لا تزال منطقة بحر الصين الجنوبي تُشكِّل واحدة من البؤر المشتعلة عالمياً؛ نظراً إلى النزاعات التاريخية الممتدة بين الدول المتشاطئة على البحر، وعدم حسم هذه النزاعات. ولقد عادت هذه النزاعات إلى الواجهة مجدداً خلال الأسابيع القليلة الماضية مع المُناوشات التي وقعت بين الصين والفلبين؛ بسبب توجيه خفر السواحل الصيني، يوم 6 أغسطس 2023، مدافع مياه إلى زورق فلبيني كان ينوي إيصال إمدادات إلى جنود في جزيرة سيكند توماس المتنازع عليها التي تسيطر عليها مانيلا في جزر سبراتلي. الأمر نفسه تكرر في اليوم التالي بعدما اعترضت بكين عدة سفن لخفر السواحل الفلبينية؛ بسبب تجاوزها المياه المُتاخمة في جزر نانشا دون أخذ موافقة مُسبقة، مُعتبرةً ذلك تعدياً ينبغي التصدي له، وأن سيادتها على جُزر نانشا والمياه المُحاذية لها، ومنها هذه الجزر، ليست محل جدال.
توترات متزايدة
لطالما اعتُبرت منطقة بحر الصين الجنوبي بمنزلة حقل ألغام جيوسياسي في إطار التنافس المُحتدم بين الصين وبين بعض دول جوارها من ناحية، وفي إطار التنافس بين الصين وبين الولايات المتحدة وبعض حلفائها في المنطقة من ناحية أخرى؛ فهي أقرب إلى خط صدع دقيق يحوي الكثير من الاضطرابات والصراعات الكامنة (Latent conflict) التي لم تَطْفُ بعد على السطح. وفي هذا الصدد، أظهرت الفترة الماضية تصاعداً كبيراً في حجم التوترات بمنطقة بحر الصين الجنوبي. ويمكن تناول أهم أبعاد هذه التوترات على النحو الآتي:
1- مُناوَشات مُتكررة بين قوات خفر السواحل الصينية والفلبينية: خلال الأشهر القليلة الماضية، شهد بحر الصين الجنوبي عدة مُناوشات بين الصين والفلبين؛ ففي فبراير الماضي، قالت قوات خفر السواحل الفلبينية إن سفينة صينية وجهت “أشعة ليزر” على سفينة تابعة لها كانت تدعم مهمة لإمداد قوة فلبينية في الممر المائي المُتنازع على أجزاء منه؛ ما أدى إلى إصابة طاقمها بالعمى المؤقت. وبعدها بشهرين فقط، أكدت قوات خفر السواحل الفلبينية مجدداً دخولها في مواجهة ضد سفن صينية قامت بــ”مُناورات خطيرة” على بُعد 45 متراً تقريباً من سفينة فلبينية، وأن سفينتين أُخريين نفذتا “تكتيكات عدائية”؛ ما شكَّل “تهديداً كبيراً على سلامة وأمن السفينة الفلبينية وطاقمها”.
2- الصدام الدبلوماسي بين بكين ومانيلا: استدعت المناوشات بين بكين ومانيلا صداماً دبلوماسياً بين الطرفَين؛ إذ روَّج كلٌّ منهما لروايتَين مُتناقضتَين لتفسير المُناوشات الأخيرة. وتقول الرواية الصينية إن إبقاء مانيلا جنوداً وعِتاداً في جزيرة “أيونجين” هو عمل غير مشروع، ومن ثم لن تسمح لها بإيصال إمدادات إلى هؤلاء الجنود أو البقاء طويلاً في عرض البحر.
أما الرواية الفلبينية، فترى أن جزيرة “أيونجين” المتنازع عليها جزيرة فلبينية، من الطبيعي أن تُمارس سيادتها عليها، وألَّا تسحب قوتها ولا السفينة الراسية بمقربة منها منذ ربع قرن، وعلى ذلك يكون اعتراض قوات خفر السواحل الصينية لأيٍّ من زوارقها هو عمل غير مشروع، استوجب استدعاء السفير الصيني لنقل احتجاج دبلوماسي شديد اللهجة.
3- مُطالبات مُتجددة بالسيادة في المنطقة: تُطالب أغلب دول جوار الصين بالسيادة على بعض الجزر والأراضي البرية في مُحيط بحر الصين الجنوبي؛ حيث تتمسك فيتنام بشدة بالسيادة على جزر باراسيل وسبراتلي. والفلبين هي الأخرى تتمسك بالسيادة على جزيرة أيونجين بحكم قربها الجغرافي الشديد منها.
كما تُطالب ماليزيا وبروناي بأراضٍ برية في بحر الصين الجنوبي تقولان بأنها تقع ضمن مناطق الاستبعاد الاقتصادي الخاصة بهما على النحو المُحدد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. أما بالنسبة إلى الجزر فلا تُطالب بروناي بأيٍّ من الجزر المُتنازع عليها في مُقابل مُطالبة ماليزيا بعدد صغير من الجُزر في سبراتلي، في حين أن الصين تتمسك بأحقيتها الكاملة على مُجمل الجزر والأراضي البرية الواقعة في المنطقة، مُبررةً ذلك بأن حقها قديم يعود إلى قرون ماضية؛ عندما كانت سلاسل جزر باراسيل وسبراتلي جُزءاً لا يتجزأ من الأُمة الصينية.
4- تزايد المناورات العسكرية في المنطقة: شكلت المناورات العسكرية المشتركة ملمحاً مهماً من ملامح التوتر في منطقة بحر الصين الجنوبي خلال الشهور الماضية؛ ففي منتصف أبريل الماضي، جرت مُناورات عسكرية واسعة النطاق بين الولايات المتحدة والفلبين وأُستراليا؛ مُناورات هي الأكبر من نوعها، ضمت أكثر من 17 ألف جندي. تلك المناورات رأتها الصين مُهددة للأمن والسلم الإقليميَّين؛ لكونها أدخلت الولايات المتحدة في مياه آسيوية خالصة، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من احتمالية قائمة باندلاع مواجهات عرضية بسببها.
وفي يوم 25 أغسطس 2023، أجرت القوات الفلبينية والأسترالية مناورات عسكرية في قاعدة بحرية على بعد نحو 240 كيلومتراً شرق سكاربورو شول، بالقرب من بحر الصين الجنوبي. وقد صرح الرئيس الفلبيني “فرديناند ماركوس” بأنه “نظراً إلى العديد من الأحداث التي تشهد على مدى حساسية المنطقة، فإن هذا النوع من التدريبات وهذا النوع من التعاون الاستراتيجي الوثيق بين الدول في المنطقة مهم للغاية … وهو الأمر الذي يُعتبَر أحد المكونات المهمة لدى استعدادنا لأي احتمال”.
5- تصاعد الاحتكاكات بين القوى الكبرى: شهدت الفترة الماضية تزايد الاحتكاكات بين القوى الكبرى في منطقة البحر الصين الجنوبي، وهو الأمر الذي فاقم مؤشرات التوتر هناك. أحد النماذج الرئيسية على ذلك هو ما جرى في 26 مايو 2023؛ حينما اتهمت القيادة الأمريكية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ طائرة مقاتلة صينية من طراز J-16 باعتراض “عدواني بلا داعٍ” لطائرة استطلاع مشتركة أمريكية من طراز RC-135 Rivet في المجال الجوي الدولي فوق بحر الصين الجنوبي.
وبينما أكدت القيادة الأمريكية أن الطائرة الأمريكية كانت تقوم بعمليات سلمية وروتينية في المجال الجوي الدولي وقت وقوع الحادث، اتهم الجيش الصيني الطائرة بـ”التدخل المتعمد” في منطقة التدريب الصينية. ودعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينج الولايات المتحدة إلى “وقف مثل هذه الاستفزازات الخطيرة”، وأكد أن “الصين ستواصل اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع بحزم عن سيادتها وأمنها”.
6- استمرار غياب التوافق على آليات تسوية النزاعات: رغم تجدد الحديث عن أهمية حل القضايا الآسيوية من دون إدخال أي لاعبين خارجيين في المُعادلة، فإن تسوية قضية الأراضي والجزر المتنازع عليها بالمنطقة، واجهت العديد من التحديات، كان أهمها غياب التوافق على آلية التسوية. الصين تُفضِّل إجراء مُحادثات فردية، في حين ترى بعض دول الجوار أن نفوذ الصين ومكانتها الحالية يجعلان كفتها راجحة
أثناء إجراء المباحثات، ومن ثم تطرح أن تكون المُحادثات جماعية أو شبه جماعية، كأن تُجرَى بين الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان ASEAN)، وهو ما تُعارضه الصين بالنظر إلى اختلاف مطالب ومصالح كل دولة على حدة، فضلاً عن عدم توافق “آسيان” نفسها على الآلية الأنسب للتسوية. ومع أهمية أن يؤخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لدول المنطقة، فإن “آسيان” ستخشى على مصالحها في حال دخولها طرفاً في تلك المُحادثات.
7- قُدرة الصين على التعديل في البيئة البحرية بالمنطقة: يُساعد على رسوخ الموقف الصيني في قضية بحر الصين الجنوبي، وبالتبعية تأخير الوصول إلى تسوية مُرضية لعموم الأطراف؛ مشاركتها بفاعلية في صياغة اتفاقية الأُمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) والتصديق عليها، كما يتضمَّن النظام القانوني الداخلي للصين حُزمة من القوانين ذات الصلة، مثل قانون البحر الإقليمي والمنطقة المُتاخمة، وقانون المنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ) والجرف القاري؛ ما يساعدها على إحكام السيطرة على مُجمل الممر الاستراتيجي، وتبعاً لذلك يساعدها على التعديل في خصائص البيئة البحرية في هذه المنطقة بتطبيق رؤيتها بخصوص تقييد المرور البريء وحُرية الملاحة، وهو ما يمنحها قدرة أكبر على إحكام السيطرة على المنطقة يوماً بعد يوم.
مُستقبل معقد
في ضوء زيادة حدة التوترات وتعثُّر مساعي تسوية النزاعات البحرية العالقة بالمنطقة، هناك عدة سيناريوهات يمكن تحقُّقها، وهي السيناريوهات التي ترتبط بعدد من العوامل والمحددات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1- استمرار المساعي الصينية للسيطرة على الإقليم: بالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية للممر المائي وما يدرُّه من دخل سنوي هائل يتخطَّى حاجز 5 تريليونات دولار، وكون الصين على رأس المُستفيدات من حركة التجارة الدولية المارَّة به بنحو 874 مليار دولار، فضلاً عن نقل 60% من إجمالي تجارة الصين عبر البحر؛ فإن بكين تنظر إلى الممر المائي وإجمالي نقاط التمركز التي تُسيطر عليها فيه باعتبارها قضية حيوية ستدفعها إلى إحكام قبضتها على المنطقة، فضلاً عن زيادة فُرص الوصول إلى مصايد الأسماك بالمنطقة، التي توفر سبل عيش لملايين من مواطنيها، في إطار سعيها لتحقيق الأمن الغذائي، فضلاً عن توفير العمالة في منطقة تضم أكثر من نصف سفن الصيد في العالم.
وتُراهن بكين، على المدى الطويل، على إمكانية الوصول إلى الموارد الطبيعية بالمنطقة لتلبية الحاجة المتزايدة إلى النفط والغاز الطبيعي. وأخيراً فإن بحر الصين الجنوبي بالنسبة إليها هو ساحة قتال مُحتملة، تُراهن على أن ترفع في نطاقه ترسانتها البحرية إلى أقصى حد ممكن لمواجهة التهديدات الخارجية المتزايدة. ويُلاحَظ هنا أن الصين تواصل استخدام بعض الأدوات في علاقاتها مع دول المنطقة، مثل تبنِّي سياسة الإنكار المعقول، وتنفيذ بعض العمليات الرمادية (grey zone operations) للحصول على مكاسب ومميزات تحت غطاء شرعي.
2- الدعم الأمريكي–الأوروبي لبعض دول المنطقة: لوحظ خلال السنوات الماضية أن الدول الغربية مستمرة في تقديم الدعم لبعض دول المنطقة، وخاصة الفلبين. وبالرغم من أن واشنطن قد أعربت هي والاتحاد الأوروبي وأستراليا واليابان عن دعمها للفلبين في مناوشاتها الأخيرة مع الصين، وأكدت في الوقت نفسه أنها مُلزمة بالدفاع عن حليفها الأقدم إذا ما تعرضت السفن والقوات الفلبينية لهجوم مُسلح في بحر الصين الجنوبي؛ فإنه يصعب عملاً أن تشهد المنطقة أي مواجهات عسكرية في الفترة الحالية، بالنظر إلى القدرات العسكرية الهائلة التي باتت الصين تمتلكها، وبالنظر كذلك إلى الثمن الباهظ الذي سيتكبَّده جميع الأطراف في حال الإقدام على هذا المستوى غير المحسوب من التصعيد، خاصةً أن انعكاسات الحرب في أوكرانيا لا تزال تُلقِي بظلالها على الساحة الدولية.
3- التغيُّر في ديناميات العلاقة بين الصين ودول جوارها: لا توجد وتيرة واحدة لعلاقة الصين بدول جوارها، وهو ما سيدفعها – في ظل تنامي التوترات بالمنطقة – إلى إعادة تأطير ديناميات علاقتها بها. الصين لم تستغرق وقتاً لكي تُفعِّل من هذا الخَيار؛ فبعد أيامٍ قليلة من المناوشات الأخيرة مع الفلبين، قام وزير خارجيتها الجديد وانج يي بجولة خارجية في جنوب شرق آسيا، متوجهاً إلى كل من سنغافورة التي تمثل مركزاً مالياً مهماً بالمنطقة، ولها علاقات جيدة مع كُلٍّ من واشنطن وبكين، وماليزيا وكمبوديا.
ويمكن رؤية التحرُّك الصيني في هذا الصدد باعتبار أن البلدان الثلاثة أعضاء في رابطة دول آسيان، ومن ثم عينها ستكون على تحسين صورتها أمام الرأي العام الداخلي لتلك البلدان، خاصةً في ظل استخدام دول المنطقة استراتيجية المُحاذاة المُتعددة (Multi-Alignment) في تعامُلها مع القوى الكُبرى الإقليمية والدولية على حد سواء، بحيث لا يجعلها تنحاز بصورة دائمة إلى طرف على حساب آخر.
4- إمكانية إدارة النزاعات البحرية بالمنطقة من خلال مدونة سلوك: في ظل تعثر مساعي التسوية النهائية للنزاعات البحرية بالمنطقة، من المُرجح أن يشهد خَيار “إدارة النزاعات البحرية بصورة بناءة” رواجاً في منطقة بحر الصين الجنوبي من خلال مدونة سلوك فعالة ومتوافق عليها بين الصين ودول جوارها؛ وذلك في ضوء التقدم الطفيف المُحرز في التفاوض والوصول إلى مبادئ توجيهية حتى هذه اللحظة بين الصين ورابطة دول آسيان، وهو ما تميل إليه الصين كما جاء على لسان وزير خارجيتها عقب المناوشات الأخيرة؛ بأنها تأمل الوقوف مع الفلبين على أرضية مُشتركة في وسط الطريق لكي يجد الطرفان طريقة فعالة لإدارة المشهد البحري في المنطقة. ويأتي ذلك من خلال المشاركة الفعالة للفلبين في مفاوضات مدونة السلوك تمهيداً لإبرامها بعد التوافق على بنودها وآلية تنفيذها، حتى لو تسببت المناوشات الأخيرة في رفع مطالب الفلبين وطلب ضمانات أكثر من أي وقت مضى.
5- حدود دعم واشنطن تدابيرَ بناء الثقة في المنطقة: لكي تستطيع الولايات المتحدة أداء دورها بفاعلية في هذه القضية المحفوفة بالمخاطر، يتعيَّن عليها دعم تدابير الثقة والمفاوضات الجارية بشأن مدونة السلوك في بحر الصين الجنوبي، بعدما توصَّلت الصين ورابطة دول آسيان إلى مبادئ توجيهية بخصوصها، إلا أن العقبة التي تقف أمام مواصلة الطريق في هذا الصدد هو تفضيل رابطة دول آسيان أن تتبع مدونة السلوك القانون الدولي، بما في ذلك قانون البحار، وهو ما يضع التزاماً أمام واشنطن بالتصديق على اتفاقية الأُمم المتحدة لقانون البحار لرفع مصداقيتها الدبلوماسية.
إجمالاً، لا يُتوقع أن تتنازل الصين عن مُكتسباتها في الممر المائي الاستراتيجي إلا بالقدر الذي تُمليه الضرورة، خاصةً بعدما أصبحت قوة عُظمى لا يُستهان بها، في ظل اهتزاز النظام العالمي منذ نهاية فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والإيذان حالياً بنظام عالمي جديد مُتعدد الأقطاب؛ لهذا السبب لم يجد حكم محكمة التحكيم الدولية الدائمة (PCA) صدى في عام 2016 حينما قضى بأن المزاعم الصينية بملكية هذه المناطق لا أساس لها، وهو ما اعتبرته الصين كأن لم يكن؛ لإشكاليات تخص تشكيل هيئة المحكمة، فضلاً عن عدم قبولها المسبق بآلية التحكيم آليةً مُلزمةً.
في المُقابل، سيقع على عاتق دول المنطقة تقديم المزيد من الانفتاح في المفاوضات الجارية بخصوص مدونة السلوك المزمع التوصل إليها قريباً، فضلاً عن احتمالية بناء تحالفات بين دول المنطقة بصفة عامة، وبين رابطة دول آسيان بصفة خاصة؛ وذلك لتقوية الموقف التفاوضي في المباحثات الجارية على مدونة السلوك من ناحية، ولتفويت الفرصة أمام مناوشات جديدة قد تتطور يوماً ما إلى مستوى المواجهات المُباشرة من ناحيةٍ أخرى.