بعد عقد من التقدم في خفض مستويات الجوع، بدأت معدلات الجوع العالمية ترتفع من جديد إلى حد كبير؛ بفعل نقص الغذاء وانعدام الأمن الغذائي المرتبط بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وبخاصة عندما هاجمت روسيا حقول الحبوب والصوامع وأغلقت الموانئ الأوكرانية، وما ترتب على ذلك من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية العالمية إلى مستويات قياسية، وتعريض الإمدادات الغذائية التي تشتد إليها حاجة العديد من البلدان المستوردة إلى الخطر. أضف إلى ذلك تداعيات التغير المناخي على حجم الإنتاج الزراعي عالمياً.
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإنه في عام 2022، واجه نحو 691–783 مليون شخص الجوع في العالم، بزيادة 122 مليون شخص عن عام 2019 قبل جائحة COVID–19، فيما يواجه 345 مليوناً من بين هؤلاء الأشخاص مستويات حادة من الجوع.
ورغم خفوت حدة المخاوف بشأن حدوث أزمة غذاء عالمية، بفعل الجهود الدولية في هذا الصدد خلال العام الماضي، والتوصل إلى اتفاقية حبوب البحر الأسود، فإن ثمة تطورات جديدة في هذا الملف، دفعتها إلى تجديد الجدل حول أزمة الغذاء العالمية، والبحث في تداعيات تلك التطورات على حياة الملايين من البشر.
تصعيدات جديدة
خلال الفترة الأخيرة، تجدد الحديث عن أزمة الغذاء العالمية، وتفاقمت المخاوف المرتبطة بتداعياتها على حياة الملايين، نتيجةً لحدوث عدد من المستجدات، نستعرضها فيما يأتي:
1– انسحاب روسيا من مبادرة حبوب البحر الأسود: بعد مرور ما يقرب من عام على توقيع روسيا في إسطنبول على مبادرة حبوب البحر الأسود، قررت روسيا في 17 يوليو 2023، عدم تجديد المبادرة التي سمحت لأوكرانيا بتصدير السلع الزراعية إلى الأسواق العالمية. جدير بالذكر أن ذلك الاتفاق تم التوصُّل إليه في يوليو 2022 بوساطة من قبل الأمم المتحدة وتركيا للمساعدة في تخفيف أزمة الغذاء العالمية، عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وقد سمح الاتفاق بدوره بتصدير نحو 33 مليون طن من الحبوب بأمان من أوكرانيا عبر البحر الأسود خلال الصراع، من ثلاثة موانئ لا تزال تحت السيطرة الأوكرانية.
وقد اشترطت روسيا أنه إذا تم تلبية مطالبها بتحسين صادراتها من الحبوب والأسمدة، فإنها ستفكر في إحياء اتفاقية البحر الأسود. ولعل أحد المطالب الرئيسية لموسكو هو إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام المدفوعات الدولي (SWIFT)، وهو الارتباط الذي قطعه الاتحاد الأوروبي في يونيو 2022.
2– حظر الهند صادراتها من المواد الغذائية: بالتزامن مع القرار الروسي بعدم تجديد مبادرة حبوب البحر الأسود، فإنه في 20 يوليو الماضي، حظرت الهند أكبر مُصدر للأرز في العالم – حيث تمثل نحو 40% من تجارة الأرز العالمية – تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي، في محاولة لتهدئة ارتفاع أسعار الأرز في الهند، بعد انتشار مقاطع فيديو أثارت الذعر في الداخل الهندي، ظهر فيها فراغ أرفف الأرز في محلات البقالة الهندية في الولايات المتحدة وكندا.
3– قصف روسيا ميناء الدانوب الأوكراني: في الساعات الأولى من 2 أغسطس الجاري، هاجمت روسيا موانئ الحبوب الأوكرانية، بما في ذلك ميناء داخلي عبر نهر الدانوب على الحدود مع رومانيا؛ وذلك في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى تكثيف استخدامها للقوة لإعادة فرض حصار على الصادرات الأوكرانية؛ ما دفع المحللين إلى القول بأن روسيا تستخدم الغذاء سلاحاً عن عمد، بهدف خلق تبعيات جديدة من خلال تفاقم الضعف الاقتصادي وانعدام الأمن الغذائي العالمي. واللافت أن هذه الهجمات الروسية قوبلت أيضاً بهجمات مماثلة من كييف استهدفت البنية التحتية البحرية الروسية، وهو ما دفع إلى القول بأن ثمة “حرب موانئ” قائمة بين الدولتين تهدد الأمن الغذائي العالمي.
4– إعلان روسيا استعدادها لتعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا: في الفترة الأخيرة، أظهرت روسيا مساعيها للتقارب مع الدول الأفريقية عبر تقديم عروض ثنائية لشحنات الحبوب بأسعار منخفضة. وبحسب تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للزعماء الأفارقة، في 27 يوليو 2023، فإن روسيا مستعدة لتعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا على أساس تجاري؛ وذلك للوفاء بما وصفته روسيا بالدور الحاسم لموسكو في الأمن الغذائي العالمي؛ وذلك خلال افتتاح القمة الروسية الأفريقية التي استمرت يومين في سان بطرسبرج وحضرها 17 رئيس دولة أفريقية.
5– استمرار التأثير السلبي للتغيرات المناخية: لا تزال قضية التغيرات المناخية تشكل تحدياً هائلاً بالنسبة إلى الأمن الغذائي العالمي، وتجدَّدت هذه المعضلة مع موجة الحرارة العالمية الأخيرة والفيضانات التي تعرَّضت لها مناطق مختلفة، مثل حزام الحبوب في الصين، ناهيك عن حرائق الغابات التي اجتاحت دولاً مختلفة. هذه الكوارث الطبيعية تعزز التوقعات المستقبلية التي تشير إلى أن ثمة انخفاضاً كبيراً في غلات المحاصيل في المناطق المعرضة لمخاطر مناخية عالية. وهذا الانخفاض في المحاصيل يعني أن أسعار المواد الغذائية قابلة للزيادة.
تداعيات واسعة
أسفرت المستجدات الأخيرة عن عدد من التداعيات على أزمة الغذاء العالمية، يمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:
1– ارتفاع أسعار الأرز عقب الحظر الهندي لتصدير الأرز: بحسب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي بيير أوليفييه غورينشا، فإن حظر تصدير الأرز الهندي من المتوقع أن يزيد السعر العالمي للحبوب بنسبة تصل إلى 15% تقريباً، خاصةً أن تلك الخطوة جاءت في توقيت غير مناسب بشكل خاص؛ وذلك في ظل تصعيد روسيا حرب الحبوب، بما يدفع نحو خضوع سلسلة التوريد لضغوط واسعة على عدة جبهات.
فبعد فترة قاسية على محصول الأرز في آسيا خلال العام الماضي، من جراء الأحوال الجوية السيئة في جنوب آسيا، وتفاوت الأمطار الموسمية في الهند، والأضرار الناجمة عن الفيضانات في باكستان على الإمدادات، وزيادة تكلفة إنتاج الأرز بعد ارتفاع أسعار الأسمدة، باعتبار ذلك من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في العام الماضي، فإن أسعار الأرز قد شهدت ارتفاعاً جديداً، بحسب أحدث مؤشر لأسعار الغذاء الذي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة في 4 أغسطس الجاري؛ وذلك بنسبة 2.8% في يوليو الماضي وبنسبة 20% تقريباً خلال العام الماضي، بعد أن حظرت الهند صادراتها من الأرز. وعلى ضوء ذلك، حذرت منظمة الأغذية والزراعة من أن تلك الخطوة تثير مخاوف كبيرة تتعلق بالأمن الغذائي لقطاع كبير من سكان العالم، وخاصةً الأكثر فقراً الذين يخصصون حصة أكبر من دخولهم لشراء الغذاء.
2– تسبُّب انهيار اتفاق البحر الأسود في ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً: بحسب منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن أسعار الغذاء العالمية قد ارتفعت للمرة الأولى منذ شهور بعد انهيار الاتفاقية التاريخية لشحن الحبوب من أوكرانيا إلى بقية العالم. ووفق أحدث مؤشر لأسعار الغذاء الصادر عن المنظمة، الذي يتتبع الأسعار الدولية الشهرية للحبوب والزيوت النباتية ومنتجات الألبان واللحوم والسكر، فإن متوسط المؤشر قد بلغ 123.9 نقطة في يوليو الماضي، بزيادة 1.3% عن يونيو الماضي، مدفوعاً بزيادة أسعار الزيوت النباتية والأرز.
هذا وقد سجل مؤشر الفاو لأسعار الزيوت النباتية قفزة بنسبة 12.1% في يوليو الماضي، بعد سبعة أشهر من الانخفاضات المتتالية، فيما انتعشت أسعار زيت عباد الشمس بنسبة 15%، بفعل حالة عدم اليقين التي أثارها قرار روسيا الانسحاب من مبادرة البحر الأسود بشأن صادرات الحبوب والأسمدة.
3– تهديدات محتملة لحياة الملايين من البشر: وفرت صفقة حبوب البحر الأسود التي توسطت فيها الأمم المتحدة، جنباً إلى جنب مع اتفاق موازٍ بين الأمم المتحدة وروسيا، شريان حياة لمئات الملايين في جميع أنحاء العالم، ممن يواجهون الجوع وتكاليف الغذاء الملحة، بما في ذلك دول كأفغانستان وإثيوبيا. ومن ثم، فإن انهيار الاتفاقية يهدد حياة الملايين ويقطع فرص وصول الحبوب التي كانت قد أتاحتها المبادرة، في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء، وبخاصة القمح الذي شهد للمرة الأولى منذ تسعة أشهر، ارتفاعاً في الأسعار، بفعل عدم اليقين بشأن الصادرات من أوكرانيا، واستمرار ظروف الجفاف في أمريكا الشمالية.
4– تسارع الجهود لاستئناف مبادرة حبوب البحر الأسود: رداً على تصعيدات روسيا الأخيرة، ذهب الاتحاد الأوروبي لبذل الجهود على أساس ثلاثة محاور رئيسية؛ أولها مواصلة دعم الجهود الدؤوبة للأمم المتحدة وتركيا لاستئناف مبادرة حبوب البحر الأسود، والثانية مواصلة تعزيز “ممرات التضامن” باعتبارها طرقاً بديلةً للصادرات الزراعية الأوكرانية للوصول إلى الأسواق العالمية من خلال الاتحاد الأوروبي. وقد سمحت هذه الممرات بتصدير أكثر من 41 مليون طن من السلع الزراعية الأوكرانية حتى الآن؛ لذلك يسعى الاتحاد الأوروبي لزيادة قدرات تلك الممرات قدر الإمكان للتخفيف من عواقب إنهاء روسيا مبادرة البحر الأسود. وأخيراً، زيادة الدعم المالي للبلدان والأشخاص الأكثر احتياجاً، عبر تقديم 18 مليار يورو؛ أي نحو 19 مليار دولار، لمعالجة الأمن الغذائي حتى عام 2024.
5– طرح خطط لجعل التبرعات الغذائية إلزامية: تزامناً مع المخاوف المثارة من تفاقم أزمة الغذاء العالمية، سعت العاصمة البلجيكية بروكسل إلى فرض التزامات قانونية على المتاجر الكبرى للتبرع بالأغذية غير المَبيعة، بيد أن تلك المرة ليست الأولى التي تسن فيها دولة من دول الاتحاد الأوروبي تشريعات بشأن التبرعات الغذائية.
وبحسب موقع الإحصاءات الأوروبي يورو ستات، فإن ما يقرب من 10% من جميع المواد الغذائية المتاحة للمستهلكين في الاتحاد الأوروبي ينتهي بها المطاف في سلة المهملات، حتى وصل حجم تلك المواد الغذائية بحلول عام 2020، إلى ما يقرب من 59 مليون طن؛ وذلك في الوقت الذي يوجد فيه نحو 32.6 مليون شخص في أوروبا، غير قادرين على شراء وجبة جيدة كل يومين؛ وذلك بحسب الاتحاد الأوروبي.
وفي ضوء ذلك، صرح الوزير بحكومة بروكسل آلان مارون، في بيان له على الإنترنت، بأن هناك 70 ألف شخص يعتمدون على بنوك الطعام؛ لذا فإنه ابتداءً من عام 2024، سيكون هناك إلزام للمتاجر التي تزيد مساحتها عن 1.000 متر مربع، بالتبرع بأغذية غير مبيعة لكن لا تزال قابلة للاستهلاك. وقد تم تمرير مشروع مرسوم في قراءة أولى، ومن المتوقع أن يخضع لمزيد من الخطوات التشريعية من أجل سنه وإقراره والبدء في تنفيذه.
جرس إنذار
إجمالاً، تزداد حدة أزمة الغذاء عالمياً بفعل التطورات الجديدة التي تزيد من تعقُّد الأزمة، بجانب تداعيات التغير المناخي على إنتاج الغذاء عالمياً؛ حيث تؤدي الحرارة الشديدة والجفاف والأمطار الموسمية إلى إحداث فوضى في المواد الغذائية الأساسية التي نعتمد عليها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن انسحاب روسيا من مبادرة حبوب البحر الأسود، وقيامها بتدمير مرافق تخزين الحبوب في أوكرانيا والبنية التحتية للموانئ، لا في البحر الأسود نفسه، بل في نهر الدانوب كذلك؛ دفع أسعار القمح والذرة نحو الارتفاع في أكبر زيادة لها منذ بداية الحرب الأوكرانية.
وتسير التوقعات، في ضوء تلك المستجدات، نحو استمرار تقلُّب أسعار الغذاء المتزايد؛ ما يضع الإمدادات الغذائية العالمية تحت ضغط، وبالتبعية يسهم في تفاقم أزمة تكلفة المعيشة العالمية، وتهديد حياة الملايين ممن يعانون من انعدام الأمن الغذائي في البلدان المعتمدة على الاستيراد.
ذلك الوضع يجب التعامل معه على عدة مستويات لمحاولة تخفيف تداعياته وإيجاد حلول حاسمه له. ولعل مؤتمر كوب 28 المزمع عقده نهاية العام الجاري، سيضع قضية الأمن الغذائي على أولى أولوياته، وهو أمر تؤكده دولة الإمارات، في إطار استضافتها للمؤتمر؛ حيث تدعو العالم إلى تعزيز التعاون الدولي من أجل اتخاذ إجراءات حقيقية تضمن التكيف مع تغير المناخ؛ وذلك عبر تبني تدابير حاسمة تسهم في التخفيف من مخاطر وتداعيات التغير المناخي، وبخاصة المناطق الفقيرة، التي تكابد درجات حرارة شديدة الارتفاع.
وهو ما يتطلَّب تكاتف الجهود الدولية جمعاء من أجل إيجاد حلول جذرية لأزمة الغذاء العالمية. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يجب على الحكومات أن تنتهج سياسات تحفز زيادة إنتاج الغذاء، وتنوِّع سلاسل التوريد، بما لا يجعلها في مهب الريح مع أي مستجدات في هذا الشأن.