• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
قراءات

أعلنت السلطات الروسية، في 23 أغسطس 2023، مقتل يفجيني بريجوجين قائد مجموعة فاجنر الأمنية الخاصة، عقب تحطُّم طائرة روسية خاصة كان بريجوجين على متنها قرب قرية كوجينكينو في منطقة تفير شمال غرب موسكو، خلال توجهها من العاصمة موسكو إلى مدينة سان بطرسبرج، وهو ما يُسلِّط الضوء على تساؤلات عديدة بشأن تأثير غياب بريجوجين على نشاط فاجنر في أفريقيا، ومستقبل دورها خلال الفترة المقبلة. ومن المفارقات أن هذه التساؤلات تتكرر للمرة الثانية خلال فترة زمنية قصيرة؛ فقد أثيرت عقب التمرُّد الذي قاده بريجوجين في يونيو الماضي في روسيا قبل أن يتم إخماده دون أي تأثير على استمرارية نشاط فاجنر في المسرح الأفريقي.

حضور مستمر

بالرغم من التحديات التي تواجهها “فاجنر” عقب محاولة التمرد على موسكو – وهي التحديات التي ربما تتفاقم عقب مقتل قائدها – فإن من الصعب القول بأن نشاط المجموعة في أفريقيا سوف يتعرَّض للتقويض؛ إذ إن هناك العديد من المؤشرات التي تعزز استمرار فاجنر في أداء دورها بمناطق مختلفة على الساحة الأفريقية. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك المؤشرات على النحو التالي:

1- تجاوز تداعيات تمرد “بريجوجين” الأخير: برغم كثرة التكهنات قبل شهرين حول احتمال توقف نشاط فاجنر في أفريقيا وانسحاب معظم قواتها من بعض الدول الأفريقية، فإن نشاط فاجنر لم ينقطع عقب التمرد الأخير الذي اندلع في يونيو 2023. حتى إن بريجوجين قد صرح في 19 يوليو 2023 بأن فاجنر تُجهِّز لمسار جديد إلى أفريقيا، بالإضافة إلى ترحيبه بالانقلاب العسكري الأخير في النيجر، وإعلان استعداد قواته للانخراط في البلاد مستقبلاً.

2- تغييرات جوهرية في الهيكل التنظيمي لفاجنر: أشارت تقارير إلى اتخاذ الحكومة الروسية، عقب محاولة التمرد الأخيرة، بعض الإجراءات التي من شأنها تحويل الإشراف على فاجنر إلى الحكومة الروسية، وتحييد دور بريجوجين؛ وذلك بهدف إحكام السيطرة الكاملة على قوات فاجنر من خلال إقصاء بعض قادة فاجنر الموالين لقائدها.

3- اعتماد موسكو على “فاجنر” في أفريقيا: تتمسك موسكو بضمان وتوسيع نفوذها في أفريقيا، وتعد فاجنر من أبرز أدوات تعزيز هذا النفوذ؛ ما يجعل مهمة استمرارها أولوية بالنسبة إلى موسكو خلال الفترة المقبلة.

إذ تنظر موسكو إلى فاجنر على أنها ممثل للدولة الروسية في مناطق الاهتمام الاستراتيجية، وليست مجرد شركة عسكرية خاصة تقوم بعمليات أمنية وعسكرية؛ حيث وصفها الرئيس بوتين باعتبارها وسيلةً لتنفيذ المصالح الوطنية الروسية، وتقوم بمهام متعددة في القارة بما في ذلك المجال الأمني والعسكري والتدريب للقوات الشرطية وأجهزة الاستخبارات وعمليات التأمين الشخصي لكبار الشخصيات السياسية في بعض الدول مثل أفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى انخراطها في مجالات الإعلام والاقتصاد والاستثمارات في النفط والتعدين.

وقد عبَّرت فاجنر بقوة عن نفسها باعتبارها من أبرز أدوات السياسة الروسية في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تكتسب أهميتها هناك من كونها تمثل أداة جيوسياسية مهمة توظفها موسكو بامتياز لتنفيذ سياساتها، ومن أجل موازنة الأدوار الدولية الفاعلة في عدد من المناطق الاستراتيجية هناك.

4- استمرار خطط التمدد في أفريقيا: أشارت وثيقة استخباراتية نشرتها صحيفة جورنال وول ستريت مؤخراً إلى تفكير فاجنر في تأسيس اتحاد كونفدرالي أفريقي يمتد جغرافياً من غينيا كوناكري في غرب أفريقيا إلى إريتريا في الشرق الأفريقي، وبحيث تكون قاعدة عملياته في تشاد، وهو ما يكشف عن تطلعات فاجنر إلى توسيع حضورها في القارة بالانخراط في دول جديدة، مثل تشاد وبوركينا فاسو، بجانب غينيا كوناكري والكاميرون خلال الفترة المقبلة؛ وذلك على حساب منافسيها الاستراتيجيين في أفريقيا، وخاصةً الولايات المتحدة.

كما ألمح بعض المسؤولين الروس إلى قيام المجلس العسكري الجديد في النيجر بطلب مساعدة فاجنر عقب الانقلاب الأخير في البلاد الذي أطاح بالرئيس السابق محمد بازوم. وفي خضم توتر الأوضاع في منطقة الساحل عقب تهديد تكتل إيكواس بالقيام بعملية عسكرية حاسمة لاسترداد النظام الدستوري في نيامي. فيما زعمت تقارير وصول بعض قوات فاجنر إلى أفريقيا الوسطى في يوليو 2023 للمساهمة في محاربة الإرهاب والحركات المسلحة.

وفي سياق متصل، ظهر بريجوجين في مقطع فيديو نُشر على قناته في “تليجرام” في 22 أغسطس الجاري، وسط تكهُّنات بأنه كان موجوداً في أفريقيا، خاصةً أنه أكد اضطلاع فاجنر بأنشطة تجعل روسيا أعظم في كل القارات، وتجعل أفريقيا أكثر حريةً؛ الأمر الذي يعكس حرص موسكو على عدم خسارة مناطق نفوذها في القارة الأفريقية مستقبلاً لصالح خصومها الاستراتيجيين.

5- ضخامة مكاسب “فاجنر” الاقتصادية في أفريقيا: تجني فاجنر أرباحاً هائلة من نشاطها الاقتصادي والتجاري والمالي في أفريقيا التي تمثل مصدراً رئيسياً لهذه الأرباح خلال السنوات الأخيرة، بما ينعكس أيضاً على خزينة الحكومة الروسية التي تواجه تأثيرات الحرب الأوكرانية وما يصاحبها من الضغوط الغربية الاقتصادية.

فهناك شبكة واسعة من الشركات التابعة لفاجنر تنتشر في دول أفريقيا تصل – وفقاً لبعض التقديرات – إلى 100 شركة تقوم بأنشطة تجارية واسعة في مناطق نفوذها الأفريقي. ووسَّعت فاجنر اتفاقاتها مع الدول الأفريقية التي تمنحها امتياز السيطرة على قطاعات التعدين الأفريقية، بما في ذلك المناجم في عدد من الدول التي تنخرط قواتها فيها، مثل ليبيا والسودان ومالي وموزمبيق وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى.

بينما تزعم تقارير دولية تهريب فاجنر نحو 32.7 طن من الذهب بقيمة 1.9 مليار دولار في الفترة بين فبراير 2022 وفبراير 2023، وهو ما يؤكد أن توسُّع فاجنر في أفريقيا مدفوع في الأساس بمنطق تجاري أكثر من كونه سياسياً، كما أنه يتجاوز مجال الأمن أيضاً؛ فالمكاسب الاقتصادية هي التي تدفعها إلى تأكيد حضورها.

6- رغبة النخب الحاكمة الأفريقية في استمرار “فاجنر”: تستعين بعض الحكومات الأفريقية بقوات فاجنر من أجل مساعدتها في مجال الحرب على الإرهاب وموجات التمرد من قِبَل الحركات المسلحة، لا سيما في منطقة الساحل والصحراء؛ فهناك وجود مكثف لفاجنر في كلٍّ من مالي وأفريقيا الوسطى، وسط تنبؤات بالتوسع في دول بوركينا فاسو والنيجر والكاميرون وتشاد وغينيا كوناكري.

وهذا في الوقت الذي تشهد فيه منطقة الساحل تراجعاً حاسماً للنفوذ الفرنسي والغربي، وسط مشاعر شعبية ساخطة تجاه الوجود الأجنبي، لا سيما الفرنسي في البلدان الأفريقية، والمطالبة بطرد القوات العسكرية الغربية والفرنسية؛ بسبب الإخفاق على مدار العقد الماضي في القضاء على التنظيمات الإرهابية والاتهامات بالاستيلاء على الثروات والموارد الأفريقية؛ وذلك في مقابل الترحيب بالقوات الروسية في بلدانهم للمساعدة في مواجهة التحديات الأمنية المتنامية هناك.

تداعيات محتملة

هناك عدد من التداعيات المحتملة على مستقبل نشاط فاجنر في الدول الأفريقية عقب مقتل قائدها، ويتمثل أبرزها فيما يلي:

1- إعادة تأكيد موسكو مصالحها في أفريقيا: لا ترغب موسكو في الانسحاب من أفريقيا، ولا تبدو مستعدة لتكبُّد نتائج خسارة نفوذها هناك لصالح خصومها الاستراتيجيين؛ ما قد يعني تأكيد الكرملين مجدداً استمرار نشاط المجموعة في القارة، وربما إضافة أعداد جديدة خلال الفترة المقبلة وفقاً لتطورات الحرب الروسية الأوكرانية، بما يعكس رسالة طمأنة لحلفاء موسكو الأفارقة بشأن استمرار دعمها لهم مستقبلاً.

2- تزايد مخاوف بعض الأنظمة الأفريقية: ربما يتضاعف القلق لدى الحكام الأفارقة من تنامي التكهنات حول مستقبل فاجنر في القارة، لا سيما في ظل التقارب الواضح بين النخب العسكرية الجديدة التي صعدت إلى السلطة في عدد من الدول الأفريقية وبين موسكو على حساب الغرب؛ ما يعني أن تراجع “فاجنر” ربما يمثل انكشافاً للعسكريين الجدد، بما يهدد بقاءهم في السلطة، ويعزز النفوذ الغربي مجدداً بعدما افتقده خلال الفترة الأخيرة ولو نسبياً في عدد من الدول الأفريقية.

3- تصعيد محتمل في نشاط الإرهاب بأفريقيا: ربما تنتهز التنظيمات الإرهابية – في حالة تراجع نفوذ فاجنر على الساحة الأفريقية – الفرصة للمزيد من الضغط على الحكومات الأفريقية من خلال تصعيد العمليات الإرهابية، ومهاجمة المؤسسات الحكومية والجيوش الأفريقية من أجل زعزعة الاستقرار في الدول الأفريقية التي تواجه المزيد من التحديات الأمنية والسياسية على مدار السنوات الماضية، وربما يعيد إلى الأذهان تكرار تجربة حركة طالبان في باكستان.

4- إمكانية مضاعفة الضغوط الأمريكية: قد تسعى واشنطن إلى توسيع الفجوة بين فاجنر والكرملين على خلفية مقتل بريجوجين بهدف تقويض النفوذ الروسي في أفريقيا. وربما تدفع واشنطن أيضاً نحو توقيع المزيد من العقوبات على فاجنر في القارة، خاصةً بعدما صنَّفتها في يناير 2023 منظمةً إرهابيةً عابرةً للحدود، كما ستُمارِس واشنطن المزيد من الضغوط على القادة الأفارقة للتراجع عن الشراكة مع فاجنر، ويعززها صياغة خريطة طريق أمريكية جديدة تستهدف طرد فاجنر من أفريقيا، وتسليط الضوء للأفارقة على أن العمل مع فاجنر من المُرجَّح أن يؤدي إلى اندلاع الفوضى على المدى الطويل في القارة.

وإجمالاً، فإن من المُرجِّح ألَّا يتأثر وجود فاجنر في أفريقيا سلباً بغياب قائدها يفجيني بريجوجين؛ وذلك استناداً إلى إدراك الكرملين أهميتها الاستراتيجية في تعزيز النفوذ الروسي في القارة، وما يرتبط به من سيطرة على الثروات والموارد الأفريقية – مثل الذهب والنفط – التي تُدرُّ المزيد من الأرباح للروس، وهو ما عبَّرت عنه بوضوح تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف خلال الفترة التي صاحبت التمرد الأخير لفاجنر في يونيو 2023؛ بأن فاجنر مستمرة في نشاطها بأفريقيا خلال الفترة المقبلة. وربما يشير الأمر إلى نجاح بوتين في إحكام السيطرة على فاجنر من خلال تغيير قادتها بقادة موالين له على رأسها؛ خشية تكرار التمرد الأخير، ولضمان استقرار الأوضاع في حالة التخلص من بريجوجين. وربما تشهد الفترة المقبلة انطلاقة جديدة لفاجنر في أفريقيا بتمددها في مناطق جديدة مثل النيجر وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري وتشاد والكاميرون.