• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 8 أغسطس 2023، أن الدبلوماسية هي السبيل الأفضل لحل الأزمة التي سببها الانقلاب في النيجر. وكان مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، جيك سوليفان، قد أدان، عقب وقوع الانقلاب في 26 يوليو، أي محاولة لاعتقال أو إعاقة عمل الحكومة المنتخبة ديمقراطياً في النيجر، والتي يديرها الرئيس محمد بازوم. وتؤشر تلك التصريحات على غموض موقف واشنطن حيال الأزمة في النيجر.

نهج مُهادن:

ثمّة مؤشرات تُدلل على موقف الولايات المتحدة الأمريكية المُهادن من الانقلاب الذي وقع في النيجر، وهو ما يمكن تسليط الضوء عليه، على النحو التالي:

1. تجنب وصف ما حدث بالانقلاب: على الرغم من تنديد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، باستيلاء ضباط عسكريين على السلطة في النيجر، وإعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن دعم واشنطن الثابت لعودة الرئيس بازوم، فإن المسؤولين الأمريكيين قد تجنبوا وصف الأحداث في النيجر، بأنها انقلاب، وذلك في محاولة لتفادي وقف المساعدات العسكرية الأمريكية للنيجر وفقاً للقانون الأمريكي الخاص بالمساعدات الخارجية، والذي يحظر تقديم أي مساعدة لبلد ما يحدث بها انقلاب. 

2. تفضيل المسار الدبلوماسي: تتبنى معظم التصريحات الأمريكية مساراً واحداً حيال الأزمة وهو ضرورة الاعتماد على النهج الدبلوماسي. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، قد التقت بعض قادة المجلس العسكري في النيجر، في 7 أغسطس 2023، مؤكدة رغبة واشنطن في جعل الباب مفتوحاً أمام الدبلوماسية، وذلك على الرغم من إقرارها بصعوبة المباحثات، وتوضيحها أن قادة الانقلاب رفضوا طلبها بشأن مقابلة الرئيس المحتجز محمد بازوم. هذا إلى جانب تأكيد واشنطن أن السفيرة الأمريكية الجديدة كاثلين فيتزجيبون، سوف تصل إلى نيامي، خلال فترة قريبة، رغم تأكيد أن ذلك لا يمثل تغييراً في الموقف الأمريكي تجاه الأحداث في النيجر.

وبالتوازي مع ذلك، فقد دعا بايدن، في 3 أغسطس، القادة العسكريين في النيجر، إلى الإفراج عن الرئيس محمد بازوم، الذي وصفه بأنه "منتخب ديمقراطياً"، مذكراً إياهم بأن الدفاع عن القيم الديمقراطية الأساسية والدفاع عن النظام الدستوري وكذلك العدالة والحق في التجمع السلمي أمور جوهرية للشراكة بين النيجر والولايات المتحدة.

3. الاكتفاء بالتلويح بالمحاسبة: كشف بلينكن أن الولايات المتحدة قد أوضحت لقادة الانقلاب العسكري في النيجر، أنهم سيحاسبون إذا حدث أي مكروه للرئيس المخلوع بازوم. وقد جاءت تصريحات بلينكن بعد أن أبلغ قادة الانقلاب فيكتوريا نولاند أنهم سيقتلون بازوم، إذا تدخلت دول جوار النيجر في شؤون البلاد.

4. تجنب إثارة الخلافات مع الروس: تدرك الإدارة الأمريكية أن روسيا تسعى إلى التوسع في النيجر، وربما كان الرئيس بازوم عائقاً أمام هذا التوسع، وقد تزايدت التكهنات بشأن مشاركة مُحتملة لقوات فاغنر العسكرية الروسية الخاصة في دعم القوات المُسلحة للإطاحة ببازوم، ومع ذلك، حاولت واشنطن أن تتجنب الانخراط في اتهام روسيا مُباشرة بأنها تقف وراء هذا الانقلاب، إذ قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير، في 27 يوليو 2023، إن الولايات المتحدة لا ترى أي مؤشرات يُعتد بها على تورط روسيا أو قوات مجموعة فاغنر في الانقلاب بدولة النيجر.

مصالح واشنطن:

في ضوء الموقف الأمريكي السابق الإشارة إليه حيال التطورات في النيجر، فإن ثّمة أسباباً وراء تبني الإدارة الأمريكية هذا النهج الحذر، ويتمثل أبرزها في الآتي:

1. أهمية نيامي الاستراتيجية والاقتصادية: تمثل النيجر منصة مهمة للولايات المتحدة الأمريكية في وسط إفريقيا، يمكنها الاعتماد عليها لجمع المعلومات الاستخبارية على مساحة واسعة من الساحل وشرق إفريقيا، على طول الطريق من السودان إلى مالي، ومن الشمال في ليبيا إلى الجنوب في نيجيريا. وبخلاف المصالح الجيوستراتيجية، فإن مصالح اقتصادية لواشنطن، لا يمكنها خسارتها في النيجر، لأن الأخيرة تمتلك موارد خام وفيرة كالذهب والفحم والنفط واليورانيوم، مما يجعلها ساحة للتنافس الدولي، ولاسيما وأنها سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وفقاً للرابطة النووية العالمية. كما أن خسارتها تعني انقطاع أكثر من 25% من إمدادات اليورانيوم إلى أوروبا، الأمر الذي سيشكل ضغطاً على حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.

2. حماية الوجود العسكري الأمريكي: توجد الولايات المتحدة، في النيجر، من خلال قوات عسكرية يبلغ قوامها 1100 جندي في البلاد، إلى جانب قاعدتيْن عسكريتيْن في النيجر، إحداهما "قاعدة النيجر الجوية 201" وهي قاعدة مملوكة للجيش في النيجر، ومع ذلك، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة بنائها بتكلفة تجاوزت 100 مليون دولار، ليعتبرها المسؤولون الأمريكيون - عند استكمال تطويرها في عام 2019 - أكبر مشروع بناء تقوده القوات الجوية الأمريكية. وتقوم واشنطن بتسيير طائرات "درون" مُتطورة تعمل في أجواء المنطقة من ليبيا شمالاً إلى نيجيريا جنوباً ومن السودان شرقاً إلى مالي غرباً.

3. تفادي عرقلة جهود مكافحة الإرهاب: تشارك الولايات المتحدة الأمريكية بنشاط في مكافحة الإرهاب مع قوات النيجر لمواجهة تنظيمي "القاعدة" و"داعش" في منطقة الساحل الإفريقي. وفي هذا السياق، تخشى واشنطن من رفض قادة الانقلاب العسكري التعاون مع الإدارة الأمريكية في جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة. وعلى الرغم من أن التقديرات تُشير إلى أن القوات الأمريكية في النيجر تراجعت عن القيام بالعمليات العسكرية منذ عام 2017 حينما قُتل أربعة منها في عملية دورية لمكافحة الإرهاب، فإن واشنطن ما زالت لها ثقل وارتباطات قوية تجاه جيش النيجر؛ حيث تقدم له المشورة والمعلومات الاستخباراتية، وتُسهم في تدريب عناصر من قوات الجيش لمواجهة التهديدات الإرهابية.

4. مخاوف من تنامي النفوذ الروسي والصيني: ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن النيجر حال نجاح الانقلاب ستكون الدولة رقم 11 في سلسلة الدول الإفريقية التي تشهد نفوذاً روسياً واضحاً عبر مجموعة فاغنر، وذلك بعد استمالة بوركينا فاسو عام 2022. كما أن انحسار النفوذ الغربي، وفي مقدمته الفرنسي في منطقة الساحل، أمر من شأنه أن يدفع روسيا والصين لتمديد نفوذهما في المنطقة. وهكذا، يمكن القول إنه من المُرجح في الوقت الحالي أن تفقد واشنطن وباريس استثماراتهما وقواعدهما الخاصة بمكافحة الإرهاب في النيجر، في مقابل، الاستفادة المُحتملة لروسيا والصين من الثروات الطبيعية والاستثمارات التي يمكن ضخها في النيجر.

5. استمرار قنوات الاتصال مع قادة عسكريين: رغم تفاجؤ الإدارة الأمريكية بظهور قائد العمليات الخاصة في النيجر موسى سالو بارمو كأحد قادة الانقلاب، والذي كان قد تلقى تدريبات سابقة في واشنطن، وهو واحد من أبرز العسكريين النيجريين المقربين من المسؤولين الأمريكيين، وكان مسؤولاً عن القوات التي تحارب مقاتلي "القاعدة" و"داعش"، فإن ذلك لم يمنع البيت الأبيض من التواصل معه، إذ تُشير التقارير إلى استمرار بارمو باعتباره قناة دبلوماسية مهمة بين الإدارة الأمريكية والمجلس العسكري. وقد التقت نولاند مع بارمو، خلال زيارتها إلى نيامي في 7 أغسطس، والمُشار إليها آنفاً، في مباحثات استمرت ساعتين، وطلبت منه التوسط في صفقة من شأنها أن تسمح للنيجر وحلفائها الغربيين، بالعودة إلى محاربة المتشددين في المنطقة.

سيناريوهات مُستقبلية:

في ضوء ما سبق، يمكن الإِشارة إلى ثلاثة سيناريوهات مُستقبلية أمام واشنطن في التعامل مع أزمة انقلاب النيجر، ويمكن استعراضها على النحو التالي:

1. دعم الخيار العسكري: وهو السيناريو المُستبعد في ضوء معطيات التعامل الأمريكي مع الأزمة، والتي تمت الإشارة إليها سابقاً، إذ تدرك واشنطن أن تبنيها مثل هذا الخيار جنباً إلى جنب مع فرنسا، يُرجح أن يفقدهما استثماراتهما وقواعدهما الخاصة بمكافحة الإرهاب في النيجر؛ حيث ستتفرغان فقط لمحاربة قادة الانقلاب العسكري، والذين قد يلجؤون إلى الروس ومجموعة فاغنر، أو المليشيات الإرهابية المتطرفة لتقويض مثل هذا التدخل، والذي سيعتبرونه عدواناً على سيادة أراضي النيجر.

2. سياسة فك الارتباط: وذلك على غرار ما فعلته الإدارة الأمريكية الديمقراطية خلال السنوات القليلة الماضية مع أزمات الشرق الأوسط، وآثَرَت الابتعاد عن تحدياته وأزماته، إذ يمكن لواشنطن أن تتبنى ذات النهج عبر وصفها ما حدث في النيجر بأنه انقلاب عسكري، وبالتالي، سيتم قطع المساعدات الأمريكية عنها، وستنهي كل أنشطتها العسكرية والاستخباراتية هناك، إلا أن هذا الخيار سيؤدي إلى صعود الجماعات الإرهابية في غرب إفريقيا وخاصة تنظيمي "داعش" و"بوكو حرام"، وكذلك قيام منافسي واشنطن بملء الفراغ الذي أوجده الانسحاب الأمريكي، وعلى رأسهم روسيا والصين، وربما في سيناريوهات أخرى تركيا وإيران.

3. مواصلة الجهود الدبلوماسية: يبدو أنه الخيار المتبع حالياً من قبل الإدارة الأمريكية؛ فمن الواضح أن واشنطن تُفضّل في الوقت الراهن فتح باب الحوار مع كل الأطراف المتنازعة في النيجر، مع محاولة استبعاد الروس من المعادلة، وعرقلة الرغبة الفرنسية في اللجوء إلى خيار التدخل العسكري ضد قادة الانقلاب، ومن هذا المنطلق، يمكن ملاحظة دعم واشنطن لجهود المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" لفرض مزيد من الضغوط على قادة المجلس العسكري، ولكن في الوقت نفسه، تدرك أن المجموعة مُنقسمة على ذاتها، وغير قادرة على اتخاذ قرار بشأن استخدام القوة ضد قادة الانقلاب.

4. القبول بالأمر الواقع والاعتراف بقادة الانقلاب: هذا الخيار غير مُستعبد من قبل الإدارة الأمريكية، إدراكاً منها بخطورة التداعيات الأمنية الناجمة عن التدخل العسكري والتي تسمح بدخول الروس في المعادلة، ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذا الخيار سيزيد من وطأة الأجندة الخلافية بين الولايات المتحدة وفرنسا، وربما سيكون له تداعيات سلبية بينهما فيما يتعلق بمُستقبل التعاون عبر الأطلسي.

وفي التقدير، يمكن القول إن سياسة توخي الحذر التي تعتمدها الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن مع النيجر تنطلق من رؤية أمريكية تعتبر النيجر أشبه بآخر قطعة "دومينو" في منطقة الساحل والصحراء، وبالتالي، فإنه من الأجدى ألّا تسقط في أيدي المنافسين الاستراتيجيين تحت أي ذريعة، ولذا، تفضل إدارة بايدن اعتماد نهج براغماتي، يُعبر عن مرونة أمريكية للتعامل مع كل الخيارات لضمان مصالح واشنطن في المقام الأول.