عند الساعة 13:32 من ظهر يوم السبت 19-08-2023 استهدفت القوة الجو فضائية الروسية منشأتي "الطيور الشرسة" الكائنتين في مبنى مسرح وجامعة مدينة "تشيرنييف" شمال أوكرانيا بصاروخي إسكندر، مما أدى إلى مسح المنشأتين من الوجود ومقتل وجرح أكثر من 47 مهندس واختصاصي على درجة عالية في الأهمية والخبرة في عمليات الطائرات غير المأهولة.
المنشأتين المستهدفتين كانتا منشأتي تطوير للمسيرات الانتحارية بعيدة المدى، التي استخدمها الاوكرانيون لعمليات نوعية معنوية استهدفوا فيها العمق الروسي، كالعاصمة موسكو لأكثر من مرة. وقد بُنيت منشأتي التطوير المذكورتين "الطيور الشرسة" و "الطيور الشرسة N"، نسبة للناتو بعد أسابيع من التراجع الروسي عن العاصمة الاوكرانية كييف، واستخدمت السلطات العسكرية الاوكرانية وحلفاؤها في الناتو مبنى الجامعة المحلية ومبنى المسرح القومي في مدينة تشيرنييف، لتطوير خط انشأه البريطانيون لإنتاج المسيرة، ومركزاً للتحكم الجوي بجميع الوسائط غير المحمولة، التي تستخدمها أوكرانيا في الحرب ضد روسيا (كالمسيرات والصواريخ بعيدة المدى).
هاتين المنشأتين هما جزء من برنامج طموح بناه الناتو في عدة مناطق في الجغرافيا الأوكرانية، ويتكون من 11 منشأة كان الهدف الأولي من إنشائها، المساهمة في دعم هجوم الربيع الأوكراني المضاد الذي تأخر إطلاقه لأكثر من 9 أشهر.
التقديرات العسكرية المتشائمة من نجاح الهجوم الاوكراني المضاد
يكرر رئيس الأركان الامريكي الجنرال مايك ميلي: "أن الهجوم الأوكراني المضاد لن يحقق اختراقاً في الحرب" التي لا يظن الجنرال الامريكي أنه حتى الآن في متناول اليد، وتوافق المخابرات الأمريكية جنرالها حيث أنها لا تعتقد أن القوات الأوكرانية ستحقق أهداف الهجوم المضاد.
ووفقا لروب لي، المحلل العسكري في معهد أبحاث السياسة الخارجية، فإن "لدى روسيا ثلاثة خطوط دفاع رئيسية ومدنًا محصنة بعدها، والسؤال لا يتعلق بقدرة الأوكرانيين على اختراق واحد، أو اثنين منها، ولكن عليهم اختراق الخطوط الثلاثة، وأن يكون لديهم قوات كافية بعد الاستنزاف لتحقيق أمر مهم مثل السيطرة على توكماك أو أي شيء بعدها". ونقلت واشنطن بوست عن مسؤول بارز في الإدارة الأمريكية قوله، "المشكلة تظل في اختراق خطوط الدفاع الروسية الرئيسية، ولا توجد أدلة أن هذه الأنظمة هي الحل السحري".
وفي مقابلة بعد أسابيع من انطلاق العملية العسكرية الأوكرانية المضادة، أعاد قائد الأركان الامريكية المشتركة الجنرال مايك ميلي التأكيد بأن الولايات المتحدة كانت صريحة بشأن المهمة الصعبة و "قلت قبل عدة أشهر بأن هذا الهجوم سيكون طويلًا، وسيكون دمويًا وبطيئًا وهو قتال صعب جدًا جدًا".
ويؤكد ذلك خبراء الناتو الذين يقدّرون جيداً خبرة الروس القاسية في الدفاع عن المناطق المحتلة عبر حقول الألغام والخنادق ووسائط دفاع أخرى.
فمثلًا لن تستطيع القوات الوصول إلى مدينة ميلتوبول، التي تعتبر مركز عبور مهم للروس، بسبب حقول الألغام. وهذين التقييمين يعنيان "فشل القوات الأوكرانية بتحقيق واحد من أهم الأهداف للعملية المضادة وهي تخريب الجسر البري الذي يقود إلى شبه جزيرة القرم في حملة هذا العام".
إن الاحتمالات المتزايدة لفشل الهجوم المضاد المتباطئ الآن قبل أسابيع قليلة من بدء الشتاء الذي سيتسبب بالشلل للقوات الاوكرانية وسيعطي ميزة إضافية لقوات الدفاع الروسية، سيقود إلى جملة اتهامات في كييف والعواصم الغربية حول أسباب الفشل، خصوصًا أن الدول الغربية ضخّت مليارات الدولارات والأسلحة والمعدات لدعم الهجوم.
الاستنزاف الأوكراني للأسلحة الغربية الحديثة والمتطورة
بعدما تم تجهيز أكثر من 55 ألف جندي نظامي أوكراني، و300 ألف جندي احتياط بكامل العتاد والسلاح وأجهزة الاتصال والمعاونة، فضلاً عن الأسلحة الثقيلة الداعمة ذات الطابع الهجومي والدفاعي، كالدبابات من نوع ليوبارد 2 وبرادلي ومدافع ذاتية الحركة (109 وسولطام الصهيونية و305 الامريكية) وعربات تحمل عدة أنواع من الصواريخ المتوسطة، منها عربات تحمل صواريخ (سيماريس 1 و2 التي ترمي قنابل عنقودية)، فضلاً عن عشرات آلاف عربات وناقلات الجند المصفحة من جميع الأنواع، (هامر وأم 113 وسترايكر) يعاونهم أكثر من 10500 مدفع ميدان من عدة عيارات، وطائرات كوبرا وأباتشي وبل وغازيل المطورة، فضلاً عن كمٍّ كبير من 9 أنواع من الطائرات المسيرة لجميع المهام.
هذه الترسانة الهائلة التي استخدمها الجيش الاوكراني جميعها (وبقي قادته يطالبون بطائرات حربية من نوع اف 16)، كانت عماد القوة التي أعدوها لإطلاق هجومهم المضاد في بداية الصيف في الأسبوع الثاني من حزيران 2023. إلا أن التجارب الأولى كانت مخيبة، فحتى بداية شهر تموز لم تستطع كل هذه القوة المشكلة من 355 ألف جندي من التقدم سوى إلى أربع قرى صغيرة، 2 في محيط باخموت في جنوب شرقي أوكرانيا وهما قريتي أوروزخين التي تبعد 90 كيلومترًا من بحر أزوف، وقرية ستارومايورسك واثنتين في محيط زابورتسيا، وخسر الجيش الأوكراني في 3 أسابيع من 5-15% من قواته البشرية والمادية.
أمثلة عن الهجوم الأوكراني المضاد المتباطئ
حشد اللواء الآلي 33 التابع للجيش الأوكراني ولواء الهجوم 47 دبابات ليوبارد ومركبات برادلي القتالية، لشن هجوم قوي على مواقع روسية على بعد ميلين جنوب مالا توكماتشكا في منطقة زابوريزهيا أوبلاست بجنوب أوكرانيا.
كان هناك حقل ألغام كثيف عرف الأوكرانيون به، وقاموا بنشر مركبة هندسية واحدة على الأقل من طراز IMR-2 ومركبة اختراق من طراز Leopard 2R المخصصة لاجتياز الموانع، على أمل التخلص من الألغام وتطهير مسار واحد على الأقل لصالح اللواء 47، الذي يضم دبابات آبرامز الأكثر تطوراً من نوع 2M-2A2، وبعض الدبابات الالمانية الأكثر تطوراً من طراز Leopard 2A6 المرافقة من اللواء 33.
فشل المهندسون في تفكيك حقل الألغام الذي كان كثيفًا جدًا، ولأن المروحيات ووحدات المضادة للدروع الروسية من نوع (كورنيت)، أعاقت جهودهم لإزالة الألغام، وفي وقت قصير، تكدّس ثلاثة أنواع من الوسائط المدرعة وهيIMR-2 ، Leopard 2A6 و Bradleys ( آبرامز) في العراء. فافترستهم القوات الروسية المضادة للدروع وأبادت معظمهم.
هجوم خرق التحصينات فشل فشلاً ذريعاً، فنجاحه كان شرطاً أساسياً لتأمين اختراق المدرعات الذي يعد بحد ذاته شرطًا أساسيًا لتحرير جنوب أوكرانيا المحتل على نطاق واسع.
تلك النكسة كلفت الأوكرانيين في اليوم الثالث للهجوم المضاد 5 % من طاقتها وحشدها المكون من 21 دبابة من نوع Leopard 2A6s و109 دبابة من طراز آبرامز M-2.
وصرف الأوكرانيون وحلفاءهم الأطلسيين الفكرة عن معاودة الكرّة والاختراق مرة أخرى، فالخروقات هي أصعب وأغلى مراحل هجوم المدرعات. فالقوة الهجومية الاوكرانية المكونة من لواءين (33-47)، ورغم ما تعرضت له من إخفاق كبير في الميدان، لم تبدل تكتيكاتها في مقابل التحصينات الروسية جنوب مالا توكماتشكا - التي يديرها فَوجَي البنادق الآلية الروسيان 291 و70، وكتيبتا سبيتسناز 22 و45، ووحدة احتياطية.
كان أخفاق اللواءين 33 و47 الذريع بالقرب من مالا توكماتشكا، أول هزيمة كبرى ومبكرة لكييف في الهجوم المضاد، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. إلا أن الخسائر التكتيكية لا يمكن أن تدفع أوكرانيا حتى الآن بالضرورة إلى هزيمة استراتيجية، حيث أوضح معهد دراسة الحرب في واشنطن أن "فقدان المعدات - بما في ذلك المعدات الغربية - في وقت مبكر من الهجوم المضاد، ليس مؤشرًا على فشل التقدم المستقبلي للهجوم المضاد لأوكرانيا". وأضاف المعهد "من المهم عدم المبالغة في تأثير الخسائر الأولية في المعدات الغربية أو أي معدات أخرى، لا سيما في معارك الاختراق ضد مواقع دفاعية معدة سلفاً".
قبل ثلاثة أسابيع، بدأ الأوكرانيون بتغيير تكتيكاتهم وطرائقهم القتالية بأسلوبهم الخاص، حيث انتقلوا من تكتيك هجوم الكتائب أي الأسلوب "الكلاسيكي"، إلى تكتيك هجوم السرايا، وحوّلوا منطق هجماتهم مما يسمى بهجوم الكتلة إلى هجوم المجموعات، الذي يسميه الأوكرانيين بأنفسهم: "هجوم أسراب البعوض".
مرة جديدة أكدت الحرب الأوكرانية أنها ليست حربًا عسكرية تقليدية، بل حرب هجينة ومعقدة تنتمي إلى الجيل الثالث والرابع من الحروب، عنوان فهمها الأساس هو التطبيق السليم لمبادئ الحرب عليها.
بداية كان لدى الطرفين الفرصة الكافية لتهيئة أنفسهما للمرحلة التالية للحرب، وهي الهجوم الأوكراني المضاد، وقد ذكرنا آنفاً عمليات التسليح والتجهيز للقوات الأوكرانية، يبقى أن نذكر الاعدادات الروسية لهذه الحرب المضادة.
الاعداد الروسي الذكي للميدان
في أيلول 2022، وبعدما أنهى عملية تبديل واسعة وأنهى استقطاب ودمج الاحتياط الذين استدعاهم الجيش، قام الجنرال الروسي فاليري غيراسيموف الذي كُلف بإدارة هذه المرحلة من العملية الروسية الخاصة، بمجموعة مهمة من التعديلات:
1. عزز عمليات الاستطلاع القتالي والاستراتيجي.
2. أعاد رسم بنك الأهداف وتوسيعه.
3. نتيجة دراسة مناطق الانتشار الروسي واتجاهات التقدم الأوكراني المتوقع، أعاد تنظيم مناطق الدفاع الروسية إلى ثلاث خطوط (خط دفاع ثابت – خط دفاع متحرك - خط دفاع الخلفية).
4. تم بناء خط دفاع أول ثابت حصين، ومن الصعب إختراقه إلاّ بكتل كبيرة، وامتد ذلك الخط على مدى 800 كيلومتر جرى إعداد: بـ (الخنادق - الموانع الدفاعية الصلبة والمائية - السواتر - قوات المناورة - نشر القوات وفق ما يقتضيه بناء الخط، من اقتصاد كبير في القوى الذي استثمره غيراسيموف ببناء مناطق تأمينية هائلة المساحة تتمتع بقوات ذات طاقة نارية كبيرة ولكنها خفيفة الحركة، يمكنه أن يستعملها كمطرقة لسحق أي اختراق لنقاط الارتكاز الدفاعي على خط الصد الأمامي)، وكما وصف أحد جنرالات الناتو تلك المنطقة بإعجاب، بأنه تسمح للقوى المسؤولة عنها بأكبر قدر ممكن من الراحة والتدخل الحاسم في حال تتطلب الأمر ذلك.
5. تم اعداد اسلوب مبتكر للدفاع المتحرك الذي قسمه غيراسيموف إلى منطقتين، الأولى أمام الحافة الأمامية ومهمتها امتصاص الهجمات المتوقعة واعتماد القتال التعطيلي وإمكانية الاستعانة بكل الطاقة النارية التي توجد خلفها لتحطيم أي عدو في أي جزء من المنطقة المتاخمة للحافة الأمامية، واعتمد في هذه المنطقة على القوات الخاصة والمظلية "السبيتناز"، والتي يمكنها أن تقاتل في معظم الظروف المناخية والقتالية الصعبة بمرونة وخفة حركة، اللافت أن هذه المجموعات كانت مراكز قوات الاستطلاع، مما خفف المسافة عليها وسمح لقيادة العمليات الصغرى في المناطق الامامية، من الاستفادة الفورية من المعلومات العسكرية وتطبيق ما يلزم من إجراءات. أما القسم الثاني من قوات الدفاع الثابت، فجرى نشره في المنطقة الرخوة وهي التي تقع بعد خط الدفاع الثاني، بحيث يمكنها أن تؤمن الدفاع عن هذه المنطقة ويمكنها أيضاً أن تؤازر الخط الخلفي في حال اعتمد الأوكرانيون عمليات الانزال الجوي على الخطوط الخلفية لإضعافها وإضعاف الجبهة ككل.
6. بناء خط دفاع الخلفية بشكل مشابه لخط الدفاع الثابت، مع فارق واحد وهو عدم تحصينه، وكان السبب من هذا التدبير، هو منع ضرب الجبهة من الخلف بعمليات إيذائية أو إجهاضية من خلال التسلل أو عمليات إنزال خلفية.
7. تخفيف الاعتماد على المسيرات الضاربة في العملية الدفاعية "التكتيكية"، وتوجيه عملية استعمال المسيرات في التصدي للأرتال المدرعة الزاحفة مع بدء الهجوم الاوكراني المضاد.
8. اعتماد 5 خطوط للمناورة الصاروخية والمدفعية، وتخصيص كل نوع من الأسلحة الصاروخية "القصيرة إلى متوسطة المدى" والمدفعية من مختلف العيارات بمهمة دفاعية محددة.
9. استخدام المسيرات الضاربة والصواريخ الدقيقة والسمتيات الهجومية كالـ (MI8) وغيرها، كقوة ضاربة لمعالجة وسحق الأهداف المستعجلة، كتدمير رتل متقدم استطاع تأمين اختراق، أو في طور اختراق منطقة ضعيفة في الحافة الامامية.
أمن ذلك للروس جبهة حصينة ومتماسكة في الدفاع تتمتع بالمميزات التالية:
- القدرة على إجراء جولات استطلاعية ناجحة للأهداف العسكرية الأوكرانية في أي دقيقة ووفق أي ظرف للحرب.
- التأثير المدمّر لحقول الألغام الروسية، التي تم زرعها مقدمًا قبالة المواقع الدفاعية، على أي مبادرات عسكرية قد يعتمدها الاوكرانيون في الهجوم المضاد.
- نجاعة تكتيكات "جيوب النار" والدفاع "المرن" اللذين اتبعتهما القوات الروسية، لصد الهجمات الأوكرانية، والاستفادة من السهول الاوكرانية الواسعة كمناطق قتل متقدمة.
خلاصة واستنتاج
1. العملية الاوكرانية المضادة، لا تسير على ما يرام، بل أن تباطؤها الشديد يوحي بفشلها القريب (خلال اسابيع مع حلول الشتاء المبكر).
2. استطاع الروس تنظيم دفاع ذكي وينتمي إلى أفكار الحرب الهجينة، التي يبرع بها قائد العملية الجنرال غيراسيموف، أجبر الاوكرانيين على استنزاف معظم طاقتهم البشرية والمادية قبل الوصول إلى خط الدفاع الأول الحصين، مما جعل معظم هجماتهم غير ذات فائدة.
3. انتقال الاوكرانيين من اسلوب هجوم الكتلة إلى اسلوب هجوم "أسراب البعوض"، يخفف عنهم الخسائر، إلا أنه لا يحل مشكلة عدم امكانية اختراق خطوط الدفاع الروسية، كما أن الاسلوب الاوكراني الجديد مجهد ومكلف من الناحية المادية واللوجستية، حيث أن جهود دعم القتال باتت تستنزف عشرة أضعاف القوات اللوجستية الاوكرانية.
4. اعتماد اسلوب هجوم "أسراب البعوض" ممكن أن يؤثر تكتيكياً في نقاط محددة، إلا أنه غير نافع على جبهة خطوطها الدفاعية تمتد على مدى 800 كيلومتر.
5. استخدام الروس لميزة السهول الأوكرانية، يسمح لهم بتجهيز مناطق قتل بعيدة جداً عن التماس، باستخدام القوات الخاصة والقوات المظلية السبيتناز.