• اخر تحديث : 2024-05-02 10:37
news-details
أبحاث

آفاق جديدة للتعاون الخليجي الأسيوي


باتت دول مجلس التعاون الخليجي، كوحدة واحدة، قوى دولية صاعدة، ومحورًا مهمًّا في استراتيجيات القوى الكبرى عالميًّا، لـِمَا تملكه من مقومات استراتيجية وجغرافية واقتصادية وسياسية. فقد انعكست هذه المقومات على طبيعة علاقاتها مع دول العالم، وخصوصًا في عمقها الجغرافي الاستراتيجي في قارة آسيا، والقوى الفاعلة بإقليم الشرق الأوسط، مثل تركيا. وتتسم العلاقات الخليجية مع دول آسيا، وتحديدًا الصين والهند واليابان، إلى جانب دول آسيا الوسطى وتركيا، بالخصوصية التي شكّلتها معطيات الجغرافيا والتاريخ، لتدشن شبكة معقَّدة من المصالح الاستراتيجية على المستويات كافة، وتحديدًا في الأمن والاقتصاد. فقد شهد النظامُ الدولي تحولاتٍ ملموسةً، تَمثَّل أبرزُها في إعادة رسم سياسات وتوجهات العديد من القوى الدولية والإقليمية، ومنها دول الخليج، التي اعتمدت على بناء مسارات جديدة لسياساتها الخارجية، تمثّلت في التوجه نحو عمقها الجغرافي المتمثّل في قارة آسيا، وخصوصًا الصين واليابان والهند وآسيا الوسطى، وأيضًا تركيا. فقد انعكس هذا التطور بداية على العلاقات التجارية بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، إذ حلّت مكان التجارة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وتتجلى هذه النتيجة في أن آسيا باتت الشريك التجاري الأكبر لدول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث استحوذت على ما يقرب من 60% من إجمالي تجارتها الخارجية طبقًا لإحصائيات صندوق النقد الدولي لعام 2021 .

وإلى جانب التطورات الاقتصادية، التي كشفت عنها معدلات نمو التجارة الخارجية بجانب حجم الاستثمارات، هناك أيضًا الجوانب السياسية ذات الطابع الاستراتيجي، التي تمثلت في زيارات قادة دول آسياً، وتحديدًا الهند واليابان والصين، وأيضًا تركيا، لدول الخليج، ضمن سياسات تعزيز الشراكة الاستراتيجية بينهم.

ويضاف إلى ما سبق، وتأكيدًا للتوجه الخليجي نحو الشرق، انعقادُ القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى، في جدة التي أكدت أهمية تعزيز العلاقات السياسية والاستراتيجية معها، وضرورات تبنّي الحوار لبناء شراكات جديدة في مختلف المجالات، فضلًا عن إدانة الإرهاب بكافة صوره وأشكاله، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

واستمرارًا للزخم حول دول الخليج، تأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي حملت بين ثناياها العديد من الملفات التي هدفت إلى تعزيز الشراكات الاقتصادية، وأيضًا السياسية والأمنية، ضمن خططه لـ "تصفير المشكلات". وما بين هذا وذاك؛ تبدو هناك ضرورة لقراءة هذه التطورات وانعكاساتها على مستقبل المنطقة، ودورها مستقبلًا في الاستراتيجيات العالمية، خصوصًا وأنها ترتكز على بناء شبكة من المصالح الحيوية المشتركة اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا.

أولًا: قاطرة الاقتصاد:

مثّل الجانب الاقتصادي قاطرة لدفع العلاقات الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون الخليجي وكلٍّ من آسيا ودول آسيا الوسطى وتركيا، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

1.  آسيا.. الصين والهند واليابان:

تشير إحصائيات صندوق الدولي لعام 2022، إلى أنه برغم انخفاض حجم التجارة الخارجية بين دول الخليج ودول آسيا، من 320 مليار دولار أمريكي في عام 2019، إلى 262 مليار دولار في عام 2020، بفعل جائحة كورونا، فإن التوقعات الاقتصادية للصندوق تشير إلى أنها ستعاود الارتفاع مرة أخرى، لتصل إلى ما يقرب من 578 مليار دولار بحلول عام 2030.

فقد ارتفع حجم التجارة بين دول الخليج وآسيا من 23.63% في عام 2015، إلى 28.63% في عام 2020، ويُتوقَّع أن يصل إلى 30.83% في عام 2030. في المقابل، انخفضت قيمة التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي وأمريكا وأوروبا من 41.49% في عام 2015 إلى 35.75% في عام 2020، ويُتوقَّع أن ترتفع بشكل طفيف لتصل إلى 37.3% فقط من إجمالي تجارة الخليج مع العالم في عام 2030.

ووفق تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2022، جاءت كل من: الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، في المراتب الأولى (من الأولى إلى الرابعة) في قائمة الشركاء التجاريين بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. فقد ساهمت كل من الصين والهند تحديدًا في مسألة تعافي التجارة بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي بعد جائحة كورونا، إذ انتعشت التجارة بينها وبين الصين لترتفع من 133 مليار دولار أمريكي في عام 2020 إلى 181 مليار دولار في عام 2021، وهو ما يمثّل متوسط نمو سنوي بمعدل 34.9%.

كما ارتفعت التجارة بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 60.7% بين عامي 2020 و2021، من 75 مليار دولار أمريكي إلى نحو 120 مليار دولار. كما بلغ حجم التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي واليابان 79.6 مليار دولار أمريكي في عام 2021، فيما بلغت التجارة مع كوريا الجنوبية 23 مليار دولار في العام نفسه.

أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا على حد سواء مناطق حيوية للاقتصاد العالمي، فقد نجحت آسيا في ترسيخ مكانتها كمركز لتصنيع السلع للتصدير، ولا تزال دول مجلس التعاون الخليجي المنطقة الأولى لصادرات الطاقة. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن تنمو تجارة الطاقة بين دول الخليج وآسيا بسرعة في السنوات القادمة مع تحرّك الولايات المتحدة نحو الاكتفاء الذاتي من الطاقة. ويمكن أن تشكل آسيا ما يصل إلى 90% من صادرات النفط من المنطقة في المستقبل.

2. آسيا الوسطى.. قاعدة تأسيس:

من ناحية أخرى، تنطلق العلاقات بين دول الخليج وآسيا الوسطى من قاعدة اقتصادية يمكن التأسيس عليها لشراكة ممتدة؛ إذ بلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 3.1 مليارات دولار أمريكي في عام 2021، ما يمثل 0.27% من إجمالي حجم التجارة السلعية لدول المجلس.

وبحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مجلس التعاون لدول الخليج العربية في كتاب بمناسبة القمة الخليجية وقادة دول آسيا الوسطى في عام 2023، فقد بلغ حجم الصادرات الخليجية إلى آسيا الوسطى 2.06 مليار دولار أمريكي مقابل واردات بقيمة 1.03 مليار دولار.

3. تركيا.. حقبة جديدة:

تباينت قيمة التجارة بين دول الخليج وتركيا على مدى العقد الماضي بسبب تقلبات أسعار النفط، لكنها حافظت على استمرارها دون انقطاع. فبحسب بيانات رسمية نشرتها وسائل إعلام تركية، شهدت صادرات تركيا إلى دول الخليج ارتفاعًا ملحوظًا خلال النصف الأول من عام 2023 لتتخطى الـ 3 مليارات دولار بعد أن كانت 1.5 مليار دولار في عام 2015، إذ تخطت 1.1 مليار دولار إلى السعودية، وتجاوزت المليارين مع الإمارات وحدها بعد أن كانت 1.5 مليار دولار في عام 2015، إذ تخطت 1.1 مليار دولار إلى السعودية، وتجاوزت المليارين مع الإمارات وحدها.

وأشارت الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مجلس التعاون الخليجي في عام 2017، إلى ارتفاع الأهمية النسبية لحجم التبادل التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي مع جمهورية تركيا في عام 2015، مقارنة بعام 2014، إذ مثّلت نحو 1.5% من إجمالي التجارة الخليجية مع العالم في عام 2015، بعد أن كانت 1.2% في عام 2014 .

وبرغم ضعف حجم التبادل التجاري بين البلدين، فإنها تعتبر ركيزة يمكن البناء عليها، وهو ما تجلى في زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى الخليج العربي، التي ركّزت على الجانبين الاقتصادي والتجاري.

ومع ارتفاع معدلات التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا وتركيا وآسيا الوسطى، التي جاءت تعزيزًا للعلاقات الاقتصادية، تحركت العلاقات الاستراتيجية في مسار متوازٍ لتعزيزها، في تحوّل جيوسياسي ملحوظ في توجهات العلاقات الخارجية لدول الخليج.

وقد كشفت زيارة عدد من قادة آسيا، إلى جانب القمة الخليجية مع آسيا الوسطى، وجولة أردوغان، عن تنامي الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج، التي باتت لاعبًا ليس إقليميًّا فقط، ولكن دوليًّا أيضًا، في العديد من الملفات.

ثانيًا: التوجه شرقًا وتعزيز القوة الاستراتيجية:

انطوت التحركات السياسية والاستراتيجية التي شهدتها دول الخليج العربية مؤخرًا، على المستويين السياسي والدبلوماسي، على 4 دلالات رئيسية ترتبط بمكانتها ودورها مستقبلًا.

الدلالة الأولى؛ تتمثل في أن دول الخليج باتت محورًا مهمًّا في استراتيجيات القوى الآسيوية الكبرى، وهو ما تجلى في ملفات وقضايا العلاقات البينية مع الصين والهند واليابان.

أما الدلالة الثانية، فإنها تعبّر عنها التحرك الجغرافي ذاته، إذ بدا واضحًا أن دول الخليج عملت على اختراق مناطق ذات أهمية استراتيجية، مثل منطقة آسيا الوسطى، وأهميتها من الناحية الجيواستراتيجية، خصوصًا موقعها بين آسيا وأوروبا.

في حين تؤكد الدلالة الثالثة أن دول الخليج باتت "قوة دولية صاعدة"؛ وذلك لدورها المحوري في قضايا الاقتصاد والطاقة، فضلًا عن تحركاتها ومساعيها لتسوية العديد من الأزمات، مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى جانب الحرب على الإرهاب.

وأخيرًا تأتي الدلالة الرابعة لتعبر عن التوجه نحو "تصفير" المشكلات والأزمات، وبناء شبكة مصالح مشتركة تدعم الأمن وتدفع نحو تعزيز التنمية الاقتصادية لدول المنطقة، للتعافي بشكل تام من أزمات جائحة كورونا، وتأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية.

الدلالات السابقة بدت واضحة في الأجندة التي حملها زعماء آسيا وتركيا ودول آسيا الوسطى، خلال زيارتهم لدول الخليج، وهو ما يمكن توضيحه بشكل مفصّل فيما يلي:

1. اليابان ودبلوماسية النفط:

جاءت زيارة رئيس وزراء اليابان، فوميو كيشيدا، إلى دول الخليج التي شملت: الإمارات والسعودية وقطر، لتكشف عما يُطلَق عليه "دبلوماسية النفط". فقد ركّزت المباحثات خلال الزيارة على ملف الطاقة وتعزيز التعاون في مجالات التعدين والبتروكيماويات، والرعاية الصحية، والخدمات المالية، واللوجستية.

الزيارة تناولت أيضًا ملف التغير المناخي وتأثيراته السلبية على الأمن والاقتصاد، ودعم مؤتمر كوب 28 في مدينة إكسبو دبي، المقرر في نوفمبر 2023. كما أسفرت أيضًا عن الارتقاء بالعلاقات مع قطر إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية"، وأيضًا بحث استقرار السوق العالمية للغاز الطبيعي.

وتعتبر "دبلوماسية النفط"سمة رئيسية في تحركات طوكيو تجاه دول الخليج، وذلك اعترافًا بدور المنطقة المحوري في مجال أمن الطاقة عالميًّا. فعلى سبيل المثال، وفي يناير 2020، أجرى رئيس الوزراء الياباني وقتها شينزو آبي جولة في الشرق الأوسط، برغم تصاعد التوتر عقب استهداف قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني.

وجاءت هذه الزيارة عقب تواصل دبلوماسي رفيع المستوى مع الإمارات والسعودية وسلطنة عمان، مدفوعًا بمصلحة اليابان الذاتية في ضمان أمن الطاقة، التي كانت مدخلًا لتهدئة التوترات الإقليمية في ذلك التوقيت.

ولفهم هذه التحركات، فقد تغيّرت سياسة الطاقة في اليابان بشكل ملحوظ، وعادت إلى الوقود الأحفوري، ما زاد من اعتمادها على دول الخليج العربية. وفي يناير 2021، استوردت اليابان 90% من نفطها الخام من دول الخليج العربية، بواقع 46% من السعودية، و30% من الإمارات، و8% من قطر، و6% من الكويت.

ووقّعت الإمارات واليابان اتفاقية تعاون استراتيجي في مجال الطاقة في عام 2020، لتمديد اتفاقية سابقة، ما يسمح لليابان بتخزين 8 ملايين برميل من الخام الإماراتي، وبالتالي زيادة سعة التخزين في حالات الطوارئ في الدولة الواقعة في شرق آسيا.

الدور المحوري لدول الخليج بالنسبة لـ "اليابان"، دفعها إلى دراسة عقد اجتماعات منتظمة لوزراء الخارجية مع دول مجلس التعاون الخليجي؛ لتعزيز التعاون في العديد من المجالات، ولاسيما النفط وأمن الخليج، الذي من شأنه تأمين نحو 90% من الطاقة التي تحتاجها طوكيو.

2. الهند.. تنسيق استراتيجي:

تتسم العلاقات بين الهند ودول الخليج بالخصوصية التي ترقى إلى التنسيق الاستراتيجي بينهما، وهو ما تجسّد بوضوح في زيارة ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند إلى دولة الإمارات في يوليو 2023، التي شهدت توقيع 3 مذكرات تفاهم، كان أبرزها إرساء إطار لتعزيز استخدام العملات المحلية (الروبية الهندية، والدرهم الإماراتي) في المعاملات العابرة للحدود.

ووفق بيان مشترك صادر عن الدولتين في نهاية زيارة مودي لأبوظبي، فإن مناقشة الجانبين ركزت على تطوير نظام تسوية العملة المحلية بين البلدين ليعكس الثقة المتبادلة بينهما، وقوة الأداء الاقتصادي في الإمارات والهند.

وشدد البلدان على العمل لإنجاح مؤتمر كوب 28، واستكشاف مجالات التعاون الناشئة، وتعزيز السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة والعالم.

وتسعى الهند إلى تعزيز علاقتها مع دول الخليج، وهو هدف مشترك في ظل خطط الجانبين لتوسيع وتنويع شركائهما الاستراتيجيين فيما يعرف بـ "الدبلوماسية الدفاعية" ، وهو ما شكَّل مسارًا تصاعديًّا في العلاقات السياسية بين الجانبين. فقد سعى الجانبان إلى إقامة شراكات استراتيجية؛ لذلك تعمل نيودلهي مع جميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وتحديدًا دولة الإمارات والسعودية وسلطنة عمان والبحرين وقطر والكويت؛ لبناء علاقات دفاعية وعسكرية.

وتتوافق الرؤى بين الهند ودول الخليج العربية في مسألة مواجهة الإرهاب والجماعات المتطرفة، وما تمثّله من تحديات أمنية وتصورات للتهديدات المشتركة المنبثقة عن هذه الجماعات، ما دفع إلى تعزيز إقامة مزيد من الروابط بين الصناعات الدفاعية؛ لتعزيز التعاون في تصنيع تقنيات الدفاع.

3. الصين.. قضايا الأمن والاقتصاد:

تعدُّ الصين لاعبًا محوريًّا في النظام الدولي، وفاعلًا في مسألة ترتيبات الأمن الإقليمي في قارة آسيا، ورؤيتها التي تهدف إلى تعزيز أمن واستقرار منطقة الخليج. وهو الدور الذي تجلى بوضوح في تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران في مارس الماضي، فقد لعبت الصين دور الوساطة بين الرياض وطهران؛ وذلك لضمان أمن الخليج، الذي يعدّ ركيزة في مبادرة (الحزام والطريق).

وما يدلل على هذا الأمر، هو مساعي الصين لتدشين منطقة تجارة حرة مع دول الخليج، تم الكشف عنها في يناير 2023

بَيْدَ أن مسار التحول في العلاقات بين الصين ودول الخليج تمثَّل في "قمة الرياض الخليجية-الصينية للتعاون والتنمية"، التي عُقدت في ديسمبر 2022، بحضور قادة ورؤساء وفود دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والرئيس الصيني شي جين بينغ. فبعد أشهر من هذه القمة، ارتفعت معدلات التجارة بين الجانبين، وتحديدًا مع الإمارات والسعودية، التي تجاوزت بشكل ملحوظ مشتريات النفط الخام من المنطقة. وطبقًا لتقرير نشرته بلومبيرغ في يوليو 2023، ارتفعت قيمة عمليات الاستحواذ والاستثمارات من قبل شركات خليجية في الصين بأكثر من 1000% على أساس سنوي، إلى 5.3 مليارات دولار، ما يؤكد طابع الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين.

4. آسيا الوسطى.. اختراق استراتيجي:

جاءت القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى في جدة، لتؤكد مكانة دول الخليج الدولية وقدرتها على اختراق مناطق كانت مركزًا للتنافس الدولي، إذ إن قرار تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين الجانبين، يؤكد الرؤية الخليجية لأهمية المنطقة استراتيجيًّا.

فمنطقة آسيا الوسطى لها موقع جغرافي استراتيجي يربط بين الصين والبحر المتوسط، وتدخل ضمن النطاق الجيوسياسي لمنطقة أوراسيا، كما أنها تشكّل حاجزًا يُجهض أي محاولة للصدام المباشر بين القوى الآسيوية الإقليمية، فضلًا عن أن معظم دول المنطقة تطلّ علـى بحـر قزويـن الغنـي بالنفـط والغـاز، الذي تتعدى احتياطياتـه أكثـر مـن 150 مليـار برميـل مـن النفـط، كما تُقـدّر احتياطياتـه مـن الغـاز الطبيعـي بأكثـر مـن 75 ألـف مليـار متـر مكعـب، كمـا يوجـد في منطقة آسيا الوسطى مصـادر تعدينيـة أخـرى، مثـل الذهـب والحديـد واليورانيـوم.

وتشكّل آسيا الوسطى ممرًّا لأنابيـب الغـاز والنفـط مـن الشـرق الأوسط وبحر قزويـن باتجـاه الصيـن، أو باتجـاه البحـر الأسود وتركيـا والبحـر المتوسـط، ما جعلها منطقة صراع للهيمنة بين القوى الإقليمية والدولية، مثل إيـران وتركيـا، والصيـن وروسـيا والولايـات المتحـدة.

لذا لم يكن مستغرَبًا ما تضمَّنه البيان الختامي للقمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى، التي انعقدت في جدة الأربعاء، وتضمن 20 بندًا، وقد كشفت القمة عن وجود تصور مشترَك بين الجانبين لدعم العلاقات الاستراتيجية بينهما؛ لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

مخرجات هذه القمة حملت أيضًا العديد من الرسائل، منها:

تحرّك دول الخليج لتنويع مصادر سلاسل الغذاء والإمدادات نتيجة تأثرها دوليًّا وإقليميًّا بجائحة كوفيد 19، وبالحرب الروسية-الأوكرانية أيضًا.

دخول دول الخليج كـ "قوة دولية" ولاعب أساسي في آسيا الوسطى؛ لتعزيز مكانتها في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تتنافس فيها قوى دولية وإقليمية أخرى.

محاربة الإرهاب في الأُطر الحيوية الجغرافية لدول الخليج، ومنها منطقة آسيا الوسطى، وهو ما يعني توسيع مجال الأمن الخليجي جغرافيًّا ليتجاوز الأطر التقليدية المتمثلة في دول الجوار إلى أخرى أبعد، ولكنْ لها تأثير محتمَل على خططها الاقتصادية.

5. تركيا.. مرحلة جديدة:

منذ تطبيع العلاقات بين تركيا ودول الخليج في نوفمبر 2021، عملت أنقرة على تطويرها لتنتقل إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية، وتتجاوز الجانب الاقتصادي-السياسي إلى الأمني-الاستراتيجي.

فقد تجلى هذا التوجه التركي خلال جولة الرئيس رجب طيب أردوغان في دول الخليج، إذ انتهت إلى توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات مع الإمارات بقيمة 50.7 مليار دولار، فضلًا عن تأكيد أهمية الحوار والدبلوماسية في تسوية أزمات المنطقة.

وخلال زيارته إلى قطر، شدد أردوغان على تعزيز التعاون في مجال التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية، ولكن في السعودية وقّع اتفاقيات في مجالات الاستثمار والدفاع، التي تمثّل أبرزها في عقد صفقة طائرات تركية من دون طيار.

وبدا واضحًا أن تركيا تسعى إلى تصفير مشكلاتها مع دول الجوار الإقليمي، وتحديدًا دول الخليج، لِـمَا تملكه من مقومات استراتيجية تساعدها في تخطّي أزمتها الاقتصادية الراهنة.

كما يتضح من نتائج زيارة أردوغان، أن الجوانب الاقتصادية كانت محورًا لأجندته، وذلك في محاولة للتخفيف من حدة الأزمة الراهنة، التي تتفاقم من ارتفاع التضخم في تركيا إلى مستويات قياسية، وانخفاض قيمة الليرة، وما تبعهما من عدم القدرة على السيطرة على عجز ميزانية الحكومة.

لذا تعمل أنقرة على تدشين علاقات استراتيجية مع دول الخليج لدعم الاقتصاد، وهو ما تحقق على المدى القصير، إذ قدمت قطر والإمارات العربية المتحدة لتركيا في عام 2018 حوالي 20 مليار دولار في اتفاقيات مبادلة العملات، وفي مارس 2023 أودعت المملكة العربية السعودية 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي للمساعدة في دعم الاقتصاد.

ويبدو أن تركيا تحاول البناء على مراحل سابقة دشنت للعلاقات مع دول الخليج كوحدة واحدة، بدأت بتأسيس آلية الحوار الاستراتيجي في 2 سبتمبر 2008؛ بهدف تعميق العلاقات بين الجانبين في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وذلك خلال اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتركيا، الذي عقد حينها في جدة.

وتعتبر مذكرة التفاهم الخاصة بتأسيس الحوار الاستراتيجي محددًا في العلاقات بين تركيا ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بشكل مؤسسي، إذ تضمنت عقد اجتماعات منتظمة لكبار المسؤولين، فضلًا عن عقد جلسات الحوار الاستراتيجي على المستوى الوزاري كل عام بين الجانبين، الذي تم 5 مرات فقط منذ عام 2008 وحتى عام 2010 بشكل متصل، ثم في عام 2012، وأخيرًا في عام 2016.

الخاتمة:

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن دول الخليج باتت محورًا ولاعبًا رئيسيًّا في العلاقات الدولية، التي تخطت الجانب الاقتصادي وأمن الطاقة، إلى الجوانب الاستراتيجية المتعلقة بالأمن الدولي والإقليمي. كما يتضح أن دول الخليج تعمل على توظيف قدراتها المختلفة، لبناء شراكات وعلاقات قائمة على المصالح المشتركة، بينها وبين القوى الدولية والإقليمية، وتحديدًا في آسيا، لتؤكد مكانتها الدولية من ناحية، وأيضًا الدخول كلاعب دولي في ملفات ومناطق نفوذ متصارَع عليها، ذات أهمية استراتيجية لها على المستويين الاقتصادي والأمني، مثل دول آسيا الوسطى.

وفيما يتعلق بتركيا، فقد بدا واضحًا التوجه نحو "تصفير المشكلات والأزمات"؛ لتعزيز الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، الذي ينعكس بشكل مباشر على خطط ومسارات التنمية الاقتصادية، في محاولة لعلاج آثار جائحة كورونا، وأيضًا الحرب الروسية-الأوكرانية.

في النهاية؛ فإن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت ككتلة واحدة، فاعلًا دوليًّا، له تأثير وحضور في العديد من الملفات الاستراتيجية، التي يُتوقَّع أن تظهر نتائجها في المستقبل المنظور.