رغم انتهاء مرحلة الزخم السياسي بتركيا، بعد فوز الرئيس الحالي “رجب طيب أردوغان” في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 28 مايو 2023 بنسبة 52% من الأصوات على منافسه مرشح المعارضة التركية “كمال كليتشدار أوغلو”، فإن تداعياتها ما زالت مستمرة؛ فقد واجه الأخير دعوات متعددة يقودها عمدة إسطنبول “أكرم إمام أوغلو” تطالبه بالاستقالة بعد الهزيمة وتغيير قيادة الحزب، بيد أنه أعلن عن تمسكه برئاسة الحزب حتى عقد المؤتمر العام له في أكتوبر المقبل، بينما واجهت سائر أحزاب المعارضة حالات من الاستقالات والتفكك بعد الهزيمة بالانتخابات. من جهة أخرى بدأ “أردوغان” يُعِد للانتخابات البلدية المقبلة التي ستعزز سيطرته على الحكم ويسعى من خلالها إلى استعادة فوز حزبه “العدالة والتنمية” بالمدن الكبرى التي خسرها في انتخابات 2019 ومنها (إسطنبول، أزمير، أنقرة)؛ ما ينذر بحدوث تغيرات كثيرة في خريطة وأجندة عمل أحزاب المعارضة التركية استعداداً لتلك الانتخابات.
أزمات متعددة
نجحت أحزاب المعارضة التركية الست – وهي (الشعب الجمهوري، الجيد، السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبـل، الديمقراطي) – في تشكيل “تحالف الأمة” للدفع بمرشح واحد في الانتخابات الرئاسية، وهو رئيس حزب “الشعب الجمهوري” “كمال كليتشدار أوغلو” (74 عاماً)، ورغم هزيمته فإنه أشاد بوحدة المعارضة وحصولها على أقل من نصف الأصوات بنسبة قليلة، ومنذ ذلك الحين تمر كافة الأحزاب الست بأزمات داخلية، ولم يعقد التحالف إلا اجتماعاً واحداً فقط لرؤساء الأحزاب عشية الإعلان عن نتيجة الانتخابات لبحثها. وبوجه عام، يمكن تناول الأزمات داخل المعارضة من خلال ما يلي:
1– تفاقم الخلافات بحزب “الشعب الجمهوري”: حمَّلت قيادات بارزة في حزب “الشعب الجمهوري” رئيسه “كمال كليتشدار أوغلو” مسؤولية الهزيمة بالانتخابات، وطلبوا منه تقديم استقالته وتسليم قيادة الحزب لجيل جديد يُدِير المرحلة المقبلة من الحياة السياسية، خاصةً أنه على رأس الحزب منذ 13 عاماً خسر خلالها 12 استحقاقاً انتخابياً أمام منافسه “حزب العدالة والتنمية”، وطالب منتقدوه بتفعيل مبدأ “تداول السلطة” داخل الحزب، بيد أنه رفض بشدة، وأكد أنه باقٍ بمنصبه حتى المؤتمر العام للحزب في أكتوبر المقبل الذي سيتم خلاله انتخاب رئيس جديد للحزب، وإن لم يؤكد ترشُّحه لذلك المنصب.
وفي مسعى منه لاحتواء تلك الانتقادات قام “كمال أوغلو” بفصل عدد من أعضاء الحزب الذين انتقدوه، ومنهم رئيس بلدية “بولو” “تانجو أوزجان”، وعَقد في 23 يوليو 2023 اجتماعاً لمجلس القرار التنفيذي بالحزب، وكذلك عقد اجتماعاً لرؤساء البلديات التابعين له، وأكد انفتاحه على التغيير، واستعداده للتنحي عن منصبه حال وجود قيادة جديدة تلتزم بمبادئ وقيم الحزب، وهو الموقف الذي بدا بمنزلة تأكيد لتمسُّكه بمنصبه.
2– مساعي “أمام أوغلو” لزعامة المعارضة: رغم دعم عمدة إسطنبول عن حزب “الشعب الجمهوري” “أكرم إمام أوغلو” ترشُّح رئيس الحزب للانتخابات الرئاسية، فإن موقفه تغيَّر بعد هزيمته، وأصبح أول المطالبين بضرورة تغيير قيادات الحزب وإقالة “كمال أوغلو” وتولي جيل جديد عملية تغيير شاملة لأكبر أحزاب المعارضة في البلاد؛ بحيث يقدم رؤية تحقق طموح الشعب في التغيير، عبر لغة وكوادر جديدة، وإنتاج فهم شامل للديمقراطية والعلمانية، بل دعا “إمام أوغلو” إلى تغيير قانون الأحزاب السياسية للتخلص من سطوة رؤسائها عليها. ولتحقيق ذلك أطلق “إمام أوغلو” موقعاً على شبكة الإنترنت باسم “التغيير من أجل السلطة” في منتصف يوليو 2023 زاره مليون شخص في أسبوعين.
كما عقَد “إمام أوغلو” اجتماعاً غير مُعلَن مع عدد من قيادات الحزب، وشارك في الاجتماع رئيس الكتلة البرلمانية للحزب “أوزجور أوزيل”، ونائبه “جوكهان جونايدن”، و(“إنجين ألطاي” و”أونورسال أديجوزال” و”بولنت تزجان ومحرم أركيك”)، عبر برنامج “زووم” لبحث رؤيته بشأن تغيير قيادات الحزب، وقد وُصِف هذا الاجتماع بأنه “خارج الأعراف”؛ لعقده دون إذن من الحزب ودون علم رئيسه، بيد أن “إمام أوغلو” نفى وجود سرية للاجتماع، وأكد استمرار عقد الاجتماعات لبحث مستقبل الحزب، وهو ما صعَّد المواجهة المستترة بينه وبين رئيس الحزب “كمال كليتشدار أوغلو” الذي أعلن عن رغبته في استمرار “أمام أوغلو” في منصبه وترشُّحه عن بلدية إسطنبول في الانتخابات المقبلة في مارس 2024، وكذلك إعادة ترشُّح رئيس بلدية أنقرة “منصور يافاش” لضمان الفوز بهما، وهو ما رهنه “إمام أوغلو” بإجراء تغييرات بقيادة الحزب؛ ما يعكس رغبة “إمام أوغلو” في الترشح لرئاسة حزب “الشعب الجمهوري” تمهيداً لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2028؛ حيث يطمح إلى قيادة أحزاب المعارضة للفوز بها.
3– انتقاد “أكشنار” غير المباشر لتحالف المعارضة: عقد حزب “الجيد” المعارض في 24 يونيو 2023 مؤتمره العام الثالث بأنقرة، وفازت برئاسته للمرة الثالثة رئيسته الحالية “ميرال أكشنار”، ولم يتقدَّم أي مرشح آخر من الحزب للمنصب أمامها؛ ما يؤكد ثقة قيادات الحزب برئاستها له، لتضمن بذلك دورها المستقبلي المحوري في المعارضة التركية، وتعلن أن هدف حزبها هو تقديم كوادره وسياسته للشعب في الانتخابات البلدية المقبلة، على أن تُعقَد أول الاجتماعات الإقليمية في نهاية أغسطس 2023 لبحث الإعداد للانتخابات. جدير بالذكر أن الحزب أسَّسته “أكشنار” في أكتوبر 2017، ونجحت في تمثيله بالبرلمان وبتحالف “الأمة المعارض”، وكانت من المؤيدين لترشُّح “أكرم إمام أوغلو” للرئاسة بدلاً من “كمال كليتشدار أوغلو” الذي توقعت هزيمته أمام “أردوغان”.
اللافت أن “أكشنار” خرجت بعد فوزها برئاسة الحزب، في شهر يونيو الماضي، لتنتقد بصورة غير مباشرة تحالف المعارضة؛ حيث قالت إن “استعارة” 15 برلمانياً من حزب الشعب الجمهوري لحزبها ليتمكَّن قانونياً من المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2018، كان “أكثر ما ندمت عليه في حياتي”.
4– تراجع قوة تحالف “الأمة المعارض”: تشكَّل تحالف “الأمة” المعارض في فبراير 2022 من ستة أحزاب معارضة متنوعة التوجهات العلمانية والمحافظة والقومية، وهو ما أثر سلباً عليه؛ حيث ظهر الخلاف حول عدة قضايا سياسية واجتماعية. ومنذ هزيمة التحالف بالانتخابات الرئاسية، لم يعقد سوى اجتماع واحد لرؤسائه، وأصبح كل حزب يتصرف بشكل منفرد دون تنسيق سياسي مع التحالف، وأصبحت هناك أزمة مزدوجة يواجهها التحالف، وهي الخلافات بين أحزابه من جهة وداخل هذه الأحزاب من جهة أخرى، لا سيما داخل حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، وكذلك بينه وبين حزب “الجيد” الذي نفت رئيسته “أكشنار” عزمها التحالف معه في الانتخابات البلدية المقبلة.
هذا بينما استفادت الأحزاب الصغيرة بتحالف المعارضة مثل (السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبـل) من الوجود بالبرلمان عبر الوجود على قوائم حزب “الشعب الجمهوري” ودعمه لها، بينما اختلفت فيما بينها رغم خلفياتها المحافظة؛ فقد اتفق حزب (المستقبل) الذي يرأسه رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق “أحمد داوود أوغلو”، وحزب (السعادة) الذي يرأسه “تمل كرم الله أوغلو”، على تشكيل كتلة برلمانية مشتركة، وخوض الانتخابات البلدية المقبلة في مارس 2024 بقائمة مشتركة، بينما رفض حزب “الديمقراطية والتقدم” الذي يرأسه وزير الاقتصاد الأسبق “علي باباجان” الانضمام إليهما، وأعلن خوض الانتخابات البلدية منفرداً. واستمرت تلك الأحزاب في انتقاد الحكومة التركية؛ حيث دعا “باباجان” الحكومة إلى احترام الدستور والقوانين والعدالة حتى يتحسن الوضع الاقتصادي بالبلاد.
سيناريوهات مستقبلية
تستعد تركيا لمرحلة جديدة من الانتخابات مع بداية عام 2024 لا تقل أهميةً عما سبق، وهي الانتخابات البلدية التي تعهد “أردوغان” بالفوز بها و”استعادة إسطنبول التي تشهد فراغ السلطة خلال السنوات الأخيرة” في انتقاد ضمني لعمدتها “أكرم إمام أوغلو” وحزب الشعب الجمهوري؛ لذا فإن أحزاب المعارضة ستعمل على إجراء مراجعات وتقييمات لعملها وبرامجها وقيادتها بنهاية العام الحالي؛ ما يضعها أمام عدة سيناريوهات رئيسية متمثلة فيما يلي:
1– استمرار تحالف “الأمة” المعارض: يشير هذا السيناريو إلى استمرار تحالف “الأمة المعارض” والتنسيق بين أحزابه الست لخوض الانتخابات البلدية المقبلة، بيد أن هذا غير مُرجَّح؛ نظراً إلى الخلافات بين الأحزاب الست وداخلها، وربما ينجح رئيس حزب الشعب “كمال كليتشدار أوغلو” في إعادة هيكلة الحزب بعد مؤتمره العام المقبل، وإقناع رؤساء الأحزاب الخمس الأخرى بالاستمرار في التحالف معه؛ نظراً إلى أن الأحزاب مجتمعةً تمثل قوة ضغط على تحالف “الشعب” الحاكم بقيادة حزب “العدالة والتنمية” ورئيسه “أردوغان”.
2– تغيير قيادات حزب الشعب الجمهوري: يقترح هذا السيناريو حدوث تغييرات لقيادات داخل أحزاب المعارضة الست، لا سيما حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ وذلك في ضوء التنافس القائم بين “كمال كليتشدار أوغلو” و”أكرم إمام أوغلو”؛ فربما يلجأ الأول إلى إحداث التغييرات بنفسه في المؤتمر العام المقبل للحزب من خلال دعم ترشيح “أكرم أوغلو” لرئاسة الحزب، وربما يناهض ذلك ويتمسك بمنصبه، وهو الأمر المرجح، لا سيما بعد انتقاده عمدة إسطنبول بقوله: “إذا كان السيد أكرم سيترشَّح يمكنه ذلك، لكن ليعلمْ أن هناك فرقاً بين الحزب والشركة. أردوغان يدير تركيا بصفتها شركة. أما الحزب فله هدف، وله قواعد، وله مبادئ، وله مجالس عمومية، وله أنظمة داخلية نحن بحاجة إلى العمل في هذا الإطار”.
كما أقدم “كمال أوغلو” على قبول اندماج حزب “التغيير” مرة أخرى داخل “الشعب الجمهوري”؛ حيث يدعم “صاري غول” رئيس حزب التغيير “كمال أوغلو”، وهو ما دفع المراقبين إلى تأكيد أن “غول” يُعِدُّ للترشح في الانتخابات البلدية بإسطنبول بدلاً من “أكرم أوغلو” إذا تفاقمت الخلافات بين الأخير وبين رئيس حزب الشعب الجمهوري.
3– تفكك تحالف “الأمة” المعارض: وهو السيناريو المرجح، لا سيما إذا استمرت الخلافات بين أحزاب التحالف الست، وفشلت في الاتفاق على أجندة موحدة لخوض الانتخابات البلدية من خلالها، وخاصةً حزبي “الشعب الجمهوري” و”الجيد”، وهما أكبر أحزاب المعارضة؛ لذا يمكن أن يتفكك التحالف ويعمل كل حزب بمفرده، أو يمكن أن تخرج عدة أحزاب من التحالف وتُشكِّل تحالفاً جديداً ذا توجُّه محافظ، أو ينضم إليه أحزاب جديدة مثل “التغيير”، وغيرها من الأحزاب الصغيرة ذات التوجه العلماني.
4 - إنشاء أحزاب جديدة: وهو من السيناريوهات المؤكدة، لا سيما إذا استمرت الخلافات بين رئيس حزب الشعب الجمهوري “كمال كليتشدار أوغلو” وعمدة إسطنبول “أكرم إمام أوغلو”؛ حيث من المرجح أن يلجأ الثاني إلى الاستقالة من حزب الشعب الجمهوري ومعه عدد من قيادات الحزب، وإنشاء حزب جديد يخوض به الانتخابات البلدية والرئاسية المقبلة، ويعبر عن رؤيته السياسية والاقتصادية، ومعه ما يطلق عليه “تيار التغيير” داخل الحزب، وهو تيار يشمل عدداً كبيراً من رؤساء البلديات وأعضاء البرلمان؛ حيث أكد أحد قياديي الحزب أن “إمام أوغلو” بدأ العمل بالفعل على تأسيس حزب جديد، وربما يتحالف مع حزب “الجيد” القومي المعارض برئاسة “ميرال أكشنار”؛ نظراً إلى دعمها المستمر له.
5– محاكمة المعارضة: هناك عدة قضايا قضائية رُفعت ضد قادة أحزاب المعارضة، ومنهم “كمال أوغلو” و”إمام أوغلو” و”أكشنار” بتهم منها إهانة الرئيس، والتهديد، وإهانة القضاء. وجدير بالذكر أن “كمال كليتشدار أوغلو” فقَدَ الحصانة البرلمانية لأنه لم يُنتخَب في البرلمان الجديد؛ لذا يمكن محاكمته، كما يمكن محاكمة “إمام أوغلو” بتهم فساد رُفعت ضده. وهذه القضايا إذا حُكِم فيها بشكل نهائي فإن ذلك سيؤدي إلى حظرهم سياسياً، ومنعهم من المشاركة في العمل السياسي أو الترشح لأي انتخابات.
مما سبق نجد أن حزب “الشعب الجمهوري” التركي المعارض، يواجه اختباراً جديداً لمدى ديمقراطيته وشفافيته وانعكاس رؤيته للمجتمع التركي؛ لذا سيكون المؤتمر العام المقبل للحزب حاسماً في اتخاذ قرارات تُعِيد هيكلة الحزب، وسيؤثر ذلك على سائر أحزاب المعارضة والمشهد السياسي التركي قبل الانتخابات البلدية المقبلة المقررة في مارس 2024.