مرّ على الانقلاب الذي تمّ في النيجر يوم 26 يوليو الماضي قرابة الشهر، ولا تزال مآلاته ومساراته غير واضحة. وتقوم مجموعة "إيكواس" بالتهديد بعملية عسكرية، فيما القيادة العسكرية المنقلِبة على الرئيس بازوم تتقدم في تنفيذ برنامجها، متجاهلة بصورة شبه تامة مطالب المجتمع الدولي والإقليمي، الذي وإن أجمع على ضرورة العودة إلى الوضع الدستوري السابق، ورفض الانقلاب، فإنه يختلف في أساليب وأدوات معالجة الوضع الراهن. وعلى الجانب الآخر، تواجه البلاد تهديدات أمنية تتّسع وتتنامى وتيرتها مع الأيام؛ ولذلك تستعرض هذه الورقة مخاطر ورهانات أيّ عملية عسكرية، وتطوّر الموقفَيْن الدولي والإقليمي من الانقلاب، والتهديدات المختلفة التي تواجه النيجر في حال وصلت المفاوضات والمشاورات إلى مأزق سياسي، فضلًا عن استعراض السيناريوهات والمخرَجات المتوقَّعة.
أولًا- مخاطر التفكك تهدّد وحدة النيجر واستقراره
بداية، إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل تحتمل دولة النيجر تبعات تدخلات عسكرية خارجية، أو حربًا أهلية بدأت ملامحها تتّضح، ولاسيما في شمالي البلاد، وفي إقليم أغاديس خاصة؟ وفي ظل الجمود السياسي، وتعطُّل الحوار بين الطغمة العسكرية الحاكمة في نيامي، ومجموعة "إيكواس"، قد وجدت البلاد نفسها مهدَّدَة باندلاع أزمة تهدّد الوحدة الوطنية، واقترنت مع تحرُّكٍ للجبهات القتالية المفتوحة مع الحركات الإرهابية، وخاصة في منطقة المثلث الحدودي.
1- تأسيس مجلس المقاومة من أجل الجمهورية: حركة تمرّد جديدة
إن ظهور حركات مسلَّحة لمقاومة الانقلاب أمرٌ لم يكن يتوقَّعه الانقلابيون؛ فإلى جانب العزلة الاقتصادية التي فرضتها مجموعة "إيكواس" على النيجر، والعزلة السياسية التي فرضها الاتحاد الإفريقي بتعليق عضوية النيجر في مختلف مؤسساته، ستتضاعف تبعاتها مع الاستنزاف العسكري، الذي يستتبعه بروز حركات مقاومة مسلَّحة، تعمل من أجل إعادة فرض النظام الدستوري السابق على الانقلاب، وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى وضعه الدستوري، واستعادة آليات ممارسته لمسؤوليات رئاسة الجمهورية، وكانت البدايات من المناطق الواقعة شمالي البلاد، التي لها تاريخ في المقاومة للحكم المركزي في نيامي لأسباب إثنية.
وفي الثامن من أغسطس الماضي، تمّ تأسيس "مجلس المقاومة من أجل الجمهورية"، من طرف الوزير الطوارقي السابق، غيسا آغ بولا، وكان هذا الزعيم الطوارقي، الذي ينحدر من منطقة تقع شمالي النيجر، قد قاد تمرُّد الطوارق ضد السلطة المركزية الحاكمة في نيامي في التسعينيات من القرن الماضي (1991-1995)؛ وعلى إثْرِها، توصَّل إلى اتفاقيات سلام بعد مفاوضات دارت بين الجبهة التي يتزعمها (جبهة تحرير آير وأزواد)، والحكومة المركزية. وكان من تبعات اتفاقية السلام، دخول غيسا آغ بولا في الحكومة، إثْرَ اتهامه بالتورط في اغتيال أحد السياسيين النيجريين، وإيقافه ثم مغادرته إلى المنفى، ثم عاد ورفع السلاح في وجه الحكومة، ابتداءً من عام 2007 إلى عام 2010؛ وعلى إثْرِ سقوط الرئيس الأسبق، محمد طنجة، وانتخاب، محمد يوسف، رئيسًا عام 2010، عاد ودخل من جديد ضمن الفريق الحكومي.
وقد أعلن مجلس المقاومة من أجل الجمهورية في بيان نشره يوم 8 أغسطس الماضي، أنه يساند قرارات مجموعة إيكواس وحلفائها الدوليين، وأنه "سوف يتخذ جميع الوسائل اللازمة للقضاء على هذه الممارسة الغادرة، المتمثِّلة في التشكيك بخيارات الشعوب، من قِبَل جنود منحرفين وغير مسؤولين". وكان غيسا آغ بولا أحدَ أبرز مستشاري الرئيس محمد يوسف، ثم وزير دولة في ظل رئاسة محمد بازوم. وفي حال تمّ اللجوء الفعلي إلى تمرُّد مسلح، سيجدُ من القوى الدولية والإقليمية دعمًا أكيدًا.
2- تأسيس "جبهة التحرير الوطنية".. تحرُّك مسلح لإثنية التبو
ظهرت حركة ثانية مناهضة للانقلابيين، وداعية للعودة إلى الوضع الدستوري، ومساندة الرئيس بازوم. ويتزعَّم هذه الحركة القائد محمود صلاح برومي، وهو الذي كان يقود التمرد المسلح تحت لافتة "اتحاد القوى الوطنية من أجل إعادة تأسيس الجمهورية" في أقصى الشمال الشرقي منذ أغسطس 2020، والذي كان قد تخلّى عن العمل المسلَّح في مايو 2023، وتبنّى العمل السياسي السِّلمي، على إثْرِ محادثات في العاصمة نيامي، مع الرئيس محمد بازوم. وفي إثْرِ انقلاب 26 يوليو الماضي، اتجه محمود صلاح نحو العودة إلى المقاومة، ومعارضة الانقلابيين، فقام بتأسيس حركة جديدة أَطلق عليها اسم "جبهة التحرير الوطنية"، وخاصة أن الحركة السابقة حدث فيها انشقاق بين مؤيِّد للانقلاب ومعارِض له.
وينحدر محمود صلاح من إثنية التبو، التي تتوزع أماكن استيطانها على الحدود بين ليبيا والنيجر وتشاد والسودان، وهو ما يثير مخاوف هذه الدول من عودة نشاط حركات مسلَّحة، يمتد نشاطها إلى خارج حدود النيجر، وخاصة أن (السودان، وليبيا، وتشاد)، تعيش حروبًا داخلية، يتداخل فيها التعاون بين حركات التمرد ذات الطابع الإثني العابرة للمناطق الحدودية، وأحيانًا تنسيقها المباشر أو غير المباشر مع بعض الحركات الإرهابية، وجماعات الإجرام المنظَّم العابر للحدود، وكذلك في التهريب والاتِّجار بالبشر، عبر تسهيل الهجرة غير النظامية من دول جنوب الصحراء إلى دول المغرب العربي، ومنها إلى أوروبا.
إن نشاط حركات التمرد هذه سوف يسهم بدوره في إيجاد حالة استنزاف للجيش النيجري، وحالة فراغ أمني قد تمهّد لفوضى عارمة، وفقدان السيطرة الحكومية على أقاليم واسعة، وخاصة في حال تطوَّر الوضع إلى تدخُّل عسكري خارجي يستهدف السلطة المركزية.
3- خطر التحوّل إلى دولة فاشلة.. ليبيا أنموذجًا
إن ميزان القوى العسكري في المنطقة بين دول إيكواس، والدول التي تساند الطُّغمة العسكرية في نيامي، مثل: مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، هو في صالح عملية عسكرية، لإنقاذ الرئيس بازوم، والإطاحة بسلطة الانقلابيين، بل لا يمكن حتى المقارنة بين ما تمتلكه نيجيريا وحدها من قوة عسكرية بشرية وعتاد حربي، بما تمتلكه دول صغيرة وضعيفة، مثل: بوركينا فاسو، ومالي، أو النيجر. علاوة على أن هذه الدول الأخيرة، لم تحقق نتائج ملموسة وحاسمة في مواجهتها لجماعات إرهابية غير محترفة، مهما كانت خبرتها القتالية، التي اكتسبتها طوال السنوات الماضية في معاركها مع القوات النظامية؛ لذلك فإن تعبئة الجيش النيجري لكل قواته، في وجه أيّ تدخُّل عسكري خارجي، سيفتح المجال حتمًا أمام تحرُّك الجماعات المسلحة العاملة في الشمال والغرب، والجنوب الشرقي للنيجر. علما بأن الجيش النيجري كان يقاتل هذه الجماعات بالتعاون مع الجنود الفرنسيين (1500 عنصر)، وجنود أمريكان (1000عنصر)، وغيرهم من الجنود الأوروبيين من الألمان والإيطاليين والبلجيكيين، الموجودين على أراضي النيجر. ولم يحقق نتائج حاسمة، برغم استفادته من الدعم والتدريب لعناصره من قبل ضباط غربيين. وإذا كان وضع الجيش النيجري أفضل نسبيًّا من نظيره في بوركينا فاسو، فإن انشغال الجيش النيجري بحماية الأمن في نيامي، أو مواجهة تدخُّل خارجي، سيدفعه نحو سحب قواته من بعض الجبهات، وهو ما سيُحدِث فراغًا أمنيًّا، سوف تستثمره الجماعات الإرهابية لتوسيع نطاق سيطرتها، كما أن حدوث انشقاقات محتمَلَة داخل الجيش النيجري، قد يؤدي إلى انهيار شبه تام له، وما يستتبع ذلك من حدوث فشل تامّ في مختلف مؤسسات الدولة.
ثانيًا- احتمالات ومخاطر التدخل العسكري للإيكواس
1- برغم الإقرار بصعوبة التدخل العسكري ضد الانقلابيين فإنه يبقى خيارًا واردًا
إن التلويح بعملية عسكرية ضد الطُّغمة العسكرية في نيامي، يمثّل في الحقيقة أداة ردع وإخضاع؛ فمجموعة إيكواس، من خلال التلويح بعملية عسكرية وتعبئة قوة الاحتياط التابعة لها، تودُّ في الحقيقة جرَّ الانقلابيين إلى القبول بالجلوس إلى مائدة التفاوض معها، ومن ثم فَرْض شروطها عليهم. وإجبارهم على عدم تبنّي خيار مَالِي أو بوركينا فاسو، المتمثِّل بالمماطلة، وإطالة أَمَدِ المرحلة الانتقالية، من أجل العودة إلى وَضْع دستوري من جهة، والعمل على إقامة نظام يحكمه العسكر بالتعاون مع أطراف مدنيّة من جهة أخرى.
2- تجارب تدخُّل منظمة إيكواس السابقة
كانت منظمة إيكواس قد تدخَّلت سابقًا في حالات تطلَّبت عملًا عسكريًّا؛ إذ أسَّسَت إيكواس -التي أنشئت عام 1975 بلاغوس- "مجموعةَ مراقبة وَقف إطلاق النار التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" والتي يُطلَق عليها اختصارًا " ECOMOG"، من أجل تأمين الاستقرار السياسي، بصفته شرط الازدهار الاقتصادي، الذي هو الهدف الرئيسي الذي أنشئت من أجله إيكواس. وهي الذراع العسكرية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا. ولعل أول عملية عسكرية لها كانت أثناء الحرب الأهلية التي اندلعت في ليبيريا عام 1990؛ حيث ظهرت قوة "إيكوموغ" (ECOMOG) بقرار من الرئيس النيجيري، إبراهيم بابانجيدا، التي شاركت فيها مجموعة دول هي: نيجيريا ومالي والسنغال وغانا وغامبيا وسيراليون. وكان التدخل الثاني في سيراليون عام 1998 ضد الانقلاب العسكري، الذي وقع على الرئيس أحمد تيجان كبّه. والتدخل الثالث في عام 1999، أثناء الحرب الأهلية في غينيا بيساو، وذلك لضمان اتفاقية سلام بين الأطراف المتقاتلة، وكان التدخل بطلب من الرئيس جو بيرناردو فييرا (Joao Bernardo Viera)، ثم في عام 2003، التدخل في ساحل العاج إلى جانب القبعات الزرقاء التابعة للأمم المتحدة، وقوة فرنسية، ثم تحولت قوة إيكواس إلى قوة احتياط عام 2017.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن تدخُّل القوة العسكرية للإيكواس، كان يتم دائمًا بالتنسيق مع قوات تابعة للأمم المتحدة. واليوم يمكن القول: إن الأمر مختلف إلى حدٍّ كبير؛ فالتدخل العسكري قد يواجه عقبتين: الأولى، في دوائر صنع القرار على مستوى الاتحاد الأفريقي. والثانية، في مجلس الأمن الدولي؛ حيث يمكن استخدام الفيتو من طرف الصين أو روسيا؛ لمنع أيّ عملية عسكرية من هذا القبيل. أما الاتحاد الأفريقي، فقد تعترض دول فيه مثل الجزائر وغيرها من الدول، وتُحبِط أيّ عملية عسكرية، وخاصة أن مجلس السلم والأمن للاتحاد الأفريقي، رفض استخدام القوة. كما قد تتردد بعض دول الإيكواس نفسها، فوحدة موقف الدول الأعضاء ليست مضمونة.
3- هشاشة موقف مجموعة إيكواس
علاوة على الدول الثلاث الرافضة لأيّ عمل عسكري في النيجر (مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا)، فقد ظهرت خلافات في برلمان إيكواس؛ حيث ارتفعت بعض أصوات النواب المعارِضة للعقوبات، ولأيّ عمل عسكري لا يمكن التحكم في مآلاته. ويدعو البرلمان إلى المواصلة في انتهاج الخيار الدبلوماسي، علاوة على أن مجلس الشيوخ والمعارضة في دولة نيجيريا، تتّجه مواقفهما نحو رفض الخيار العسكري. وفي المقابل، فإن بعض دول الجوار مساندة للانقلاب، أو تقف على الحياد، ونذكر هنا موقفَ كلٍّ من الجزائر وتشاد، وكلتاهما من الدول المجاورة الرافضة للتدخل العسكري، إلى جانب موقف دول ساحل خليج غينيا، التي تخشى منذ بضع سنوات زحف حركات الإرهاب من الشمال باتجاه أراضيها. ونجد من بين هذه الدول: التوغو، وغانا، وبِنين وغيرها، وهذا التخوف يظل قائمًا، سواء حدث تدخُّل عسكري في النيجر، أو من دونه؛ فالتخوف يتمثل بتحوُّل النيجر إلى دولة فاشلة، مستباحَة أراضيها وحدودها من كل جانب، من طرف الجماعات الإرهابية، وجماعات الإجرام المُنظَّم.
ومهما يكن من أمر، فإن العملية العسكرية التي تلوِّح بها مجموعة إيكواس، تتوقَّع بعض الدول المشاركة فيها، أن تدوم ثلاثة أشهر؛ فدولة ساحل العاج، التي أَبْدَتْ حماسة كبيرة للتدخل، على عكس تردُّد بعض الدول الأخرى للإيكواس، التي أمرت باتخاذ التدابير والاستعدادات الكافية ماليًّا وبشريًّا لِتَدَخُّلٍ تكون مدته 90 يومًا. ومثل موقف دولة ساحل العاج، نجد موقف السنغال، وبِنين، وغينيا بيساو، المتحمِّس أيضًا لِتَدخُّل الإيكواس العسكري. أما الدول الأعضاء في إيكواس، فإنها تتردد بخصوص المشاركة في عملية عسكرية تستهدف طغمة نيامي، وهي: التوغو، وغانا، وليبيريا، وسيراليون. لكنّ ذلك لا يمنع الصعوبات الميدانية التي قد تجدها أيّ عملية عسكرية، بريَّة كانت أو جويَّة.
4- صعوبات عملياتية للتدخُّل العسكري
إن القصر الرئاسي، حيث يمكث ويُحتَجَز الرئيس بازوم، موجود في قاعدة عسكرية في وسط مدينة نيامي، وتحيط به مباني الوزارات والمواقع السيادية؛ ما يجعل من الصعب جدًّا الوصول إلى الرئيس المحتَجَز، دون مواجهة مع العسكريين، وكذلك دون مواجهة مع ما يمكن أن تنظِّمه الطُّغمة العسكرية من حواجز بشرية، لإعاقة تقدُّم أيِّ رتلٍ عسكري تابع لقوات احتياط إيكواس نحو القصر الرئاسي. ويمكن للانقلابيين المراهنة على أحزاب المعارضة لبازوم، للحشد في العاصمة في حال انطلق التدخل العسكري، كما يمكن للحركة المسماة "م62" (M62)، التي دأبت منذ عام 2022 على التنديد ورفض الوجود العسكري الفرنسي في النيجر، أن تقوم بتعبئة الشارع لتواجِه - بدعم شعبيٍّ - أيَّ تقدم عسكري ضد الانقلابيين. وقد قامت هذه الحركة بتحريك جمهور غفير في شوارع العاصمة أكثر من مرة، منذ الانقلاب على الرئيس بازوم. وتتجه سلطة الانقلابيين إلى الاستفادة من الزخم الشعبي المؤيِّد لها، إلى تأسيس ما يشبه "الجيش الشعبي" أو الميليشيات المسلحة، عَبْرَ تجنيد المواطنين والأهالي بشكل تطوُّعي؛ للمشاركة في التصدي لأيّ قوات أجنبية تدخل الأراضي النيجرية من الحدود مع بِنين ونيجيريا.
يبقى تصوُّر عملية إنزال جوّي لتهريب الرئيس بازوم وإنقاذه، وتحييد قيادات الانقلابيين، لكنّ مثل هذه الخطة تتوقع أيضًا احتمالية مقتل محمد بازوم مباشرة، إثْرَ انطلاق العملية في الميدان، ومن جهة ثانية، تتطلب تَعَاوُنَ بعض قيادات الجيش الموجودة في المكان. وهذا أمر غير مُؤَمَّن، باعتبار التفاف كل القيادات العسكرية حول الانقلاب بعد 24 ساعة من حدوثه، لكن لا يُستبعَد أن تجد بعض القوى الغربية مساعدة من بعض القيادات العسكرية الميدانية، التي قد تتراجع عن تأييدها للانقلاب، عندما تتأكد أن العملية العسكرية أصبحت حتمية الحدوث. وفي حال اتجهت مجموعة إيكواس نحو تنفيذ عملية عسكرية لإنقاذ الرئيس بازوم، وتحييد قيادة الانقلابيين، فقد تجد دعمًا غربيًّا، وخاصة الدعم الفرنسي.
5- تَفكُّك الموقف الغربي من الانقلاب والتردد في دعم تدخُّل عسكري
في إثر الإطاحة بالرئيس بازوم، يبدو أن الموقف الدولي موحد في الإدانة، ورفض قبول الوضع الجديد، والمطالبة بالعودة إلى وضع دستوري، وإطلاق سراح الرئيس. لكن مع مرور الوقت، والتلويح بالتدخل العسكري لمجموعة "إيكواس"، وإصرار الانقلابيين على مواقفهم، بل واتخاذهم إجراءات تصعيديّة، فقد بدأ يظهر نوع من التردد حول تقديرات وتقييمات بعض الدول الغربية. وقد يكون الموقف الفرنسي هو الوحيد المُصِرّ على الدفع، لتدخُّل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا. أما بقية الدول الأوروبية، فقد اقتنعت باستحالة عودة نظام ما قبل 26 يوليو؛ لذلك يمكن الحديث عن انقسام داخل الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص، فنجد ترددًا ألمانيًّا واضحًا بخصوص دعم عملية عسكرية ضد الانقلابيين، كما تبحث ألمانيا في كيفية تأمين سحب قواتها الموجودة في مطار نيامي، العاملة ضمن القوة الدولية "مينوسما" التي انسحبت سابقًا من مالي.
6- الدلالات الجيوسياسية والاستراتيجية للموقف الأمريكي المهادِن
إن الولايات المتحدة، وهي أهم القوى الموجودة في النيجر والمنطقة بعد فرنسا، لم يكن لها سفير في نيامي، في الوقت الذي حدث فيه الانقلاب. وتعتبر المقاربة الأمريكية مختلفة عن المقاربة الفرنسية والأوروبية عمومًا، حتى وإن ساندت موقف إيكواس، وأعلنت رفضها للانقلاب، وطالبت بإعادة الرئيس بازوم إلى منصبه؛ فالولايات المتحدة تمتلك قواعدَ عسكريةً على الأراضي النيجرية، وتقوم بدور فعال في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل؛ لذلك تودُّ الحفاظَ على قواعدها التي استثمرت فيها كثيرًا، وذلك بصرف النظر عن اتجاهات تطور الأوضاع السياسية، ومهما كانت نوعية النظام الحاكم في نيامي. وقد أرسلت مبعوثتها "فيكتوريا نولاند" لمقابلة أركان الطُّغمة الحاكمة، في 7 أغسطس، لكنها أخفقت واكتفت بمحاورة بعض القيادات العسكرية العليا بدل رموز النظام الجديد. وخرجت بتقدير للموقف، مفاده صعوبة الوضع، والتفاف الجيش النيجري حول القيادة الانقلابية؛ لذلك عيَّنتْ إدارة الرئيس بايدن سفيرًا جديدًا لها في النيجر، في ظل وضع دستوري منعدِم، وحُكم طُغْمة عسكرية، ما رأى فيه البعض نوعًا من الاعتراف والقبول بالأمر الواقع، مع هاجس احتمالية تفاقم الوضع بفعل التصوّر الفرنسي للخروج من المأزق -الذي يميل إلى تدخُّل عسكري- وما يمكن أن ينتج عن فشل الخيار العسكري من خسارة الغرب لوجوده في النيجر وانفتاح الأخيرة على روسيا والصين باستبدال ولائها نحوهما.
وبرغم ذلك، فإن موقف الإدارة الأمريكية لا يبدو أنه موحَّد، بل هناك أيضًا خلاف بين الخارجية التي تدعم الحلول الدبلوماسية، وتأمُل في تطوِّر مسار الأحداث نحو استعادة الديمقراطية والحكم المدني، بعد فترة انتقالية وجيزة، وهذا الموقف يستبطن عدم إمكانية عودة بازوم إلى الحكم، وضرورة التعاطي مع الطُّغمة العسكرية الحاكمة اليوم. والموقف الثاني يمثله مستشار مجلس الأمن القومي، جيك سوليفان، الذي يدعم تدخُّلًا عسكريًّا. وفي كل الحالات، فإن إدارة الرئيس بايدن ترفض تقديم دعم مباشر أو لوجستي لأيّ تدخل عسكري، سواء كان فرنسيًّا أو تقوم به مجموعة "إيكواس". ومهما يكن من أمر، فإن الموقف الأمريكي حتى الآن يتمثل بتغليب الخيارات السِّلمية والدبلوماسية، مع التلويح بقَطْع المساعدات الأمريكية عن النيجر. لكن الأكيد أيضًا، أن هذا الموقف "المهادِن" في التعامل مع الحكم العسكري الجديد في نيامي، ناتجٌ عن قناعة لدى الإدارة الأمريكية، بأنه لا توجد لدى الجيش النيجري تغيُّرات أيديولوجية، قد تدفع نحو استبدال الوجود الغربي والعلاقات المتميزة مع أوروبا والولايات المتحدة، بحضور روسي، وتعاون مع مجموعة فاغنر، هذه القناعة خرجت بها المبعوثة الأمريكية للنيجر، ونائبة وزير الخارجية، فيكتوريا نولاند، في إثر مقابلتها مع رئيس هيئة الأركان الجديد الجنرال: موسى سلاو برمو، بتاريخ 7 أغسطس الماضي.
ومن جهة أخرى، تدرك الإدارة الأمريكية أن القيادات العسكرية العليا لها تحفُّظات على تدعيم العلاقات النيجرية-الغربية وتوسيعها، وخاصة منها الفرنسية في مكافحة الإرهاب، منذ أن وصل الرئيس بازوم إلى الحكم. وإطلاق يدها ميدانيًّا في التخطيط، وتنفيذ عمليات مكافحة الجماعات الإرهابية، باعتبار أن ذلك يؤدي في النهاية إلى تهميش دور الجيش النيجري. علاوة على أن الجيش النيجري لديه تخوّفٌ بأن توسيع التعاون بين النيجر والقوى الغربية في مجال مكافحة الإرهاب، يَشِي بوجود تقييم سلبي لدى النخبة السياسية الحاكمة في نيامي، حول مدى ومستوى قدرة الجيش الوطني في الانتصار على الجماعات المسلحة، ولعل هذا ما جعل بازوم، ومنذ وصوله إلى الحكم، يقوم بتسريح بعض القيادات العسكرية العليا.
كل هذه العوامل أدت إلى أن سادَ وانتشر تقدير لدى الإدارة الأمريكية، مفاده أن أيّ عملية عسكرية ضد الطُّغمة الحاكمة في نيامي، سيكون مصيرها الفشل، وبالتالي يتعين التوجُّه نحو المراهنة على حلٍّ دبلوماسي، ويبدو أن الإيكواس أيضًا مقتنعة به، وتعمل على فتح مفاوضات مع السلطة العسكرية الجديدة.
ثالثًا- آفاق الحل السياسي
إن الضغوط التي تُمارَس على الانقلابيين في نيامي، ومهما كانت مناوراتهم السياسية، ومنها تشكيل الحكومة، والامتناع عن استقبال وفود سياسية للإيكواس في البداية، ورَفْض التحاور مع المبعوثة الأمريكية: فيكتوريا نولاند، قد تُؤتي في النهاية نتائجَ إيجابية، تمنع أو تؤجّل التدخل العسكري، وذلك أن العقوبات الإقليمية والدولية التي فُرضت على النيجر، وإصرار إيكواس على الخيار العسكري، والتهديدات بتمدد الحركات الإرهابية، وتَرْك جبهة الشمال، قد يدفع ذلك قيادةَ الانقلابيين نحو البحث عن مخرج سِلمي، وهو ما تمّ على إثْرِ مقابلة وفد الإيكواس، الذي زار نيامي يوم السبت 19 أغسطس الماضي. وليس أمام هذه القيادة العسكرية من حلٍّ سوى اقتراح صيغة من الحوار الوطني، التي قد تُحدّد في البداية نهايته الزمنية، ولكن قد تكون استراتيجية الطُّغمة الانقلابية المماطلة، وتمديد المرحلة الانتقالية لترتيب وضع جديد يكون في صالحها، وتخرج النخبة السياسية الحاكمة سابقًا خارج دوائر النفوذ.
إن الدخول في مرحلة انتقالية تنتهي بتسليم السلطة لحكومة مدنية، وتنحّي القيادة العسكرية عن الحكم، هو الخيار الأسلم. وقد يتجه الاهتمام نحو وضع دستور جديد، ثم تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، قد تتحكم في مساراتها ومخرجاتها القيادةُ العسكرية الحالية، وقد تُفضي إلى استبعاد النخبة السياسية لنظام محمد يوسف، وخليفته محمد بازوم عن الحكم، هذا المسار للأحداث، قد يمثّل المَخرج الآمن والمقبول للقيادة العسكرية الحاكمة اليوم، وللإيكواس أيضًا، لكنّ الخلاف سيكون حول المدّة الزمنية للمرحلة الانتقالية.
أثبتت التجارب الشبيهة في المنطقة، مثل: مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، أن هذا المسار لا يخدم سوى الانقلابيين، وأنهم سيتحكمون في آليات الانتقال السلمي، وبالتالي في مخرجاته، ولا يمكن لمجموعة إيكواس والاتحاد الأفريقي والدول الغربية، سوى القبول بالانقلاب، مع فَرْض عقوبات اقتصادية لا يتضرر منها سوى الأهالي.
ختامًا
وفي حال بقاء الوضع على ما هو عليه الآن، واستمرار القيادة الانقلابية في السلطة لمدة زمنية طويلة، وتوصُّلها إلى توافقات مع الدول الغربية بالإبقاء على القواعد العسكرية والتعاون الأمني، والحفاظ على المصالح الغربية، والالتزام بعدم استقدام مجموعة فاغنر الروسية، للحلول محل القوات الغربية في مكافحة الإرهاب؛ حينها سيتم القبول بالنظام العسكري الجديد، والتعامل معه، بصفته أمرًا واقعًا، لكن هل تقبل مجموعة إيكواس هذه المرّة بما حدث سابقًا في مالي، وخيَّبَ آمالها في إمكانية العودة إلى نظام مَدَني ودستوري لا يقع تحت سلطة العسكريين وإشرافهم؟
وفي النهاية يمكننا القول، إن القبول والخضوع للأمر الواقع، قد يكون بمثابة الإشارة إلى العسكر في دول أخرى مجاورة؛ للانقلاب على الأنظمة المدنيَّة الحاكمة اليوم في دول مجموعة إيكواس، وعليه، فهل تتحرك قوة احتياط إيكواس لتنفيذ تدخُّلٍ عسكري قد تكون تداعياته الأمنية والجيوسياسية كارثية على المنطقة برمَّتها؟