• اخر تحديث : 2024-05-03 14:30

يبدو أن التأثير التاريخي والثقافي لفرنسا في أفريقيا يمر بمرحلة تحول. على الرغم من كونها قوة استعمارية مهيمنة في القارة لأكثر من قرن، فإن الأحداث الأخيرة في النيجر منذ الإطاحة بالرئيس محمد بازوم في 26 يوليو 2023 وتهديدات القوى الدولية والإقليمية بالتدخل العسكري تشير إلى أن قبضة فرنسا على مستعمراتها السابقة آخذة في التراجع.

كان مصطلح "اللعبة الكبرى" يشير في الماضي إلى التنافس الاستراتيجي والصراع بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية من أجل السيطرة في آسيا الوسطى خلال القرن التاسع عشر. وقد امتد مسرح الأحداث آنذاك ليشمل مناطق مثل أفغانستان والهند وحول جنوب روسيا، حيث حاولت كلتا القوتين توسيع نفوذهما دون الانخراط مباشرة في حرب واسعة النطاق مع بعضهما البعض.

لقد كان الأمر مزيجًا من التجسس والدبلوماسية والمناوشات المحدودة. وعلى سبيل المقارنة، فإن الوجود التاريخي لفرنسا في غرب أفريقيا على مدى الـ 150 عامًا الماضية، يمكن تشبيهه بحالة "اللعبة الكبرى" الخاصة بها، حيث سعت فرنسا إلى إرساء السيطرة والنفوذ والحفاظ عليهما. ومع ذلك، في الآونة الأخيرة، يبدو أن قبضة فرنسا على المنطقة تضعف، مع اكتساب الجماعات الإرهابية الجهادية المزيد من السيطرة والنفوذ، بالإضافة إلى اتساع رقعة حزام الانقلابات العسكرية ذات الميول المعادية لفرنسا.

علاوة على ذلك، فإن الوضع معقد بسبب المشاركة المتزايدة للقوى العالمية الأخرى. تقوم روسيا، وبشكل أكثر بروزًا، الصين بخطوات استراتيجية في المنطقة. هدفهما هو تأسيس موطئ قدم، وتوسيع نفوذهما الجيوسياسي، والوصول إلى الموارد الطبيعية الهائلة والأسواق التي يوفرها التغلغل في غرب أفريقيا. ومن المرجح أن يؤدي دخول هؤلاء اللاعبين الرئيسيين إلى تغيير ميزان القوى وزيادة تحدي الهيمنة التاريخية لفرنسا في المنطقة.

بيد أن المثير في هذه التحولات في فضاء الفرنكوفونية في غرب أفريقيا هو الصحوات الشعبية المعادية لفرنسا والغرب والتي أعطت شرعية للنخب العسكرية التي أطاحت في الغالب برؤساء موالين لفرنسا. وسوف تحاول هذه الدراسة البحث في مظاهر تراجع النفوذ الفرنسي مع التركيز على المدركات المتبادلة بين فرنسا والأفارقة كل منهما تجاه الآخر. ولعل ذلك يمكننا من فهم الديناميكيات الداخلية السائدة في مجتمعات غرب أفريقيا على سبيل التحديد.

أولاً: مظاهر التراجع الفرنسي

يمكن تلمس تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا من خلال عدد من المؤشرات العامة، لعل من أبرزها:

1- التحول إلى عضوية الكومنولث

 إن قرار الجابون وتوغو، وهما عضوان من أعضاء الفرنكوفونية ليس لهما روابط استعمارية بريطانية سابقة، بالانضمام إلى الكومنولث الناطق بالإنجليزية في عام 2022 أثناء قمة كيغالي، يعد في المقام الأول دليلاً على تراجع النفوذ الفرنسي. هناك عدة عوامل يمكن أن تفسر ذلك:

- الفوائد الاقتصادية: تدور الحجة الأكثر إقناعًا حول التجارة والتقدم الاقتصادي. فالعديد من الاقتصادات الأسرع نموًا في أفريقيا تتحدث الإنجليزية. إن دخول توغو والجابون إلى الكومنولث لا يعزز فرص التجارة مع الكتلة المكونة من 54 عضوًا فحسب، بل ينسقها أيضًا مع الهيمنة العالمية للغة الإنجليزية كلغة أعمال. كما تضاعف تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من هذا الأمر، حيث تسعى البلدان الأفريقية إلى إقامة علاقات مباشرة مع المملكة المتحدة التي لم تعد ملزمة بالسياسات التجارية للاتحاد الأوروبي .وفي الآونة الأخيرة، تم قبول دول أخرى ليس لها تاريخ استعماري بريطاني، مثل موزمبيق في عام 1995 ورواندا في عام 2009.

- تحولات ثقافية وسياسية: هناك شعور متزايد في أفريقيا الفرنكوفونية يربط النفوذ الفرنسي بالركود الاقتصادي. وتجسد وجهة نظر توغو، كما عبر عنها بعض المفكرين الأفارقة، هذا الرأي، حيث يعتقد الكثيرون أن الانفصال عن الروابط الثقافية واللغوية الفرنسية قد يحفز التنمية.

- التنويع الاستراتيجي: في حين أن التحرك للانضمام إلى الكومنولث يمكن أن يُنظر إليه بحسبانه تراجعا في تأثير فرنسا، فقد يكون من الأكثر دقة اعتباره جزءًا من استراتيجية أوسع للدول الأفريقية لتنويع مشاركاتها الدولية. إن فكرة التنويع هذه لا تقلل بالضرورة من أهمية فرنسا ولكنها تظهر رغبة هذه الدول في توسيع آفاقها.

2- عودة السنكارية السياسية

 ترتبط السنكارية السياسية بأيديولوجية توماس سانكارا، رئيس بوركينا فاسو خلال الفترة من 1983 إلى 1987، وهي تمثل تجسيدًا للمبادئ الاشتراكية والمناهضة للإمبريالية. وتدافع السانكارية عن الوحدة الأفريقية، والاستقلال الاقتصادي عن المستعمر السابق (ولاسيما فرنسا)، وإعادة توزيع الثروة. وقد طبق سانكارا مجموعة من السياسات الاجتماعية التقدمية، التي تؤكد على التعليم وحقوق المرأة وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وعلى الرغم من اغتياله في عام 1987، لا يزال إرثه كمؤيد للتغيير والإنصاف يؤثر على النشطاء والسياسيين الأفارقة. ولعل الانقلابات العسكرية في كل من بوركينافاسو ومالي وحتى النيجر مؤخرًا تحاول الاستفادة من هذا الميراث التاريخي.

3-تزايد تأثير القوى العالمية الأخرى

- الوجود العسكري الروسي: تمثل مشاركة روسيا، لا سيما من خلال مجموعة فاغنر، اتجاهاً متنامياً، حيث توظف موسكو شركات عسكرية خاصة لتوسيع نفوذها دون تدخل مباشر من الدولة. وغالبًا ما يكون نهج "الظل" هذا أكثر مرونة وأقل تدقيقًا من التدخل العسكري التقليدي.

- لعبة القوة الاقتصادية للصين: على عكس الغرب، الذي غالبًا ما يربط المساعدات التنموية بإصلاحات الحوكمة أو ظروف حقوق الإنسان، جعلت استراتيجية الاستثمار الصينية الخالية من القيود أو المشروطية السياسية من الصين شريكًا جذابًا للعديد من الدول الأفريقية. كما توفر مشاريع البنية التحتية الضخمة والقروض والاستثمارات المباشرة فوائد ملموسة فورية، مما يعزز مكانة الصين في القارة.

4- إعادة تنظيم القوة الدبلوماسية والناعمة

- العقوبات الغربية ومحور روسيا: دفعت العقوبات المفروضة على روسيا، ولا سيما بعد الأزمة الأوكرانية، موسكو إلى السعي لإقامة تحالفات والتأثير في أماكن أخرى، بما في ذلك أفريقيا.

- المبادرات الدبلوماسية الصينية: إلى جانب المشاركة الاقتصادية، عززت الجهود الدبلوماسية الصينية، مثل منتدى التعاون الصيني الأفريقي، والشراكات الاستراتيجية، كما أنها منحت الدول الأفريقية منبرًا للمشاركة مع بكين.

من حيث الجوهر، فإن التحديات التي تواجه فرنسا في غرب أفريقيا متعددة الأوجه، وهي ناشئة عن الديناميكيات الداخلية في المنطقة والتحولات الجيوسياسية الخارجية. لقد أصبحت "اللعبة الكبرى" الحديثة في أفريقيا معقدة بشكل متزايد، حيث تكمل القوة الاقتصادية والقوة الناعمة الاشتباكات العسكرية التقليدية. وعليه من المهم في هذا السياق فهم السياقات الداخلية في كل من فرنسا وأفريقيا.

ثانيًا: كيف تنظر فرنسا إلى أفريقيا؟

على الرغم من التحول الأخير في سياسة فرنسا تجاه أفريقيا الذي بشر به الرئيس إيمانويل ماكرون في بداية ولايته الثانية، فإن النظرة الأبوية التقليدية مع القارة لا تزال تهيمن على النخب الحاكمة والمثقفة في فرنسا. لقد أعرب ماكرون عن رغبته في ترك إرث الاستعمار الفرنسي في أفريقيا الفرنكوفونية، وتعزيز "علاقة جديدة ومتوازنة ومتكافئة" مع القارة بأكملها.

ومع ذلك، هناك العديد من التحديات التي تلوح في الأفق. إن حث ماكرون للشركات الفرنسية على التنافس بنشاط في أفريقيا يدل على الانتقال من "نهج المساعدة" إلى نموذج يحركه الاستثمار. بينما تؤكد فرنسا على دعمها للمؤسسات الديمقراطية، فإن وقوف فرنسا وراء الأنظمة الاستبدادية في بعض المواقف يثير الانتقادات. علاوة على ذلك، بينما تسعى فرنسا إلى تقليص وجودها العسكري، فإن تركيزها المستمر على نهج يحركه الأمن، لاسيما في منطقة الساحل، يثير تساؤلات. كما أن الروابط النقدية من خلال الفرنك الفرنسي يسلط الضوء أيضًا على الأبعاد الاقتصادية لهذه العلاقة.

على أن انقلاب النيجر في 26 يوليو 2023 كان كاشفًا لحقيقة الرؤية الفرنسية لأفريقيا. طبقًا للكاتب الفرنسي رينو جيرارد في صحيفة لوفيجارو، فإن على فرنسا التمسك بوجودها في مستعمراتها السابقة رغم كل التحديات. وهو يرى أنه "في مواجهة تصاعد المظاهرات المناهضة للفرنسيين في أفريقيا الناطقة بالفرنسية، في جمهورية أفريقيا الوسطى، في مالي، في بوركينا فاسو، في السنغال، والآن في النيجر، يتفاعل العديد من مواطنينا بمرارة. "بما أن الأفارقة لم يعودوا يحبوننا، فلنترك أفريقيا، إنها عبء، فلنركز على أوروبا!"، هكذا يقولون وأكثر من ذلك. لا يمكنهم تحمل رؤية فرنسا تتعرض للإهانة من قبل شباب أفريقي ناكر للجميل، بينما منذ منح الاستقلال قبل أكثر من جيلين، قدمت فرنسا الكثير لأفريقيا، من حيث التعاون الاقتصادي والعسكري والثقافي والصحي. يمكننا أن نفهم هذا التوتر الفرنسي، لكننا سنرتكب خطأ فادحًا بإلقاء الطفل بماء الحمام. يأمرنا التاريخ ولكن أيضًا وقبل كل شيء المستقبل أن لا نستسلم في أفريقيا".

انتهى كلام الصحفي الفرنسي الذي لايزال يؤمن بنظرية عبء الرجل الأبيض وأنه يتعين على فرنسا القيام بدورها الحضاري وعدم ترك الطفل الأفريقي يغرق في ماء الحمام. مع العلم بأن هذا الطفل هو الذي يوفر لهم الكهرباء من يورانيوم النيجر وشرائح هواتفهم من كولتان الكونغو، بل ويملء خزائنهم من عوائد الفرنك الفرنسي. لا زلت أتذكر وصف الرئيس الأسبق نيكولاي ساركوزي، متحدثًا في داكار عام 2007، عن أفريقيا بأنها قارة "لم تدخل التاريخ بشكل كامل، يعيش الناس في عالم خيالي خالٍ من المغامرة البشرية أو فكرة التقدم، وهي تنغمس في نظام ثابت حيث يبدو أن كل شيء قد كتب مسبقًا والذين يحتاجون إلى إدراك أن العصر الذهبي الذي تتذكره أفريقيا إلى الأبد لن يعود لأنه لم يكن موجودًا من قبل". ولعل ذلك يكرس القبضة المذهلة للمفهوم الاستعماري لأفريقيا. كيف استمرت هذه الصورة لأفريقيا؟

يقول المؤرخ هيو تريفور روبر الأستاذ المرموق في جامعة أكسفورد في تصريح مثير للجدل بأنه "لا يوجد تاريخ في أفريقيا" في بث إذاعي لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1963، مما أثار انتقادات ومناقشات كبيرة. يقول الرجل: "ربما في المستقبل، سيكون هناك بعض التاريخ الأفريقي للتدريس. لكن في الوقت الحاضر لا يوجد شيء: لا يوجد سوى تاريخ الأوروبيين في أفريقيا. الباقي ظلام دامس".

هكذا تفكر فرنسا والغرب لكي نفهم لماذا يثور الناس في غرب أفريقيا وفي جميع أنحائها مطالبين بالتحرر من هذا الموروث الاستعماري البغيض.

ثالثًا: كيف ينظر الأفارقة إلى فرنسا؟

على مدى العقد الماضي حدث تحول ملحوظ في مشاعر عوام الناس في غرب أفريقيا ولاسيما مالي وبوركينا فاسو تجاه فرنسا. إنها بمثابة صحوة جديدة حيث نجد جيلًا جديدًا من الشباب المتعلم أكثر قدرة على القراءة النقدية لخطابات السياسة الخارجية ولاسيما من الجانب الفرنسي. وقد أدى الاستخدام الواسع النطاق للهواتف المحمولة في المنطقة إلى تسريع نشر المعلومات بما في ذلك المعلومات المضللة، مما زاد من تشكيل التصورات المتعلقة بأدوار فرنسا ونواياها. تاريخيًا كان ينظر إلى فرنسا على أنها المنقذ في مالي، لاسيما عندما تدخلت ضد الجماعات الجهادية العنيفة في الشمال عام 2013. ورغم ذلك، مع استمرار التمرد والتوترات السياسية بسبب المقاربات الأمنية غير الملائمة تراجعت هذه الصورة. أعرب قادة مالي بعد انقلاب عام 2020 عن استيائهم من سلوك فرنسا المهين، وهو ما يغذي مشاعر الغضب لدى الجمهور. كما يزيد الاعتقاد السائد بأن فرنسا تتلاعب بالكيانات الاقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) من عدم الثقة.

وعلى الرغم من تورط القوات الأمنية والعسكرية في مالي في بعض أحداث العنف، فإن اللوم في عدم الاستقرار يقع إلى حد كبير على فرنسا. ويتم تكريس هذه الديناميات المتغيرة في العلاقة الفرنسية مع مجتمعات غرب أفريقيا من خلال الناشطين وتنظيمات المجتمع المدني التي تستخدم منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وانستجرام لحشد المشاعر العامة ضد النفوذ والسياسات الفرنسية في المنطقة. وقد أسهم هؤلاء الناشطون في تنظيم المظاهرات التي استهدفت المصالح الفرنسية مثل شركة توتال.

هؤلاء الشباب، هم نتاج هزيمة أفريقيا التاريخية ضد فرنسا، حيث يشكل الاستعمار جرحًا عميقًا في الضمير الأفريقي، خاصة وأن المستعمر السابق يواصل إظهار الغطرسة تجاه الأفارقة. وعليه، من المرجح أن يتنامى هذا الرفض، وطالما استمرت فرنسا في التدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية الأفريقية ودعم القادة الموالين لها، فسوف يتم اتهامها بالمسئولية المشتركة عن الصعوبات التي تواجه القارة.

 علاوة على ذلك، يُنظر إلى المعاملة التمييزية ضد المنحدرين من أصل أفريقي من قبل الحكومة الفرنسية في الضواحي الفرنسية على أنها شكل آخر من أشكال الإذلال. لقد وعد إيمانويل ماكرون بإعادة بناء هذه العلاقات، بالاعتماد بشكل خاص على المجتمع المدني والشباب الأفريقي. بيد أن هذه السياسة لم تؤت أكلها. كانت بعض الصور والكلمات صادمة. على سبيل المثال، تمت دعوة الرؤساء الأفارقة لحضور قمة في باو في فرنسا، في عام 2020، بطريقة لا تخلو من ازدراء. كما أن الاستهزاء بقواعد الدبلوماسية كان واضحًا من خلال تجاوز رؤساء الدول الأفريقية والدعوة للحوار مع الشباب والمجتمع المدني الأفريقي خلال قمة مونبلييه، حيث تمت دعوة 3000 شاب أفريقي، وهو ما يعبر عن غطرسة فرنسية.

من المؤكد أن العلاقة بين غرب أفريقيا وفرنسا علاقة معقدة، متجذرة بعمق في التحديات التاريخية والدبلوماسية والمعاصرة. ويمكن فهم ثورة الغضب ضد الوجود الفرنسي في غرب أفريقيا في ضوء مجموعة من الاعتبارات المهمة من أبرزها:

1- عوامل تاريخية: ترك الحكم الاستعماري الفرنسي على مناطق شاسعة من أفريقيا بصمة لا تمحى. على سبيل المثال، في بلدان مثل مالي والنيجر، كان لفرنسا حضور مهيمن، حيث تقوم باستخراج الموارد الطبيعية وممارسة السيطرة السياسية. وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، حافظت فرنسا على علاقات سرية مع العديد من قادة غرب أفريقيا، مما يضمن استمرار النفوذ. لقد صاغ فرانسوا كزافييه فيرشاف، وهو اقتصادي فرنسي بارز، مصطلح "فرانس أفريك" للإشارة إلى علاقة استعمارية جديدة تتدثر بستار الإجرام السري في المستويات العليا للسياسة والاقتصاد الفرنسيين. ومن المرجح أن هذه العلاقات أدت إلى "اختلاس" مبالغ كبيرة من المال. ومن الأمثلة على ذلك الدعم المالي المزعوم المقدم للقادة مقابل امتيازات تجارية، خاصة في قطاع النفط، كما حدث مع الرئيس عمر بونغو في الغابون.

لقد أبرمت فرنسا اتفاقيات دفاعية منحتها صلاحية التدخل عسكريًا بشكل منتظم لصالح قادة غير محبوبين مؤيدين لفرنسا لإبقائهم في السلطة، وفي كثير من الحالات، عزز هذا من يد الشخصيات الفاسدة المستبدة مثل رئيس بوركينا فاسو السابق بليز كومباوري، وهو ما خلق تحديات إضافية للنضال من أجل الديمقراطية. وعلى الرغم من أن فرنسا لم تتدخل عسكريًا لإعادة أي من رؤساء الدول المخلوعين مؤخرًا بفعل انقلابات عسكرية، فقد كان يُنظر إليهم جميعًا على أنهم "مؤيدون لفرنسا".

2- الإبادة الجماعية في رواندا: هذه واحدة من أحلك الفترات في التاريخ الأفريقي الحديث. إن دور فرنسا في الإبادة الجماعية في رواندا موضع جدل وتعقيد. في حين أن فرنسا لم تكن مسئولة بشكل مباشر عن الإبادة الجماعية، فقد تم بيان تورطها في رواندا قبل وأثناء فظائع عام 1994. خلال السنوات التي سبقت الإبادة الجماعية، قدمت فرنسا الدعم العسكري والتدريب والأسلحة للحكومة التي يقودها الهوتو في رواندا، والتي كانت منخرطة في حرب أهلية مع الجبهة الوطنية الرواندية التي يقودها التوتسي. عندما بدأت الإبادة الجماعية، أطلقت فرنسا "عملية الفيروز"، وهي تدخل إنساني يقول النقاد إنه جاء متأخرًا للغاية، وفي بعض الحالات، ساعد عن غير قصد مرتكبي الإبادة الجماعية لأنه سمح لقادتهم بالهروب. بينما صرح المسئولون الفرنسيون بأن نواياهم كانت حماية المدنيين والحفاظ على الاستقرار في المنطقة، فقد واجهوا انتقادات لعلاقتهم الوثيقة مع الحكومة الرواندية قبل الإبادة الجماعية ولعدم قيامهم بما يكفي لمنع أو وقف المذبحة.

3– العملة الاستعمارية: كان دور فرنسا في المشهد المالي لغرب أفريقيا، لاسيما من خلال الفرنك الأفريقي، مصدر توتر وخلاف. لقد تم تصميم الفرنك الأفريقي الذي أنشأته فرنسا في عام 1945، للتحكم في تكلفة المواد الخام من مستعمراتها وحماية نفوذها الاقتصادي. وعلى الرغم من حصول هذه البلدان على الاستقلال، لا يزال الفرنك الأفريقي يهيمن على 14 دولة أفريقية. نظام العملة هذا، الذي يشار إليه غالبًا على أنه أداة لـ "العبودية النقدية" أو "العملة الاستعمارية"، يفيد فرنسا بشكل كبير: فهي تحتفظ بالسيطرة الاقتصادية، وتستفيد من الفائض التجاري لهذه البلدان، وتتمتع الشركات الفرنسية بوصول تفضيلي إلى الأسواق المحلية. لكن بالنسبة للدول الأفريقية، فإن ربط عملتها بالفرنك الفرنسي القوي ثم اليورو قد أعاق التنمية الاقتصادية، والتي تفاقمت بسبب قرارات فرنسا الأحادية، مثل تخفيض قيمة الفرنك الأفريقي في عام 1994 الذي دمر اقتصادات المنطقة.

بينما يجادل البعض بأن الفرنك الأفريقي يجلب الاستقرار، تظل التجارة البينية محدودة. وقد حاول العديد من القادة الأفارقة مقاومة أو إصلاح نظام الفرنك الأفريقي، لكن غالبًا ما واجهوا عواقب وخيمة. ومن هؤلاء على سبيل المثال رئيس مالي موديبو كيتا في عام 1962، عندما اختار الخروج من منطقة فرنك الاتحاد المالي الأفريقي وقدم عوضًا عنه فرنك مالي. ومع ذلك، قوبل قراره بعزلة اقتصادية عن دول الجوار. أضف إلى ذلك سيلفانوس أولمبيو (توغو) قبل اغتياله عام 1963، خطط أولمبيو لمشروع نقدي مستقل لتوغو. والجدير بالذكر أن بعض الأفراد المتورطين في اغتياله كانت لهم صلات بفرنسا، كما حافظ خليفته، إتيان غناسينغبي إياديما، على علاقات وثيقة مع القوة الاستعمارية السابقة. وعليه، فإن الاستياء المتزايد من فرنسا في أفريقيا هو نتيجة عقود من الاستعمار الجديد المتصور والسيطرة الخانقة على السيادة النقدية للقارة.

4- دعم الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا

- تعرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، كهيئة إقليمية، لانتقادات بسبب تساهلها مع القادة الذين بقوا في السلطة خارج الحدود الدستورية أو يتلاعبون بالعمليات الانتخابية. لذلك، يُنظر أحيانًا إلى دعم فرنسا للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا على أنه دعم ضمني لهذه الاتجاهات الاستبدادية. على سبيل المثال، عندما نفذ الجيش في مالي انقلابات في عام 2020 ومرة أخرى في عام 2021، فرضت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عقوبات ولكن تم انتقادها لعدم قيامها بما يكفي لمنع ظاهرة حزام الانقلابات في المقام الأول. ولذلك نظر إلى تشددها في مواجهة انقلاب النيجر على أنه يعبر عن تبعية صريحة للمواقف الفرنسية والغربية.

5- استغلال يورانيوم النيجر

على الرغم من أن النيجر تعد من أكثر دول العالم فقرًا، فإنها تمثل مصدرًا مهمًا لحصول فرنسا على اليورانيوم الرخيص. وفي الوقت الذي ينعم فيه الفرنسيون بالكهرباء الناتجة عن الطاقة النووية، فإن أبناء النيجر يعتمدون على جارتهم الكبرى نيجيريا في الحصول على 70% من احتياجاتهم من الكهرباء. ليس هذا فحسب، حيث تعد النيجر محورية بالنسبة لمشروع خط أنابيب الغاز بقيمة 13 مليار دولار والذي يربط حقول الغاز العملاقة في نيجيريا بأوروبا. ويمكن لخط أنابيب الغاز هذا الذي نوقش منذ فترة طويلة أن يغذي 11 دولة على طول الساحل الأفريقي في طريقه إلى المغرب، ثم يتم ربطه بنظام الطاقة في إسبانيا أو إيطاليا، وقد حصل على دفعة جديدة بعد قطع إمدادات الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2022. في اجتماع عقد في العاصمة النيجيرية أبوجا في يونيو 2023، اتفق وزراء الطاقة من الجزائر ونيجيريا والنيجر على تسريع العمل في خط أنابيب الغاز عبر الصحراء (TSGP)، والذي يمكن أن ينقل 30 مليار متر مكعب سنويًا من صادرات الغاز الأفريقية إلى أوروبا .ويبلغ طول خط الأنابيب 4128 كيلومترًا، وسيربط واري في نيجيريا بمحور الغاز الرئيسي في حاسي الرمل في الجزائر، ويمر عبر النيجر، وقد تم التوصل بالفعل إلى اتفاقيات أوّلية مع حكومة محمد بازوم في النيجر. ومع ذلك، فإن قادة النيجر العسكريون يعبرون عن المزاج الشعبي العام الذي لا يشارك حكومة بازوم المعزولة حماسها للعلاقات مع كل من فرنسا وأوروبا.

 وأخيرًا، فإن كل نازلة كاشفة كما يقولون. وأيًا كان مصير انقلاب النيجر الأخير الذي أطاح بحكومة محمد بازوم، فإنه يعبر عن تحول هيكلي في بنية العلاقات الفرنسية-الأفريقية. إنه تحول يعبر عن صدام في المدركات والسرديات المتبادلة. الغضب الملموس تجاه فرنسا في غرب أفريقيا متجذر في نسيج معقد من السياسات الاقتصادية التاريخية والمستمرة، والتي يرمز إليها بشكل بارز نظام الفرنك الأفريقي. هذا الترتيب النقدي، الذي يعتبره الكثيرون شعارًا للاستعمار الجديد، قد ربط المصائر الاقتصادية للعديد من دول غرب أفريقيا بفرنسا بعد فترة طويلة من إعلانها الرسمي عن الاستقلال. في حين استفادت فرنسا من الحفاظ على قبضتها على هذه الاقتصادات، فقد أدى النظام نفسه في كثير من الأحيان إلى خنق التنمية الاقتصادية المشتركة للبلدان الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك، أدت التدخلات الواقعية والمتصورة في الشئون السياسية لهذه الدول، إلى جانب مصائر القادة الذين قاوموا النفوذ الفرنسي، إلى تفاقم هذه المشاعر. ولا يخفى أن هذه العوامل تعكس شعورًا واسع النطاق بأن السيادة الحقيقية بالنسبة لهذه الدول لا تزال بعيدة المنال، مما أدى إلى تأجيج الاستياء الشعبي ضد فرنسا في المنطقة. وعليه، يصبح الخيار الصحيح الذي يمكن البناء عليه هو دعم جهود الاعتماد الذاتي في سياق مبادرات التكامل الإقليمية وعدم الوقوع في شرك الصراع بين الشرق والغرب.