تصاعدت، خلال الأيام الأخيرة “حرب الموانئ” بين روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود، وبالتحديد منذ انسحاب روسيا، في 18 يوليو الماضي، من “مبادرة حبوب البحر الأسود” التي شكَّلت طوال العام الماضي آلية لضمان أمن تخزين وتصدير الحبوب عبر الموانئ الأوكرانية؛ لتلافي تفاقُم أزمة غذائية عالمية؛ فعلى مدار ما يقرب من شهر، تصاعدت التوترات والعمليات العسكرية في البحر الأسود، واستهداف السفن والموانئ والبنية التحتية الحيوية، وطالت العمليات أهدافاً غير عسكرية، وهو ما عكَس محاولة كل طرف إضعاف تحركات الطرف الآخر، وحرمانه من بعض الموارد الاقتصادية.
أبعاد العمليات
يمكن تناول أبعاد “حرب الموانئ” الجارية بين روسيا وأوكرانيا، من حيث مسار التصعيد وأهداف الهجمات ووسائلها على النحو الآتي:
1– استهداف السفن المتجهة إلى الموانئ الروسية والأوكرانية: أعلن الجانبان الروسي والأوكراني استهداف السفن المُتجهة إلى موانئ الطرف الآخر، بدءاً من 21 يوليو الماضي؛ فقد حذَّرت وزارة الدفاع الأوكرانية من أنها تعتبر جميع السفن المُبحرة باتجاه الموانئ الروسية والأوكرانية المحتلة على البحر الأسود، أهدافاً مشروعة لقواتها، واعتبرتها ناقلات محتملة لمُعَدَّات عسكرية.
فيما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن السفن الأوكرانية وأي سفينة في البحر الأسود تنقل البضائع من أوكرانيا وإليها مُعرَّضة للهجوم من قِبل القوات الروسية، باعتبارها سفناً تعمل نيابةً عن أوكرانيا، وأنها ناقلات محتملة للمعدات العسكرية أيضاً، فضلاً عن اعتبار الدول التي ترفع السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية أعلامها أطرافاً في الصراع على الجانب الأوكراني، كما أعلنت أن الأجزاء الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية من المياه الدولية للبحر الأسود غير آمنة للملاحة مؤقتاً.
2– تهديدات متبادلة لموانئ الطرف الآخر: شهدت الآونة الأخيرة تهديدات متبادلة من الجانبيَن الروسي والأوكراني لموانئ الطرف الآخر؛ حيث تستهدف القوات الروسية موانئ أوديسا والبنية التحتية لموانئ الجنوب الأوكراني على نحو متكرر منذ انسحاب موسكو من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، فيما حذَّرت وكالة الملاحة الأوكرانية، في 5 أغسطس الجاري، من أن 6 موانئ روسية على البحر الأسود تقع في “منطقة خطر العمليات الحربية”، وهو التحذير الذي شمل موانئ أنابا ونوفوروسيسك وجيليندجيك وتوابسي وسوتشي وتامان. وفي هذا الصدد، استهدفت أوكرانيا، في 4 أغسطس الجاري، ميناء نوفوروسيسك الروسي.
3– استهداف البنية التحتية لتخزين وتصدير الحبوب: استهدفت روسيا بشكل مكثف منذ انسحابها من مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، البنية التحتية لتخزين وتصدير الحبوب في أوكرانيا، من موانئ ومخازن؛ فعلى سبيل المثال، هاجمت الدرونز الروسية ميناء “إيزمائيل” الأوكراني على نهر الدانوب؛ ما نتج عنه تدمير منشآت تخزين الحبوب وخزان وقود ومبانٍ إدارية.
4– مهاجمة ناقلات النفط الروسية: مقابل استهداف الجانب الروسي البنية التحتية الأوكرانية اللازمة لتخزين وتصدير الحبوب، والتهديد باستهداف السفن التجارية المستخدمة في نقل الحبوب الأوكرانية؛ فإن كييف من طرفها عملت على إلحاق الضرر بصادرات النفط الروسية، عبر استهداف ناقلات النفط والموانئ المستخدَمة في ذلك الأمر؛ فقد ألحق هجوم نفَّذته مُسيَّرة أوكرانية، في 5 أغسطس الجاري، أضراراً بغرفة محركات ناقلة النفط الروسية (إس آي جي) قُرب جسر كيرتش، بحجة أن الناقلة المدنية كانت في المياه الإقليمية الأوكرانية، فيما استغلت موسكو الواقعة للتحذير من الآثار البيئية لمثل تلك العمليات في البحر الأسود.
5– تدمير زورقَين أوكرانيَّين هاجما قاعدة بحرية روسية: أعلنت وزارة الدفاع الروسية نجاح سفنها الحربية في تدمير زورقَين مُسيَّرين أوكرانيَّين هاجما قاعدة بحرية روسية قُرب ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود، في ساعة مبكرة من يوم 4 أغسطس 2023؛ حيث استهدفت كييف بمُسيراتها البحرية السفينة الحربية الروسية “أولينيجورسكي جورنياك” في قاعدة “نوفوروسيسك” في البحر الأسود.
6– صد مُسيَّرات أوكرانية فوق شبه جزيرة القرم: تتهم روسيا أوكرانيا بإرسال طائرات بدون طيار فوق شبه جزيرة القرم، معلنةً صدَّ قواتها تلك المُسيَّرات، ومن ذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية، في 4 أغسطس الجاري، إسقاط الدفاعات الجوية الروسية 10 طائرات مُسيَّرة أوكرانية فوق شبه جزيرة القرم، واعتراض 3 طائرات مُسيَّرة أخرى باستخدام تدابير إلكترونية مضادة.
7– زرع ألغام جديدة في البحر الأسود: على مدار شهور الحرب، تتهم كلٌّ من روسيا وأوكرانيا الأخرى بزرع ألغام في البحر الأسود؛ الأمر الذي يُهدِّد مسار السفن وشحنات الحبوب والنفط. وفي الوقت الذي حدَّد فيه اتفاق الحبوب طرقاً تكون خالية من الألغام والتهديدات البحرية، فإنه مع انسحاب روسيا من الاتفاق، ظهرت اتهامات أوكرانية لروسيا بأنها وضعت ألغاماً جديدة في البحر الأسود لتهديد الصادرات البحرية الأوكرانية واعتراضها، كما تشير تقديرات استخباراتية أمريكية إلى أن روسيا زرعت ألغاماً بحرية إضافية عند مداخل الموانئ الأوكرانية لتبرير أي هجمات ضد السفن المدنية في البحر الأسود، وتحميل أوكرانيا مسؤوليتها.
8– الاعتماد المتبادل على الصواريخ والمُسيَّرات: يعتمد التصعيد الروسي الأوكراني في البحر الأسود وحرب الموانئ الجارية هناك بشكل رئيسي على الصواريخ والمُسيَّرات؛ حيث تتهم أوكرانيا روسيا بتوجيه صواريخ وطائرات مُسيَّرة لاستهداف منطقة أوديسا. وكشفت القيادة العسكرية الجنوبية الأوكرانية عن استخدام روسيا صواريخ أسرع من الصوت، منها صاروخ “Kh–22” لضرب البنية التحتية لميناء أوديسا، وكذلك التصدي لمُسيَّرات إيرانية الصنع من طراز “شاهد–136” أُطلقت من بحر آزوف لاستهداف منطقة أوديسا.
فيما يستثمر الجانب الأوكراني سلاح المُسيَّرات لإلحاق الأضرار بالجانب الروسي، باعتباره سلاحاً قادراً على إلحاق الضرر بهيبة الأسطول الروسي، وتغيير قواعد اللعبة في البحر الأسود؛ ولذلك كثَّف استخدام الطائرات والزوارق المُسيَّرة في حرب الموانئ والسفن بالبحر الأسود.
9– إجراء مناورات عسكرية روسية في بحر البلطيق: أعلنت روسيا، في 2 أغسطس الجاري، إطلاق مناورات بحرية في بحر البلطيق، عُرِفت باسم “مناورات أوشن شيلد 2023 البحرية”؛ وذلك بمشاركة 30 سفينة حربية و20 سفينة دعم و6 آلاف عسكري تقريباً؛ وذلك بهدف “التحقق من قدرة الأسطول العسكري على الدفاع عن المصالح الوطنية لروسيا”. وهو ما يرتبط بالتوترات البحرية المتصاعدة بين روسيا وأوكرانيا.
أزمة غذاء
تخلق “حرب الموانئ” الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تداعيات مهمة؛ أبرزها ما يرتبط بالجانب الاقتصادي، وخاصةً أزمة الغذاء العالمية. وبوجه عام يمكن تناول أبرز هذه التداعيات على النحو التالي:
1– تجميد النشاط البحري وإثارة مخاوف السفن: يُساهم التحذير المتبادل من كلتا الدولتين للسفن من التوجه إلى موانئ الدولة الأخرى في إثارة مخاوف السفن التجارية الدولية من الولوج إلى المنطقة، وإثارة قلق شركات التأمين من التعاقد مع السفن المتجهة إلى الموانئ الروسية والأوكرانية والمنطلقة منها، بما يساهم في نهاية المطاف في تجميد النشاط البحري بالمنطقة. وبالفعل تشير تقارير إلى أن عشرات السفن تنتظر في المياه الرومانية وأنه لا تقترب من الموانئ الأوكرانية سوى السفن الصغيرة والصنادل.
2– التأثير السلبي على صادرات روسيا وأوكرانيا: يؤدي التعامل مع السفن التجارية المدنية على أنها سفن تحمل معدات عسكرية أو تقوم بمهام عسكرية واستهدافها، إلى التضييق على حركة تلك السفن، وعدم قيامها بشحن البضائع من الموانئ الأوكرانية والروسية في ظل تصاعد التوترات الأمنية في البحر الأسود؛ الأمر الذي ينعكس سلباً على اقتصاد الدولتين بالنظر إلى تسبب تلك التوترات البحرية في تراجع الصادرات؛ الأمر الذي يتعاظم ضرره لدولة كأوكرانيا تشكل الحبوب مورداً مهماً بالنسبة إليها.
3– تدمير البنية التحتية الأوكرانية لتصدير الحبوب: عملت روسيا منذ انسحابها من اتفاق البحر الأسود لتصدير الحبوب على استهداف البنية التحتية الأوكرانية لتخزين وتصدير الحبوب من أجل إعاقة القدرات الأوكرانية في هذا المجال حتى عند عودة العمل بالاتفاق، وإزاحة كييف باعتبارها منافساً لروسيا فيما يتعلق بتصدير الحبوب؛ فقد شنت القوات الروسية مراراً ضربات على مناطق ساحلية في جنوب أوكرانيا تضم منشآت كانت تُستخدم في تخزين وتصدير الحبوب. وتتهم كييف موسكو باستهداف المنشآت الزراعية والموانئ بشكل مُتعمد لإعاقة استئناف عمليات تصدير الحبوب.
4– مساعٍ روسية لاستبعاد أوكرانيا من تجارة الحبوب: فيما تشن روسيا قصفاً مكثفاً للموانئ الأوكرانية، وتعمل على تدمير البنية التحتية لتخزين وتصدير الحبوب في أوكرانيا، فإن بعض التفسيرات تجادل بوجود خطة روسية لاستبعاد أوكرانيا من تجارة الحبوب المستقبلية في البحر الأسود، وتعزيز السيطرة الروسية على تجارة الحبوب؛ حيث تسعى موسكو إلى أن تحل محل أوكرانيا في تصديرها للقمح، وخاصةً الدول الأفريقية التي تُولي موسكو اهتماماً استراتيجياً متزايداً بها.
وفي هذا الإطار، تتهم فرنسا روسيا بتعريض الأمن الغذائي العالمي للخطر، وأنها تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة على حساب السكان الأكثر ضعفاً عبر رفع أسعار المنتجات الزراعية ومحاولة منع أحد منافسيها الرئيسيين من تصدير منتجاته، وهي أوكرانيا.
5– إتلاف الحبوب نتيجة قصف المخازن الأوكرانية: تتهم أوكرانيا الجانب الروسي باستهداف مخازنها لتعمُّد إتلاف الحبوب. وقد نجحت الهجمات الروسية في إلحاق الضرر بكميات كبيرة من الحبوب الأوكرانية؛ حيث تُشير البيانات الأوكرانية إلى أن الهجمات الروسية نجحت في تدمير 220 ألف طن الحبوب منذ انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب حتى 2 أغسطس الجاري، عندما أعلن نائب رئيس الوزراء الأوكراني ألكسندر كوبراكوف، تلف 40 طناً من الحبوب كانت متجهة إلى دول أفريقية والصين وإسرائيل، نتيجة قصف طائرات بدون طيار روسية ميناء “إيزمائيل” الأوكراني على نهر الدانوب في منطقة أوديسا، وتدمير منشآت تخزين الحبوب وخزان وقود ومبانٍ إدارية.
6– ارتفاع محتمل لأسعار الحبوب عالمياً: شهدت أسواق الحبوب حالة من عدم الاستقرار في الأسعار خلال الآونة الأخيرة، في ضوء انسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود للحبوب. وتتعاظم المخاوف بشأن أسعار الحبوب في ضوء عدم تجديد اتفاق البحر الأسود من جهة، وتصاعُد التوترات بين روسيا وأوكرانيا من جهة ثانية، وتأثيرات حرب الموانئ على البنية التحتية لتخزين وتصدير الحبوب من جهة ثالثة. ومن الملاحظ أن أسعار الحبوب في البورصات وفي العقود الآجلة تتأثر بالعمليات العسكرية في البحر الأسود؛ فعلى سبيل المثال، قفزت أسعار العقود الآجلة للقمح في بورصة شيكاغو بنسبة 4.9%، عقب قصف ميناء “إيزمائيل” قبل أن تتراجع مجدداً، بالإضافة إلى ارتفاع العقود الآجلة للذرة.
7– تفاقم أزمة الغذاء عالمياً: لا تتوقف التأثيرات المحتملة للتصعيد الروسي–الأوكراني في البحر الأسود واستمرار حرب الموانئ بين الطرفَين وتدمير البنية التحتية لتصدير الحبوب، على تحقيق نتائج ميدانية للطرفَين أو حتى نجاح موسكو في إلحاق أضرار أكبر بالاقتصاد الأوكراني، بل تتجاوز التداعيات المحتملة ذلك إلى بروز أشباح أزمات جوع في العالم مع تفاقُم الأزمات الغذائية، ولا سيما في الدول الفقيرة، وهو الأمر الذي حذرت منه المنظمات الدولية عقب انحساب موسكو من اتفاق تصدير الحبوب، وتتزايد المخاوف بشأنه مع التصعيد العسكري في البحر الأسود، خاصةً في ظل تحذير موسكو من خطورة الملاحة في البحر الأسود، وتجاوز تهديداتها للسفن الأوكرانية إلى أي سفن تنقل البضائع من أوكرانيا وإليها؛ الأمر الذي يُعظِّم المخاطر المحيطة بعمليات نقل الحبوب الأوكرانية.
ولذلك أدان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الهجمات الروسية على الموانئ الأوكرانية، وتدمير البنية التحتية المدنية، مُنبهاً إلى تجاوز تأثير هذه الهجمات حدود أوكرانيا إلى دول أخرى، خاصةً دول الجنوب؛ حيث تتأثر أسعار القمح والذرة العالمية بشكل يضر بأوضاع الغذاء وواردات الحبوب لتلك الدول، ويؤثر سلباً على مساعي استقرار أسعار المواد الغذائية للمستهلكين. وربما لذلك أكد وزير خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور محاولة بلاده إقناع روسيا بالعودة إلى المحادثات بشأن الاتفاق، وبرزت خلال القمة الأفريقية–الروسية مخاوف بشأن أزمة غذائية أفريقية، حاول الرئيس الروسي بوتين تهدئتها بالتعهد بتوفير الأمن الغذائي للقارة، وتسليم الحبوب مجاناً لست دول أفريقية.
توابع الانسحاب
ختاماً، يمكن اعتبار حرب الموانئ الجارية بين روسيا وأوكرانيا، وتصاعُد التوترات العسكرية بين البلدين في البحر الأسود، من التوابع الرئيسية لانسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود لتصدير الحبوب، وأن استمرارها من عدمه يرتبط بعدد من العوامل؛ على رأسها القدرة على إعادة إحياء الاتفاق من جديد، وضمان أمن مخازن الحبوب في أوكرانيا، وكذلك أمن عملية تصدير الحبوب عبر الموانئ الأوكرانية.