• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
مقالات مترجمة

شهدت ألمانيا على مدار عقود تحولات كبيرة واستراتيجية؛ حيث وُلدت برلين وهي محاطة بالعديد من التحديات، وطوَّقتها حربان عالميتان كانت ألمانيا هي الأكثر تأثراً بتداعياتهما المدمرة، وهي التداعيات التي ما زالت تدفع ثمنها إلى اليوم؛ فبعد الهزيمة التي لحقت بها في الحرب العالمية الأولى، بدأت تجربة ديمقراطية جديدة، إلا أنها لم تَطُل كثيراً، وانتهت بكارثة النازية، وبعد فترة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان أداء الديمقراطية في ألمانيا أفضل كثيراً من أي وقت مضى.

وظلت التحديات الاستراتيجية التي تواجه ألمانيا كبيرة، حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من عام 2022، لتواجه ألمانيا التحدي الأبرز الذي يتمثل في ضرورة إعادة توجهاتها الاستراتيجية، ويعلن بعدها المستشار الألماني “أولاف شولتز” من خلال خطاب ““Zeitenwende عن استراتيجية جديدة تدير بها ألمانيا علاقاتها الدولية، مثَّلت انطلاقة جديدة تختلف عما هو متبع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى رحيل المستشارة الألمانية “ميركل”، واشتملت مخرجاتها على قرارات متعلقة بالسياسة الدفاعية الألمانية وأمن الطاقة، وموقف برلين من الأزمة الأوكرانية.

وفي هذا الإطار، يسلط الكاتب ستيفن زابو، من خلال مقاله في مجلة سيرفيفال (Survival) بعنوان “إعادة التوجهات الاستراتيجية لألمانيا بين الحاضر والماضي”؛ الضوء على تلك التوجهات الاستراتيجية الجديدة لألمانيا، في ظل التحديات العالمية القائمة، وكذلك إدراك صانع القرار للتجارب التاريخية التي مرَّت بها الدولة.

دروس مستفادة

طرح الكاتب تساؤلاً مفاده “ما الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب السابقة في التاريخ الألماني؟”، وأشار من خلاله إلى أبرز الدروس المستفادة من تلك التجارب، التي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1. تشكيل الاتحاد السوفييتي التهديد الأكبر لألمانيا: يشير الكاتب إلى موافقة ألمانيا، عقب الحرب العالمية الثانية، على الانضمام إلى حلف الناتو، رغم كون ذلك الانضمام مسألة جدلية واجهت معارضة ضخمة؛ حيث يُعتبَر تغييراً استراتيجياً كبيراً في السياسة الألمانية. ويُعزى ذلك التغيير – بحسب الكاتب – إلى القيادة الأمريكية، وتفاقم التهديد السوفييتي لألمانيا الغربية.

ومن هنا، تركزت إعادة توجيه الاستراتيجية الألمانية، في عهد “أديناور” – وهو أول مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية – الذي أدرك التهديد المُلحَّ الذي يُشكِّله الاتحاد السوفييتي على ألمانيا بوجه خاص، وعلى أوروبا الشرقية بوجه عام؛ حيث أدرك “أديناور” ضرورة إعادة تسليح ألمانيا، واندماجها مع المجتمع الغربي، من خلال الدخول في تحالف استراتيجي يضمن أمن ألمانيا، بجانب استمرار مشروع مارشال لإعادة الإعمار.

 2. اقتناع الألمان بضرورة إعادة التسلح بعد الحرب العالمية الثانية: شدد الكاتب على اقتناع قطاع كبير داخل المجتمع الألماني بضرورة إعادة التسلح لمواجهة التهديدات الخارجية، فضلاً عن الانضمام إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وتبنى ذلك التغييرَ الاستراتيجيَّ المستشارُ الألمانيُّ “أديناور”؛ حيث تمكَّن من إنهاء حالة الاستقطاب الشديدة والتخوف الموجود لدى الشعب الألماني من تكرار معاناته بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم ضآلة الخبرة التي تتمتع بها ألمانيا في ظل الحكم المدني والديمقراطي الجديد، فإن “أديناور” تمكن من إقناع النخب الألمانية بضرورة إعادة التسلح، والتركيز على السيادة الألمانية جنباً إلى جنب مع تبني سياسات مدنية وديمقراطية. ويُعزى ذلك – بحسب الكاتب – إلى القيادة الأمريكية والطبيعة المباشرة للتهديد الذي يفرضه نموذج الاتحاد السوفييتي.

كما رغب “أديناور” في إقناع الجمهور الألماني الذي أنهكته الحرب بضرورة إعادة التسلح، وليس ذلك فقط بل رغب أيضاً في إقناعه باستقبال أسلحة نووية أمريكية على الأراضي الألمانية، وهو ما عارضته في البداية النخب الألمانية، واندلعت على إثره تظاهرات حاشدة؛ حيث زعم الديمقراطيون الاشتراكيون، على سبيل المثال، أن ذلك النهج من شأنه أن يقضي على احتمالات إعادة توحيد ألمانيا، ومع ذلك تمكن “أديناور” من حشد تأييد كبير لبرامجه ولاستراتيجيته الجديدة.

3. التركيز على الجوانب الاقتصادية في السياسة الألمانية: نوَّه الكاتب أن إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، كانت بمنزلة نهاية نموذج الحرب الباردة، وبداية تركيز برلين على النهج الاقتصادي القائم على النظرة المتفائلة، لنظام أوروبي يقوم على مبادئ السلام الديمقراطي؛ حيث توجهت ألمانيا منذ ذلك الحين، إلى تخفيض ميزانية الدفاع بقدر كبير، وتسارعت سياساتها الاقتصادية للحاق بركب الاقتصادات المتقدمة، مع بدء ألمانيا التعافي من حقبة طويلة من الحروب التي أنهكت اقتصادها. وفي ذلك الوقت بدأت مرحلة جديدة في العلاقات الألمانية الروسية، اتخذت منحى أكثر إيجابيةً عن أي وقت مضى.

سياسات برلين

شدد الكاتب على أن إعادة تشكيل التوجهات الاستراتيجية لألمانيا في عهد المستشار “أولاف شولتز”، التي أعلن عنها في خطاب Zeitenwende – وهي الكلمة التي تعني “العام”، وتشير في اللغة العربية إلى “نقطة التحول التاريخية” – جاءت جذورها على خلفية عمليات إعادة التشكيل الاستراتيجية التي باءت بالفشل، في عهد حكومتي “شرودر” و”أنجيلا ميركل”. وبوجه عام يمكن القول إن إعادة تشكيل التوجهات الاستراتيجية لألمانيا يرتبط بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1. ضرورة تجاوز فرضية الاعتماد الكلي على النهج الدبلوماسي: أكد الكاتب اعتماد حكومتَي “شرودر” و”أنجيلا ميركل” على تبني النهج الدبلوماسي للحفاظ على الاستقرار السياسي لألمانيا؛ حيث فضَّل كلاهما عدم الانخراط في أي حروب جديدة، أو أي تنافس من شأنه أن يهدد الاستقرار السياسي الألماني؟ وأدركت “ميركل” على وجه التحديد – بحسب الكاتب – أن الجمهور الألماني أصبح غير مهتم بسياسة دفاعية قوية. وحتى بعد التوغلات الروسية وضم موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014، لم يتغير ذلك النهج، وحافظت ألمانيا على الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع روسيا، رغم سياسات “بوتين” التي أضرت – بحسب الكاتب – بالعديد من الدول الأوروبية. وأنتجت تلك السياسات غير المهتمة بتكوين جيش قوي، التي لم تعتمد سياسة دفاعية مستقلة عن الناتو والولايات المتحدة، جيشاً ألمانياً ضعيفاً، غير قادر على التأثير أو التصرف بشكل مستقل.

2. البحث عن مسارات استباقية لدعم الحلفاء: لفت الكاتب إلى إدراك المستشارة الألمانية “ميركل” أن حلف الناتو لم يكن لديه الرغبة في بذل المزيد من الجهد لوقف الاعتداءات الروسية؛ وذلك في بدايات الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014؛ فرغم اعتقاد “ميركل” أن الرئيس الروسي “بوتين” يريد عرقلة جهود الاتحاد الأوروبي، ويعتبره بمنزلة مقدمة لحلف ناتو جديد، استمرت في تبني نهجها الدبلوماسي المعتاد.

كما أن الرئيس الأمريكي آنذاك “باراك أوباما” سلَّمها إدارة الأزمة الأوكرانية بحسب الكاتب؛ لاعتقاده أنها مسألة أوروبية، وينبغي لأوروبا أن تتعامل معها، واتفق مع “ميركل” على رفض تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة، واكتفيا بالحلول المؤقتة التي أفضت إلى اتفاقيات “مينسك”؛ حيث رفضت “ميركل” – بحسب الكاتب – الدفاع عن السياسات التي تقضي بوجود جيش أوروبي قوي، واعتمدت باستمرار على الدبلوماسية التي كانت دافعاً لاستمرار “بوتين” في تبني السياسات ذاتها تجاه أوكرانيا، وكانت مقدمة للحرب الروسية الأوكرانية. وعليه، بدا أن ثمَّة حاجةً ملحةً لألمانيا من أجل خلق مسارات استباقية لدعم حلفائها؛ حتى لا يتكرر سيناريو أوكرانيا مجدداً.

3. إدراك الحكومة الألمانية أولوية السياسة الدفاعية: أشار المقال إلى أنه على الرغم من افتقار المستشار الألماني “شولتز” إلى الخبرة السياسية الكبيرة، فضلاً عن افتقار ألمانيا إلى العمق في الخبرة الاستراتيجية مقارنةً بفرنسا وبريطانيا على سبيل المثال، فإن “شولتز” يواجه تحديات أقل صعوبةً من تلك التي واجهها “أديناور” قبل 65 عاماً، وهو أول مستشار ألماني عقب الحرب العالمية الثانية، وأقل أيضاً من تلك التي واجهتها الحكومات الألمانية السابقة؛ حيث نوه الكاتب بوجود إجماع داخل الأوساط الألمانية بصورة واسعة النطاق، على ضرورة إعطاء الأولوية للسياسة الخارجية والدفاعية، ومواجهة النفوذ الروسي المتزايد؛ حيث تخطَّت ألمانيا العقبات الاقتصادية التي كانت تواجهها لفترات طويلة، وتمكنت من بناء اقتصاد قوي يُمكِّنها من تقليل الاعتماد على روسيا، ومن ثم يتيح بدائل استراتيجية جديدة للتعامل مع تهديدات موسكو، وتجميد بعض المشروعات الاقتصادية المشتركة.

4. تقليل اعتماد اقتصادات الدول الأوروبية على روسيا: أشار الكاتب إلى إدراك ألمانيا ودول القارة الأوروبية، حاجتها إلى التعاون على المدى الطويل؛ من أجل تقليل الاعتماد على روسيا، وهي إحدى الصعوبات الرئيسية التي تواجه “شولتز”، ولم تكن موجودة خلال فترة المستشار الألماني “أديناور”؛ حيث تزايد الارتباط بين الاقتصادين الألماني والروسي خلال السنوات الأخيرة؛ ما يفرض على برلين – بطبيعة الحال – اتباع سياسة اقتصادية تهدف إلى تقليل الاعتماد على موسكو فيما يخص السلع الأساسية والطاقة. وهذه السياسة الاقتصادية – بحسب الكاتب – لا تقل أهميةً عن السياسات الدفاعية؛ حيث يُعزى نفوذ موسكو المتزايد وقدرتها على فرض الشروط الخاصة بالحرب، إلى قدرتها الاقتصادية، واعتماد العديد من دول القارة على وارداتها، خاصةً في مجال الطاقة.

5. عودة مفهوم “الدولة الحامية” في السياسة الألمانية: لفت الكاتب إلى تحول الدول الحامية (Garrison State) في أوروبا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى دول مدنية؛ حيث انتقلت السلطة فيها من النخب المحاربة إلى التجار والمصنعين، واستحوذت الجوانب الاقتصادية على صنع السياسة الخارجية، وكانت ألمانيا وروسيا قبل الحرب، دولتين حاميتين على مستوى القارة الأوروبية. ويؤكد الكاتب أن الحرب الروسية الأوكرانية هي التحول الأهم في التاريخ الأوروبي الحديث؛ حيث أصبحت روسيا تهديداً من غير المرجح أن ينحسر في المستقبل القريب، وأعادت مفهوم الدولة الحامية إلى العديد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، لتحاول من خلال استراتيجيتها الجديدة لعب دور مركزي فيما يخص الأمن الأوروبي.

6. التشكك في قدرة واشنطن على لعب دور مركزي في الأمن الأوروبي: أشار الكاتب إلى تغير بنية النظام الدولي، وعدم اقتصارها على الأحادية القطبية للولايات المتحدة؛ ما فرض على الدول الأوروبية تحديات جديدة؛ حيث لم تَعُد روسيا شريكاً في الأمن الأوروبي، كما أصبحت الصين منافساً استراتيجياً، مؤكداً افتقار واشنطن القدرة على لعب الدور المركزي في الأمن الأوروبي، كما كان الحال إبَّان الحرب الباردة؛ حيث تعاني الولايات المتحدة في الوقت الحالي من العديد من التحديات؛ على رأسها النزاعات الحزبية الداخلية، والتحولات الاستراتيجية في السياسة الأمريكية تجاه الصين والقارة الآسيوية ومنطقة الهندوباسيفيك؛ ما يفرض على ألمانيا أن تلعب دور الدولة الحامية في القارة الأوروبية.

وختاماً، أكد الكاتب أن الدروس المستفادة من الاطلاع على التاريخ الألماني في التعامل مع التهديدات الأمنية التي واجهتها، يمكنها تشكيل سياسة استراتيجية حكيمة، تُمكِّن برلين من مواجهة التهديد الروسي الذي تفاقم بعد الأزمة الروسية الأوكرانية؛ حيث تعتمد إعادة التوجهات الاستراتيجية الألمانية على تلك التجارب السابقة، التي ستُمكِّن ألمانيا من إنجاح الاستراتيجية التي أعلن عنها المستشار الألماني “شولتز” لمواجهة التحديات الأمنية المختلفة، وتخلَّى فيها عن سياسات المستشارين الألمانيين السابقين.