سعت صربيا، منذ بداية الحرب الأوكرانية، إلى تبني موقف متوازن يتجنَّب الانحياز إلى أيٍّ من طرفَي الصراع. وصحيحٌ أنها أدانت الهجوم الروسي على كييف، لكنها في الوقت ذاته تجنَّبت التماهي التام مع الموقف الغربي تجاه موسكو. وقد تجددت معضلة الموقف الصربي من الحرب خلال الأيام الماضية مع نشر تقارير تتحدث عن تعليق روسيا برنامجها الخاص بالاستعانة بالجنود الصرب في عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا؛ إذ سبق أن أطلقت موسكو حملة إعلامية تؤكد من خلالها أن هذا البرنامج يعد عملاً وطنياً سلافياً. وبطبيعة الحال، أثارت هذه التقارير تساؤلات حول أبعاد الموقف الصربي من الحرب الأوكرانية، وخاصةً أن الحرب قد أضفت تعقيدات هائلة على السياسة الخارجية لصربيا.
تناقض دبلوماسي
منذ بداية الحرب الأوكرانية، سعت صربيا إلى الحفاظ على علاقات ودية مع كل من روسيا والغرب؛ فقد تضمنت السياسة الخارجية المتناقضة التي تنتهجها بلجراد إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في حين لم تنضم إلى العقوبات الغربية التي فُرضت على موسكو. ويمكن تناول تناقضات الموقف الصربي من الحرب على النحو التالي:
1– إنكار علني لعملية تجنيد الصرب في الحرب: نشر موقع “إنتلجنس أونلاين” تقريراً بعنوان “موسكو تُعلِّق خططها لنشر جنود صرب في أوكرانيا”، وهو التقرير الذي أوضح أن موسكو علقت عملية الاستعانة بالجنود الصرب في عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا؛ وذلك بعدما كشف “إنتلجنس أونلاين” عن البرنامج المخطط له. وأكد التقرير أيضاً أن موسكو أطلقت عن طريق شخصَين هما “دافور سافيتشيتش” و”ديان بيريتش”، حملة إعلامية، لتؤكد من خلالها أن برنامج دمج الجنود الصرب في عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا، عمل وطني سلافي. وبحسب التقرير فإن حاكم منطقة موسكو “أندريه فوروبيوف”، هو من يقود حملة الدمج؛ وذلك حتى يعمل على زيادة شعبيته قبل الانتخابات القادمة، وأشار التقرير أيضاً إلى أن حاكم موسكو تلقى مساعدات من “ماركو ميلوسفيتش” نجل الرئيس الصربي السابق “سلوبودان ميلوسفيتش”، ومن “ألكسندر زالداستانوف” زعيم نادي الدراجات النارية الروسي، للحصول على دعم من دوائر بداخل صربيا لتسهيل عملية الدمج.
اللافت أن هذا التقرير لم يكن الأول من نوعه الذي يتحدث عن رغبة موسكو في تجنيد الصرب ضمن صفوف جيشها؛ فقد أصدرت مجموعة “فاجنر” في شهر يناير الماضي، مقاطع فيديو باللغة الصربية تزعم وجود متطوعين صرب يتدربون على القتال بجانب القوات الروسية في أوكرانيا؛ وذلك لتشجيع تجنيد الصرب على الانضمام إلى الجيش الروسي والقتال بجانبه في الحرب، وهو ما أثار غضباً عارماً في صربيا.
وفي المقابل، نفى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش المزاعم القائلة بأن مجموعة فاجنر لها وجود في صربيا، مؤكداً موقف بلاده المحايد في الحرب، مشيراً إلى أنه من غير القانوني للصرب أن يشاركوا في الصراعات في الخارج، فضلاً عن عدم وجود أي دعم رسمي للصرب المشاركين في القتال مع موسكو في حربها، حتى الذين قاتلوا معها أثناء أزمة شبه جزيرة القرم في عام 2014. كما طالب فوتشيتش حينها روسيا بالتوقف عن جهودها لتجنيد الصرب للقتال بجانب جماعة “فاجنر” في أوكرانيا، ملمحاً في ذلك إلى توجه مسار بلاده نحو الغرب خلال الفترة المقبلة، بهدف سعيها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
2– تبني الحكومة الصربية سياسة حذرة: ظلت الحكومة الصربية مقيدة في تصريحاتها بشأن أعمال الحرب في أوكرانيا؛ إذ دائماً ما تَحُثُّ الطرفَين على التوصل إلى اتفاق سلمي من شأنه وقف الأعمال العدائية؛ فقد سبق أن أدلى فوتشيتش، في بداية العام الجاري، بتصريح قوي بشكل مدهش لدعم أوكرانيا، وقال: “لقد قلنا منذ البداية إننا لا نستطيع دعم الغزو الروسي لأوكرانيا”، مضيفاً أنه “بالنسبة إلينا، فإن شبه جزيرة القرم هي أوكرانية، ودونباس هي أوكرانية، وسيظل الأمر كذلك”.
وسرعان ما خلص العديد من الخبراء في الغرب إلى أن تصريحات فوتشيتش هي مجرد استمرار لاستراتيجية بلجراد لتحقيق التوازن بين روسيا والغرب؛ للحفاظ على علاقاتها مع كلٍّ منهما، بما يتناسب مع مصالح بلاده؛ حيث بدا أن تصريحاته تتمحور حول استمرار رفض بلاده أي شكل من أشكال الانفصال أو الاستقلال لأراضي أي دولة عن موطنها الأم، في إشارة ضمنية إلى موقف بلجراد المناهض لاستقلال كوسوفو عن صربيا.
3– إدانة روسيا في المحافل الدولية: اتخذت صربيا موقفاً دبلوماسياً واضحاً ومتوافقاً مع مواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في مختلف المحافل الدولية؛ فمثلاً عندما انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 2 مارس 2022 في جلسة طارئة، أصدرت الجمعية قراراً يدين روسيا، وكانت صربيا ضمن المؤيدين للقرار. وباعتباره قراراً غير مُلزِم، قلَّل فوتشيتش من آثاره، مُدَّعياً أن صربيا تدعم 4 نقاط من أصل 13 نقطة شملها القرار، وهي تلك التي لا تتضمَّن أيَّ عقوبات على موسكو.
وفي 24 مارس 2022، صوتت صربيا لصالح قرار لجنة وزراء مجلس أوروبا بشأن إدانة روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتسبُّبها في أزمة إنسانية، فضلاً عن دعوة القرار إلى وقف فوري لإطلاق النار. بعد ذلك، في 7 أبريل 2022، أجرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تصويتاً على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وكانت صربيا من بين 93 دولة صوتت لصالح الاقتراح.
4– رفض الانضمام لنظام العقوبات: منذ بداية الحرب، طُلِب من صربيا الانضمام إلى نظام العقوبات الغربية الموجهة ضد روسيا، بيد أنه بالرغم من إدانتها الصريحة للعملية العسكرية، فإن بلجراد رفضت الالتزام بهذه العقوبات، ويمكن إرجاع ذلك إلى إمدادات الغاز الروسية الرخيصة، وتملُّك شركة غازبروم أغلبية الأسهم في شركة النفط الصربية (NIS)، فضلاً عن رفض روسيا الاعتراف باستقلال كوسوفو. ونتيجةً لذلك، وافق أعضاء البرلمان الأوروبي على قرار يدعو إلى تعليق مفاوضات العضوية في التكتل، حتى توافق صربيا على الانضمام إلى نظام العقوبات المفروض ضد روسيا.
5– مزاعم تصدير أسلحة لأوكرانيا: في أبريل الماضي، كشفت وثيقة استخباراتية أمريكية مسربة عن انخراط بلجراد في توريد الأسلحة إلى كييف، على الرغم من الحياد الذي أعلنته صربيا في حرب أوكرانيا ورفضها معاقبة روسيا اقتصادياً؛ حيث أظهرت هذه الوثيقة أن صربيا قد رفضت تقديم التدريب للقوات الأوكرانية، لكنها التزمت بإرسال مساعدات عسكرية لأوكرانيا، كما أضافت أن صربيا لديها الإرادة السياسية والقدرة العسكرية لتزويد أوكرانيا بالأسلحة في المستقبل.
من جانبه، رفض وزير الدفاع الصربي ميلوس فوتشيفيتش مزاعم تلك الوثيقة، ووصفها بأنها “غير صحيحة”. وفي السياق ذاته، أوضح فوتشيفيتش أن “صربيا لم تَبِعْ ولن تبيع أسلحة إلى الجانب الأوكراني أو الروسي أو إلى الدول المحيطة بهذا الصراع”، مشيراً إلى أنه “هناك دائماً احتمال أن تظهر بعض الأسلحة بشكل غامض في الأراضي التي يوجد بها صراع، لكن لا علاقة لها على الإطلاق بصربيا”، وقد بدا من تصريحه أنه يضع احتمال إمكانية وصول الأسلحة الصربية إلى أوكرانيا عبر دول ثالثة ودون تدخل حكومته.
محددات رئيسية
للوهلة الأولى، يبدو أن هذا التناقض بين الشرق والغرب يضع صربيا في موقف صعب، وخاصةً مع تزايد التوترات بين روسيا والغرب. ومع ذلك، نشأ هذا التناقض من محاولة الرئيس الصربي فوتشيتش تأمين حرية التصرف في سياسته الداخلية والخارجية؛ لذا يأتي موقف بلجراد من الأزمة الروسية الأوكرانية محاطاً بجملة من الأبعاد المتعددة التي تحقق – بلا أدنى شك – مجموعة من مصالحها الاستراتيجية، ولعل أبرزها ما يلي:
1– المصالح الاقتصادية بين موسكو وبلجراد: بدلاً من فرضها العقوبات الاقتصادية على روسيا، التزاماً بمطالبات الدول الغربية، وقَّعت صربيا على اتفاقية مع روسيا “للتشاور” فيما بينهما بشأن قضايا السياسة الخارجية، كما ضاعفت شركة الطيران الصربية – التي تسيطر عليها الدولة – رحلاتها من بلجراد إلى موسكو، فضلاً عن توقيع كلٍّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش على اتفاقية غاز جديدة في مايو 2022، حصل الأخير بموجبها على إمدادات للغاز الروسي بسعر 400 دولار لكل 1000 متر مكعب من الغاز، وهذا أرخص بما يصل إلى 10 مرات من أسعار صادرات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، كما ذكر فوتشيتش.
علاوةً على ذلك، برزت صربيا باعتبارها موقعاً رئيسياً للشركات الروسية والأفراد المؤهلين تأهيلاً عالياً، وخاصةً في صناعة التكنولوجيا، للانتقال إليها من أجل الهروب من العقوبات الغربية المفروضة ضد روسيا؛ فمن خلال نقل أعمالهم إلى صربيا، يمكن لهذه الشركات والأفراد مواصلة أنشطتهم الاقتصادية، وجعلها قادرة على المنافسة، بجانب الحفاظ على الروابط التجارية مع وطنهم الأصلي روسيا، فضلاً عن أن توفير رأس المال الذي تجلبه هذه الشركات، والتوظيف المحتمل للمواطنين الصرب المحليين مع هذه الشركات تُمثِّل حافزاً آخَر لصربيا لتظل صديقة لروسيا.
هذا وقد شهدت العلاقات التجارية بين كل من روسيا وصربيا تقدماً ملحوظاً خلال عام 2022؛ وذلك في الوقت الذي اتجهت فيه أغلب الدول الأوروبية إلى تقليص حجم تجارتها مع موسكو تفعيلاً لأنظمة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؛ إذ وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو 4.2 مليار دولار، مقارنةً بنحو 2.8 مليار دولار عام 2021، بزيادة تصل إلى 50%.
2– تأثير معضلة “كوسوفو”: تأتي إدانة بلجراد لحرب روسيا في أوكرانيا على خلفية احترام كل من صربيا وأوكرانيا سلامة أراضي كلٍّ منهما؛ حيث إن موقف الحكومة الأوكرانية بشأن كوسوفو ظل ثابتاً وقائماً على أساس رفض الاعتراف باستقلالها عن صربيا، فضلاً عن دعمها السياسي المستمر لصربيا دولياً في الشأن ذاته. وعلى نحو مماثل، تؤكد صربيا بانتظام دعمها سلامة أراضي أوكرانيا، وتعترف بأوكرانيا بالكامل، بما في ذلك الأراضي التي ضمتها روسيا إليها خلال عامي 2014 و2022.
بالإضافة إلى ذلك، عادةً ما تستغل صربيا الموقف الدولي الداعم لأوكرانيا كورقة ضغط من أجل حل قضية كوسوفو؛ حيث تُلمِّح بلجراد إلى وجود معايير مزدوجة تنطبق على التعامل مع أوكرانيا وصربيا، زاعمةً أنه مثلما انتهكت روسيا سلامة أراضي أوكرانيا، هاجمت القوى الغربية صربيا عام 1999، وانتهكت سلامة أراضيها، وبعد ذلك اعترفت باستقلال كوسوفو.
ومع ذلك، فإنه على الجانب الآخر، تشكل أيضاً قضية كوسوفو واحدة من القضايا التي تقرب بين روسيا وصربيا، وخاصةً مع التوترات القائمة على مدار الشهور الماضية بين صربيا وكوسوفو، وهو الأمر الذي عزز احتمالية توظيف روسيا هذه التوترات؛ من أجل تصدير المزيد من الضغوط للدول الغربية، وربما فتح جبهة جديدة للصراع تؤدي إلى تفاقم المشكلات التي تواجهها أوروبا وكذلك الولايات المتحدة. ويعزز من هذه الفرضية اقتناع موسكو بضرورة استعادة النفوذ والإرث السوفييتي في منطقة البلقان.
3– حضور القوة الناعمة الروسية: تتمتع صربيا وروسيا بتاريخ طويل من العلاقات الوثيقة؛ بسبب تراثهما السلافي والأرثوذكسي المشترك، كما ترتبط اللغة الصربية أيضاً ارتباطاً وثيقاً بنظيرتها الروسية، ومن ثم يبدو أن القوة الناعمة الروسية في صربيا منتشرة في كل مكان، وتطغى على علاقات موسكو الأخرى مع الدولة البلقانية، بما في ذلك التعاون في مجال الطاقة، والمعارضة المشتركة لاستقلال كوسوفو.
ومن خلال الاستفادة من الضغينة التاريخية التي يحملها العديد من الصرب ضد الغرب، تتمتع روسيا بقدر هائل من الاحترام والشعبية في المجتمع الصربي؛ حيث هناك شعور في الداخل بالخيانة والرفض والنبذ من قِبَل الغرب؛ وذلك على خلفية دورهم في استقلال كوسوفو، ناهيك عن عمل روسيا كقوة مضادة للمعسكر الغربي، كما أن خيبة الأمل التي شعر بها الصرب إزاء التكاليف المترتبة على تحوُّل البلاد إلى الديمقراطية واقتصاد السوق تعمل أيضاً على تعزيز الخطابات المؤيدة لروسيا.
4– تأييد الرأي العام الصربي لموسكو: تواجه الحكومة الصربية ضغوطاً من الفصائل الداخلية الموالية لروسيا وكذلك المؤيدة للاتحاد الأوروبي داخل البلاد؛ لذا تحاول الحكومة تحقيق التوازن بين هذه المصالح المتنافسة، من خلال اتخاذ موقف محايد بشأن الحرب في أوكرانيا؛ حيث قد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بلجراد للسياسة الأمنية (BCSP) في منتصف عام 2022، أن 46% من الصرب يعتقدون أن بلادهم يجب أن تظل محايدة في الحرب؛ وذلك على الرغم من التعاطف الشعبي القوي تجاه روسيا. ولكن في الوقت ذاته، حمَّل ما يصل إلى 63% من الصرب الغرب مسؤولية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كما كشف استطلاع (BCSP) أن 51% من الصرب يعتقدون أن روسيا هي الشريك الدولي الأهم لصربيا، في حين وصف 66% روسيا بأنها “أعظم صديق” للبلاد.
وفي حين اندلعت التظاهرات ضد روسيا في جميع أنحاء أوروبا في مارس 2022، تجمَّع عدة آلاف من المتظاهرين في بلجراد لدعم روسيا، بل أقيمت مسيرات متعددة داعمة لبوتين في حربه، وتضمَّنت الكتابة على الجدران في بلجراد الرمز “Z”، الذي أصبح يمثل الدعم الشعبي للهجوم الروسي على أوكرانيا، كما انتقد المتظاهرون الحكومة الصربية، واتهموها بالخيانة لعدم دعمها الكافي لروسيا، على الرغم من معارضة صربيا العقوبات ضد روسيا.
ختاماً، من السابق لأوانه الجزم بالتأثير البعيد المدى الذي قد تُخلِّفه الحرب في أوكرانيا على سياسة صربيا الخارجية؛ حيث من المرجح أن تزيد الحرب من تعقيد جهود صربيا لتحقيق التوازن في علاقاتها مع روسيا والاتحاد الأوروبي؛ حيث وجدت بلجراد نفسها في موقف صعب منذ بداية الحرب في أوكرانيا؛ نظراً إلى ما تتمتع البلاد من تاريخ طويل من العلاقات الوثيقة مع روسيا، لكنها أيضاً مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ثم ستظل الحكومة الصربية مستمرة في سعيها للالتزام بالحفاظ على علاقاتها الجيدة مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي، خاصةً أنها لا ترغب في الانحياز إلى أيِّ طرف في الصراع.