• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

كشفت العديد من التقارير الأمريكية والغربية في الفترة الأخيرة، النقاب عن عزم جيش التحرير الشعبي الصيني تدشين سلسلة من القواعد العسكرية البحرية في عدة أقاليم من العالم، ولاسيما في آسيا وإفريقيا، وذلك خلال فترة زمنية تتراوح بين عامين و5 أعوام. وهذا ما يطرح التساؤلات بشأن الدوافع والاعتبارات التي تقف وراء اهتمام الصين بإقامة هذه القواعد العسكرية، فضلاً عن التداعيات المُحتملة لهذه الخطوة، ولاسيما في ظل تصاعد التنافس المحتدم بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على مناطق النفوذ والهيمنة في العالم.

مؤشرات عديدة:

برزت أخيراً مؤشرات عدة، ضمن تقارير بحثية وإعلامية أمريكية وغربية، تُظهر توجه بكين نحو تأسيس قواعد عسكرية بحرية في الخارج، ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلي:

1- التخطيط لإقامة قواعد عسكرية بحرية: أوضح تقرير نشره معهد الأبحاث الأمريكي "AidData"، يوم 26 يوليو الماضي، أن الجيش الصيني يخطط لتأسيس حزمة من القواعد العسكرية البحرية فيما وراء البحار، مستدلاً على ذلك بمجموعة من الدلائل، ومنها قيمة الأموال المُخصصة من جانب البنوك الصينية المملوكة من الدولة لصالح مشاريع الموانئ، والأهمية الاستراتيجية لما تحتوي عليه هذه الموانئ من بنى تحتية، علاوة على متانة العلاقات بين الصين والدول التي تُقام فيها تلك الموانئ. وقد تضمن تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، يوم 27 يوليو الماضي، قائمة مختصرة من ثمانية أماكن مرشحة لإقامة قواعد بحرية صينية في المستقبل القريب، وهي: هامبانتوتا في سريلانكا، وباتا في غينيا الاستوائية، وجوادر في باكستان، وكريبي في الكاميرون، وريام في كمبوديا، ولوغانفيل في فانواتو، وناكالا في موزمبيق، بجانب نواكشوط في موريتانيا.

2- تأسيس قاعدة بحرية في كمبوديا: أشارت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، يوم 24 يوليو الماضي، إلى اقتراب الصين من تأسيس قاعدة عسكرية بحرية في كمبوديا، حيث أظهرت صور الأقمار الاصطناعية رصيفاً شبه مكتمل يمكن استخدامه في رسو حاملات الطائرات، وهو يتماثل في الحجم والتصميم مع رصيف القاعدة الصينية بجيبوتي.

3- إقامة قواعد تستهدف واشنطن: تضمنت تقارير استخباراتية أمريكية، وكذلك تصريحات لمسؤولين أمريكيين، إشارات إلى تخطيط الصين لإقامة قواعد عسكرية بحرية في مناطق تستهدف واشنطن بشكل مباشر، سواءً في غينيا الاستوائية على ساحل المحيط الأطلسي المواجه للولايات المتحدة، حيث ستكون السفن الحربية الصينية قادرة على إعادة تسليح نفسها في مواجهة الساحل الشرقي لواشنطن؛ أو في منطقة أمريكا اللاتينية، الفناء الخلفي لواشنطن، من خلال إجراء الصين محادثات مع كوبا لإنشاء قاعدة عسكرية مشتركة في الجزيرة، التي تبعد نحو 150 كيلومتراً فقط عن الأراضي الأمريكية.

4- اتهام بكين بتأسيس قواعد سرية: وُجهت بعض التهم الغربية للصين بأنها تمتلك قواعد بحرية سرية حول العالم من دون علم الدول المعنية بوجودها، وهي التهم التي نفتها بكين، كما نفتها أيضاً العديد من الدول المُتهمة باستضافة هذه القواعد. وطبقاً لتقارير أمريكية نُشرت في إبريل 2022، فإن الشركات الصينية تمتلك أو تشرف على محطة واحدة على الأقل في 96 ميناءً في 53 دولة، وسوف تكون هذه المحطات الركيزة الأساسية لعمليات الجيش الصيني فيما وراء البحار، من خلال الاعتماد على الاستخدام المزدوج لهذه الموانئ، والذي يتيح إمكانية توظيف القوات الصينية التي تقوم بحماية المصالح الاقتصادية الصينية بالخارج في أداء بعض المهام ذات الطابع العسكري.

5- إنشاء شبكة "نقاط القوة الاستراتيجية": بخلاف الجيش الأمريكي، الذي يمتلك مئات القواعد العسكرية حول العالم، وكما تشير الوثائق الرسمية الصينية، يعتمد الجيش الصيني في الغالب على استخدام منشآت في الموانئ الخارجية تملكها أو تديرها مؤسسات حكومية صينية. وهو ما يشير إلى تبني بكين منظوراً مختلفاً إزاء هذه المسألة، يتجلى في إنشاء جيشها شبكة يُطلق عليها "نقاط القوة الاستراتيجية" أو "مرافق لوجستية خارجية"، على طول طرق التجارة البحرية المهمة، لحماية المصالح الدولية للصين، وهذه المرافق لا تُعد قواعد عسكرية من وجهة النظر الصينية.

دوافع الانتشار:

هناك عدة دوافع واعتبارات قد تقف وراء سعي الصين لإقامة قواعد عسكرية بحرية في الخارج، يمكن الإشارة إلى أبرزها في الآتي:

1- تعزيز الوجود فيما وراء البحار: بالرغم من امتلاك الصين أكبر قوة بحرية في العالم بالمعيار العددي، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة (355 سفينة صينية مقابل 297 سفينة أمريكية)، فإن الأخيرة تمتلك ميزة نسبية تُضعف من تأثير امتلاك بكين لهذا العدد الضخم من القطع البحرية. وتتمثل هذه الميزة في الوجود البحري شبه الدائم لواشنطن في المناطق الجغرافية المفصلية المحيطة بالصين، وذلك في الوقت الذي تفتقر فيه الصين إلى شبكة قوية من القواعد العسكرية البحرية فيما وراء البحار، وهو ما يُضعف من تأثير استخدامها لسفنها الحربية خارج نطاقها الجغرافي.

2- حماية طرق الشحن والتجارة الدولية: تُعد الصين أكبر دول العالم من حيث حجم التجارة الخارجية، والتي قُدرت قيمتها بما يزيد عن 40 تريليون يوان (نحو 5.94 تريليون دولار أمريكي) عام 2022، وهي تمتد إلى الآسيان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الحزام والطريق وإفريقيا، وغيرها من مختلف مناطق العالم. ويتم شحن هذا الحجم الهائل من السلع والبضائع، سواءً أكانت صادرات من الصين أم واردات إليها، عبر الممرات البحرية الاستراتيجية للتجارة العالمية، وصولاً إلى الموانئ المهمة في العديد من مناطق العالم. ومن دون شك، فإن الحفاظ على أمن طرق الشحن والتجارة الدولية يتطلب ضرورة امتلاك بكين قوات بحرية ذات قدرات وإمكانات عسكرية كبيرة لحماية تجارتها مع دول العالم، وبالتالي الاتجاه إلى تأسيس وجود دائم لهذه القوات، من خلال إقامة قواعد عسكرية بحرية على امتداد الممرات البحرية الاستراتيجية للتجارة الدولية.

3- طموحات اكتساب القوة العالمية: يُعد حق إنشاء قواعد عسكرية خارج البلاد عنصراً حاسماً في الطموحات العسكرية العالمية للصين، وهو ما تجلى بشكل واضح مع افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي عام 2017، والذي عكس توجهاً ملحوظاً من جانب بكين نحو استعراض قوتها عالمياً.

4- تقليل الفجوة العسكرية مع واشنطن: ثمة فجوة واضحة في الإمكانات العسكرية بين القوتين العظميين؛ الولايات المتحدة والصين، ولاسيما فيما يتصل بالقوات البحرية والجوية. ومن أبرز المؤشرات على ذلك، عدد القواعد العسكرية التي يمتلكها كل طرف منهما، ففي حين تمتلك الولايات المتحدة شبكة واسعة من القواعد العسكرية خارج أراضيها، قدرتها بعض المصادر بنحو 835 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم، فإن الصين ربما لا تمتلك سوى قاعدة عسكرية وحيدة خارج حدودها، في جيبوتي. وبالتالي، فإن اتجاه بكين نحو إقامة وجود عسكري لها في الخارج، يمثل محاولة من جانبها لتقليل الفجوة في الإمكانات والقدرات العسكرية بينها وبين واشنطن.

5- مواجهة الانتشار الأمريكي في "الإندوباسيفيك": تعمل الصين على تكثيف حضورها العسكري في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، بهدف مواجهة الانتشار الاستراتيجي والعسكري المكثف لواشنطن في هذه المنطقة، بدءاً من أستراليا وجزر المحيط الهادئ، مروراً بقواعدها العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية، ووصولاً إلى البحار القريبة من الصين. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى عقد بكين اتفاقاً أمنياً مع جزر سليمان العام الماضي، يتيح لها إمكانية نشر قوات أمنية في هذه الدولة الجزرية الواقعة في المحيط الهادئ.

6- الاستعداد لصراع مُحتمل مع واشنطن: على الرغم من محاولات التقارب الدبلوماسي بين الصين والولايات المتحدة، فإن التنافس لا يزال السمة الأبرز للتفاعلات بين القوتين، ولاسيما فيما يتصل بدعم واشنطن لاستقلال تايوان، وإصرار بكين على إعادة ضم تايوان إليها بالقوة إذا لزم الأمر. وهو ما يشي باحتمالية وقوع مواجهة عسكرية بين أكبر قوتين في العالم. ومن ثم، يمكن تفسير تحرك الصين نحو إقامة قواعد عسكرية بحرية في العديد من مناطق العالم، بأنه ربما يأتي استعداداً من جانبها لأية مواجهة مستقبلية مُحتملة مع واشنطن بشأن تايوان.

7- تأمين مصالح بكين في إفريقيا: يرجع اهتمام الصين بالوجود العسكري في إفريقيا إلى الأهمية الكبرى التي تمثلها القارة للصين، باعتبارها شريكاً تجارياً كبيراً ومهماً لبكين، علاوة على احتواء أراضيها على ثروات معدنية نادرة ذات أهمية كبرى لصناعة الرقائق الإلكترونية، وهي محل تنافس كبير بين الصين والولايات المتحدة. ومن هنا، فإن أحد أهداف إنشاء بكين قواعد عسكرية في إفريقيا يتمثل في حماية مصالحها الاقتصادية والتجارية المتزايدة في هذه القارة.

تداعيات متباينة:

تطرح مسألة الوجود العسكري للصين في الخارج، العديد من التداعيات والتأثيرات المُحتملة، يمكن الإشارة إلى أبرزها في الآتي:

1- تنامي النفوذ الصيني: سيترتب على نجاح بكين في إقامة قواعد عسكرية فيما وراء البحار، تصاعد دورها ونفوذها السياسي والعسكري في المناطق الرئيسية التي ستكون مقراً لهذه القواعد، ولاسيما في آسيا وإفريقيا.

2- تزايد المخاوف الأمريكية: تتباين التقييمات الأمريكية بشأن التداعيات الاستراتيجية لمسألة تمركز القوات الصينية خارج حدودها. ففي حين حذر البعض من مخاطر إقامة قواعد صينية في الخارج، رأى آخرون أن بكين لم تُظهر أي علامات على أنها صارت فاعلاً عسكرياً تقليدياً في مناطق بعيدة عن شواطئها. ومع ذلك، فإن ثمة مخاوف أمريكية بشأن توجه الصين نحو الوجود العسكري خارج أراضيها، عكستها دعوة الرئيس جو بايدن لرئيس وزراء كمبوديا، هون سين، إلى إبداء الشفافية بشأن أنشطة الجيش الصيني في قاعدة ريام البحرية الكمبودية، والتي تعتقد واشنطن أنها ضمن برنامج سري دشنته الصين لإقامة قواعد عسكرية عبر العالم.

3- تزايد احتمالات المواجهة الصينية الأمريكية: من شأن اختلاف دوافع كل من الصين والولايات المتحدة فيما يتصل بمسألة الوجود العسكري لكليهما في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، أن يزيد من احتمالات حدوث صدام بين الطرفين في تلك المنطقة خلال الفترة المقبلة. ومن مؤشرات ذلك، عقد واشنطن، في يونيو الماضي، اتفاقاً أمنياً مع بابوا غينيا الجديدة، يسمح لها بإنشاء قواعد عسكرية في هذه الدولة الجزرية الواقعة في جنوب غرب المحيط الهادئ، وهي الخطوة التي جاءت في سياق تحركات واشنطن لتطويق الصين ومحاصرتها في منطقة المحيط الهادئ. علاوة على توقيع الولايات المتحدة، في فبراير الماضي، اتفاقاً مع الفلبين يسمح للجيش الأمريكي باستعمال 4 قواعد إضافية في مناطق استراتيجية من البلد الواقع في جنوب شرقي آسيا.

4- إثارة مخاوف الهند: بالنظر إلى ارتباط الأمن القومي للهند بمنطقة جنوب المحيط الهندي، من المُتوقع أن تثير خطط الصين لإقامة قواعد عسكرية بحرية في الخارج، ولاسيما في الدول المجاورة للهند، قلق الأخيرة، من إمكانية استخدام بكين هذه القواعد في حالة حدوث تصعيد عسكري بين الصين والهند على خلفية النزاع الحدودي بينهما، وكذلك إمكانية استخدامها في التجسس ضد نيودلهي.

5- تحركات أمريكية مُضادة: بالرغم من توقع قيام واشنطن بتحركات مُضادة لإيقاف أو على الأقل تعطيل التوجهات الصينية لإقامة قواعد عسكرية في العديد من المناطق الاستراتيجية المُهمة، فإن هذه التحركات ستُواجه بالعديد من العقبات؛ ومنها أن الدول المُرشحة لاستضافة قواعد عسكرية صينية ترتبط بعلاقات سياسية واقتصادية قوية مع بكين.

6- حدوث صراع في مناطق القواعد الصينية: تشير تقارير أمريكية إلى أن معظم المناطق التي تسعى بكين لإقامة قواعد عسكرية فيها يشوبها عدم الاستقرار ووجود منافسات عسكرية مع دول إقليمية أخرى، وهو ما يعني أن الجهود الصينية لتأسيس قواعد خارجية قد يترتب عليها تعجيل الصراع العنيف، ولاسيما في المناطق الخاضعة لمسؤولية القيادة المركزية الأمريكية والقيادة الأمريكية في إفريقيا.

في الختام، يمكن القول إن توجه الصين نحو إنشاء قواعد عسكرية بحرية في الخارج، يُعد تحولاً نوعياً في الاستراتيجية العسكرية لبكين، ويأتي في سياق طموحاتها الساعية إلى التحول إلى قوة عظمى، بجانب التقليل من الفجوة الكبيرة بينها وبين الولايات المتحدة فيما يتصل بالقواعد العسكرية، والاستعداد لأية مواجهة مستقبلية مُحتملة مع واشنطن بشأن تايوان؛ في ضوء ما سيترتب على هذا التوجه من تزايد النفوذ السياسي والعسكري للصين، وبالتالي مكانتها العالمية، وهو الأمر الذي لن يكون محل ترحيب أو قبول من جانب الولايات المتحدة، والتي ستتجه إلى إعاقته بشتى السُبل، لكي لا تفقد مكانتها المهيمنة على النظام الدولي.