الاستثنائية للحفاظ على سلامة واستقرار البلاد.
ويُعَد هذا الانقلاب هو الخامس الذي تشهده البلاد منذ استقلالها في عام 1960، والمحاولة الانقلابية الثالثة خلال العامين الماضيين؛ ففي عام 2021 شهدت البلاد محاولة انقلابية فاشلة قبل تنصيب الرئيس بازوم بأيام قليلة، ورصدت تقارير محاولة انقلابية أخرى في مارس 2023 أثناء زيارة خارجية للرئيس. ومن ثم، أضحت النيجر جزءاً من حزام الانقلابات الذي تشهده منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي ينظر إليها الغرب على أنها واحة الاستقرار مقارنةً بمحيطها الإقليمي المضطرب، وحليفها الرئيسي في عدد من الملفات الاستراتيجية، مثل الحرب على الإرهاب، والهجرة غير الشرعية؛ الأمر الذي يهدد بتفاقم زعزعة الاستقرار في الساحل، ويهدد المصالح الدولية الاستراتيجية هناك، ويُنذر باحتدام سباق التنافس الدولي في المنطقة.
أبعاد رئيسية
تتسارع أحداث الانقلاب في النيجر منذ الإعلان عنه لتشهد الساحة السياسية المزيد من التطورات. ويمكن الإشارة إلى أبرز أبعاد اندلاع الانقلاب في البلاد على النحو التالي:
1– طرح أسباب متعددة دافعة للانقلاب: بجانب السبب المباشر الذي ورد في البيان العسكري الأول لتحرك العسكريين للإطاحة بنظام الرئيس بازوم، والذي تضمن ارتفاع معدلات الفساد في مؤسسات الدولة، واستمرار تدهور الأوضاع الأمنية، وسوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، هناك أسباب أخرى أدت إلى وقوع الانقلاب، يتمثل أبرزها في الخلافات بين القيادة السياسية وبعض القيادات العسكرية، بعدما أشارت تقارير إلى رغبة الرئيس بازوم في التخلص من الموالين للرئيس السابق محمد إيسوفو في المؤسسات الأمنية، بما في ذلك قوات الحرس الرئاسي، وعلى رأسهم اللواء عمر تشياني أحد أبرز المُقرَّبين لإيسوفو، الذي عيَّنه في عام 2015 في منصبه الحالي.
ويُضَاف إلى وجود انقسامات بين القيادة السياسية والعسكريين حول العلاقة الوثيقة التي تربط بازوم بفرنسا؛ ما أدى إلى تنامي استياء القادة العسكريين؛ الأمر الذي جعل البلاد مُعرَّضة بشكل أكبر لخطر الانقلابات على مدار العامَين الماضيَين، وتزايد المخاوف من وصول العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة اللاعودة، وهو ما تشهده البلاد خلال الوقت الراهن.
2– الإعلان عن إجراءات عسكرية استثنائية: بمُجرَّد إعلان قوات الدفاع والأمن إدارة البلاد لفترة انتقالية عقب الإطاحة بنظام بازوم، سارعت إلى اتخاذ عدد من التدابير الاستثنائية لحماية البلاد من الفوضى، والاستعداد لحقبة سياسية جديدة؛ حيث قررت تعليق العمل بالدستور، وتعليق العمل بكافَّة المؤسسات الحكومية، وتعليق أنشطة الأحزاب السياسية في البلاد حتى إشعار آخر، بالإضافة إلى إغلاق المطار الدولي، وإغلاق الحدود البرية والجوية حتى استقرار الأوضاع، علاوةً على فرض حظر التجوال في جميع أنحاء البلاد، كما أشارت تقارير إلى قيام المجموعة الانقلابية بالسيطرة على مبنى الإذاعة والتليفزيون، وتنفيذ حملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من 5 وزراء والمُقرَّبين من الرئيس بازوم.
3– تحولات متسارعة في موقف القوات المسلحة: فمن الواضح ضلوع قوات الحرس الرئاسي وحدها في تنفيذ الانقلاب الأخير دون مشاركة من بقية وحدات الجيش والحرس الوطني التي رفضت في البداية الانضمام، وهددت الحرس الرئاسي بالتدخل لإجباره على الانسحاب. وسرعان ما تحوَّل موقف القوات المسلحة إلى مؤيد للانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس بازوم والولاء للمجلس الوطني لحماية الوطن وفقاً لبيان رئيس الأركان عبده صديق عيسى؛ وذلك تجنباً للاقتتال داخل صفوف الجيش النيجري، وحفاظاً على تماسك البلاد، فضلاً عن صعوبة الوضع والتدخل عسكرياً في الساعات الأولى من وقوع الانقلاب لتحرير الرئيس بازوم، نظراً إلى التكلفة الباهظة على جميع المستويات، وهو ما أسهم في تحوُّل المحاولة الانقلابية إلى انقلاب مكتمل الأركان بمباركة الجيش وقادته، ليميل توازن القوة في المشهد النيجري الراهن لصالح المؤسسة العسكرية على حساب النظام الحاكم بقيادة الحزب النيجري للديمقراطية والاشتراكية.
4– تمسُّك الرئيس بازوم بالسلطة: أشارت تقارير إلى رفض الرئيس “بازوم” تقديم استقالته إلى الجنرال تشياني، وهو ما يعكس تمسُّكه بالسلطة في البلاد؛ حيث أكد وزير خارجيته حسومي مسعودو أن بازوم لا يزال يمثل السلطة الشرعية في البلاد، كما دعا مسعودو الرأي العام النيجري على الحشد والتعبئة لرفض الانقلاب والتصدي له في أنحاء البلاد.
5– انهيار مفاوضات الوساطة: فشلت جميع المحادثات مع قادة الانقلاب العسكري خلال الساعات الأولى من اندلاعه؛ فقد أجرى الرئيس بازوم مفاوضات مع الجنرال تشياني لإيجاد مخرج مناسب قبل أن تفشل، كما دخل بعض الأطراف السياسية المحلية مثل الرئيس السابق محمد إيسوفو، ورئيس الوزراء السابق برجي رافيني لإجراء محادثات مع تشياني دون التوصل إلى نتائج إيجابية.
فيما توجه باتريس تالون رئيس بنين، إلى العاصمة نيامي عقب لقائه الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو باعتباره الرئيس الحالي لمنظمة إيكواس؛ وذلك للقيام بوساطة بين النظام الحاكم وقادة الانقلاب، عقب اعتقال الرئيس بازوم؛ من أجل التوصل إلى تسوية من شأنها استعادة الشرعية الدستورية في البلاد، وسط تنبؤات بإخفاق جديد لإيكواس في تحقيق نتائج إيجابية هناك.
6– تحرك الظهير الشعبي للجيش: بالرغم من خروج نحو 400 شخص في مسيرة بالعاصمة نيامي مناهضة للمحاولة الانقلابية بعد ساعات قليلة من وقوعها، رافعين شعارات مؤيدة للرئيس بازوم، ومنددين بالمتورطين في الانقلاب، ومطالبين بإنهائه، فإن الوضع تغير عقب صدور بيان رئاسة أركان الجيش الانضمام والولاء للمجلس الوطني لحماية الوطن؛ حيث خرجت مسيرات شعبية مؤيدة للجيش والانقلاب الذي تشهده البلاد، كما قام المتظاهرون باقتحام المقر الرئيسي للحزب الحاكم في العاصمة نيامي. وربما يعتمد الحكام الجدد على تلك المسيرات خلال الفترة المقبلة؛ لتسهيل اتخاذ قرارات وإجراءات؛ منها ما يتعلق بإعادة تشكيل علاقاتها مع بعض القوى الدولية الفاعلة، لا سيما فرنسا.
7– محاولة طمأنة المجتمع الدولي: شددت قوات الدفاع والأمن على احترامها جميع الالتزامات التي تعهدت بها النيجر مع العالم الخارجي، والتزام قادة الانقلاب بسلامة الرئيس بازوم وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان؛ وذلك في محاولةٍ لتخفيف حدة الضغوط الإقليمية والدولية على الحكام العسكريين الجدد، وفتح قنوات اتصال مع القوى الفاعلة؛ من أجل التوصُّل إلى تفاهمات حول مستقبل العلاقات بين الطرفَين، خاصةً أن مواقف الإدانة من المجتمع الدولي قد انهالت ضد الانقلاب، مطالبةً بالإفراج الفوري عن الرئيس بازوم، وهو ما دفع المجلس الوطني لحماية الوطن إلى تحذير القوات الأجنبية، بما في ذلك الفرنسية، من التدخل في الشأن الداخلي للنيجر، خاصةً بعدما أشارت تقارير إلى هبوط طائرة عسكرية فرنسية في مطار نيامي الدولي برغم الإجراءات التي تُقِر بإغلاق الحدود الجوية والبرية.
8– تزايد الجدل حول الدور المحتمل لفاجنر: بمُجرَّد الإعلان عن اندلاع الانقلاب الأخير في نيامي، اتجهت أصابع الاتهام – من جانب كثير من المتابعين – إلى تورط مجموعة فاجنر الأمنية (الذراع العسكرية والأمنية لروسيا في أفريقيا) بالضلوع في دعم هذا الانقلاب أو ارتباطها بقادته، لا سيما أن نفوذ فاجنر يتسع بوضوح في منطقة الساحل؛ حيث يمتد نشاطها من الشمال في ليبيا مروراً بغرب دارفور في السودان وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو ووصولاً إلى العمق الأفريقي في الساحل وغرب أفريقيا.
تداعيات محتملة
قد يؤدي الانقلاب العسكري داخل النيجر إلى بعض التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– احتمالية تصعيد التنظيمات الإرهابية نشاطها: في خبرة بعض دول الجوار التي مرت بمرحلة الانقلابات العسكرية خلال العامين الماضيين، مثل مالي وبوركينا فاسو، تفاقمت الأوضاع الأمنية في البلاد نتيجةَ نشاط التنظيمات الإرهابية التي تصاعد دورها في العديد من المناطق؛ لذلك تتزايد المخاوف من تصعيد تنظيمَي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة، وتنظيم داعش في الساحل للهجمات المسلحة في الأراضي النيجرية، لا سيما في الجنوب الغربي والجنوب الشرقي عند مثلث تيلابيري عند الحدود مع دولتَي بوركينا فاسو ومالي.
2– تفاقم الاضطرابات الإقليمية: ربما يؤدي الانقلاب العسكري إلى تعزيز حالة عدم الاستقرار في البلاد على الصعيدَين السياسي والأمني مستقبلاً، وهو الأمر الذي ستمتدُّ تأثيراته على الصعيد الإقليمي، من خلال تنامي الأزمات الأمنية؛ بسبب تنامي حركة الإرهاب في عدد من دول الساحل، في ضوء إخفاق النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في احتواء التهديدات الأمنية في معظم البؤر الساخنة هناك.
3– تصاعد التنافس الدولي على النفوذ: ربما تتزايد المخاوف من احتدام سباق التنافس الدولي بين القوى الفاعلة في المنطقة عقب الانقلاب في النيجر، لا سيما روسيا وفرنسا؛ إذ ربما يدفع تقليل اعتماد النيجر في المرحلة المقبلة على باريس نحو مسارعة موسكو لمحاولة ملء الفراغ الأمني الذي سيُخلِّفه التراجع الفرنسي في النيجر والمنطقة، وهو ما يعني تنامي النفوذ الروسي هناك عبر فاجنر؛ ما قد يؤدي إلى المزيد من العسكرة في الساحل، وربما يتطوَّر الأمر إلى صدام عسكري بين القوى الفاعلة في إطار التنافس على النفوذ والموارد، وما قد يعني تهديداً شاملاً للأمن والاستقرار على المستويَين الإقليمي والقاري.
4– تنامي معضلة النفوذ الفرنسي في أفريقيا: تتزايد مخاوف باريس من انحسار نفوذها في النيجر خلال الفترة المقبلة، وهي التي تحظى بمكانة استراتيجية في أجندة السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا باعتبارها حليفاً مهماً في مجال محاربة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية في الساحل؛ ما يعني أن أمنها واستقرارها يُعَد جزءاً مهماً ضمن اهتمامات باريس الساعية إلى حماية مصالحها الاستراتيجية هناك، فضلاً عن امتلاك نيامي المزيد من الثروات والموارد الطبيعية، مثل اليورانيوم الذي تعتمد عليه باريس في الحصول على 35% من احتياجاتها بهدف توليد الكهرباء، كما أنها موطن استراتيجي مهم للقواعد العسكرية التابعة لكل من فرنسا وأمريكا والناتو لمراقبة التفاعلات الدولية في منطقة الساحل والشمال الأفريقي.
ومن ثم، قد تمثل النيجر – في حقبتها العسكرية الجديدة – فرصة جيدة لمجموعة فاجنر الروسية لمزيد من الانخراط الاستراتيجي في منطقة الساحل، وتطويق النفوذَين الفرنسي والغربي هناك، بما يشكل ضغطاً على باريس وشركائها، في ضوء تخوفاتها من امتلاك موسكو المزيد من أوراق الضغط ضدها في المنطقة، مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية؛ لكي تمتلك القدرة على مساومة أوروبا في ملفات استراتيجية في مناطق أخرى مثل أزمة أوكرانيا.
5– محاولة واشنطن الضغط على النظام الجديد: ربما تسعى واشنطن والدول الغربية إلى الضغط على النظام الجديد لضمان عدم انحيازه الكامل إلى موسكو ومصالحها؛ إذ تخشى واشنطن والغرب من أن يصبح الانقلاب بوابة لدخول فاجنر في النيجر، وما سيترتَّب عليه من تمدد للنفوذ الروسي في البلاد والمنطقة، في مقابل خسارة واشنطن والغرب نظام بازوم الذي يُعَد حليفهما الرئيسي في الساحل، لا سيما أنه يُتوقع قيام العسكريين الجدد بإعادة تشكيل علاقات بلادهم بالقوى الفاعلة، من خلال التقارب مع موسكو وفاجنر على حساب استبعاد النفوذ الغربي من البلاد.
وإجمالاً، قد يظل الانقلاب الأخير في النيجر – حال استمراره – حلقة في سلسلة عدم الاستقرار التي ربما تشهدها البلاد في المرحلة المقبلة؛ لكونها ستتعرض لجملة من التحديات الداخلية والمزيد من الضغوط الإقليمية والدولية في محاولة لإفشال الانقلاب الأخير وعودة الشرعية الدستورية للبلاد.
وفي حالة استقرار النخبة العسكرية الجديدة في السلطة بالنيجر، فإن من المتوقع أن تتقارب مع مجموعة فاجنر الروسية في مقابل استبعاد فرنسا خارج البلاد، التي ربما تفقد واحدةً من أهم مناطق نفوذها في الساحل، وهو ما يُنبِئ بصعوبة مرور هذا الانقلاب بسهولة من جانب الغرب وفرنسا، التي ستعزز ضغوطها على العسكريين الجدد وإيكواس من أجل إفشال الانقلاب الأخير، وربما تُصعِّد الأمر لدرجة التدخل العسكري، سواء عبر إيكواس أو من خلال القوات الفرنسية المتمركزة في الداخل النيجري، وهو ما سيجعل الساحل أكثر اضطراباً على المستوى الأمني خلال المدى المنظور.