• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
قراءات

معوقات تطوير أوكرانيا هجوماً مُضاداً "نشطاً" ضد روسيا


يرفض قادة أوكرانيا تقديرات بعض الحلفاء بأن الهجوم المُضاد ضد القوات الروسية أقل فعالية من المُتوقع أو المأمول، وذلك على عكس ما كان يجري في مرحلة الدفاع، حيث كانت تقديرات الاستخبارات الغربية عموماً آنذاك أكثر تحفيزاً وربما تحيزاً للجانب الأوكراني. وفي معرض رد فعله على تلك التقديرات، أشاد الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، في 2 سبتمبر 2023، بنتائج الهجوم المُضاد التي تتحقق يوماً بعد الآخر، كما أعلن عن أبرز نتائج التقدم التي تحرزها قواته على مختلف المحاور واستعادة بعض المواقع والقيام بعمليات نوعية في العمق الروسي. وفي ذات السياق، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، في 31 أغسطس الماضي، أكثر حدة ضد مُنتقدي الهجوم المُضاد، معتبراً أن من يدّعي ذلك يحبط عزيمة وجهود القوات الأوكرانية في الميدان.

وربما يعتبر القادة الأوكرانيون أن التقديرات السلبية على هذا النحو، هي محاولة من الشركاء للتنصل من نتائج الهجوم المُضاد، أو ربما يهدف الداعمون للحرب إلى التلويح بتراجع الدعم العسكري الذي يستنزف مخزونهم وميزانيات دفاعهم، أو ربما تكون محاولة لكبح القوات الأوكرانية عن استفزاز روسيا في ظل تطوير كييف للهجمات في العمق الروسي إلى الحد الذي قد يتجاوز "الخطوط الحمراء"، ما قد يدفع موسكو إلى توسيع جبهة الحرب. وقد تكون محاولة للتسليم بالأمر الواقع ودفع أطراف الصراع الحالي تدريجياً إلى الانخراط في عملية تسوية، خاصة في ضوء تنامي الحديث في الدوائر الأكاديمية الغربية القريبة من مراكز صُنع القرار عن مدى إمكانية تكرار "السيناريو الكوري".

وبعد موجة من التشاؤم الأمريكي من وضع "الهجوم المُضاد"، بدأت إدارة جو بايدن تدرك انعكاسات التقييمات السلبية على الجانب الأوكراني. ففي 2 سبتمبر الجاري، صرح المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، بأن الهجوم الأوكراني المُضاد حقق تقدماً ملحوظاً في الأيام الأخيرة، معتبراً أن الانتقادات التي تُوجه للعمليات الأوكرانية "غير مفيدة"، أخذاً في الاعتبار أن أحد أبرز التقييمات السلبية وردت من البنتاغون عندما أشار وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات، كولين كال، في مؤتمر صحفي، يوم 7 يوليو الماضي، إلى أن "الأمور تسير بشكل أبطأ قليلاً مما كان يأمل البعض"؛ في إشارة إلى نتائج الهجوم المُضاد.

تكتيكات جديدة:

ميدانياً، بدأت أوكرانيا تنتهج تكتيكات جديدة في عمليات الهجوم المُضاد، من أبرزها ما يلي:

1- التوسع في استخدام "الدرونز" لضرب الأهداف البعيدة: شنت القوات الأوكرانية، يوم 2 سبتمبر الجاري، هجوماً لافتاً بطائرات من دون طيار على قاعدة كريستي الجوية في بسكوف شمال غرب روسيا، حيث أصابت 4 طائرات شحن عسكرية روسية (إيل-76)، حسب رواية رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كيريلو بودانوف. وفي اليوم التالي، أعلنت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أيضاً عن استهداف لواء الدفاع الساحلي الروسي (126) المُتمركز في بيريفالنوي، مؤكدة أنها ستواصل استهداف المواقع العسكرية في القرم التي يتعين أن تكون "منطقة منزوعة السلاح" بين الطرفين. بينما أعلنت موسكو، يوم 2 سبتمبر الجاري، اعتراض ثلاثة زوارق بحرية أوكرانية كانت بصدد الهجوم على جسر القرم، ويُعد استخدام الزوارق غير المأهولة من التكتيكات الجديدة أيضاً بعد أن أغلقت روسيا المجال البحري في البحر الأسود أمام أوكرانيا. وبعد يومين، وتحديداً في 4 سبتمبر الجاري، أكد الجيش الروسي أن طائرات حربية تابعة له دمرت أربعة زوارق عسكرية أمريكية الصُنع في البحر الأسود، على متنها مجموعات إنزال للقوات الأوكرانية. 

2- تحسين القدرات الهجومية بواسطة قذائف اليورانيوم المنضب: ستُزود الولايات المتحدة أوكرانيا بذخائر اليورانيوم المنضب، ضمن حزمة مساعدات جديدة قيمتها 250 مليون دولار، وفقاً لما كشفت عنه وكالة "رويترز" في مطلع سبتمبر الجاري، وهي ذخائر مُصممة للدبابات الأمريكية (Abrams A1M1) وستُستخدم للمرة الأولى في أوكرانيا لاستهداف الدبابات الروسية متعددة طبقات التدريع. وفي أول رد فعل من الجانب الروسي، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، إن "تلك القذائف ستجعل الأراضي الأوكرانية غير صالحة للعيش"، مضيفة أن آثارها قد تمتد إلى بولندا المجاورة. وهو رد فعل عكسي يُقلل من التأثير المُستهدف لتلك الذخائر على المدرعات الروسية.  

3- تكتيك "القضم المُضاد": تشير البيانات الدورية لمعهد دراسات الحرب الأمريكي (ISW) إلى استقطاع القوات الأوكرانية مساحات بالكيلومترات على المحاور الرئيسية من الجبهة الروسية في أوكرانيا، ومنها محور زاباروجيا الأكثر تقدماً، حيث تمت استعادة مساحة بعمق 15 كيلومتراً تقريباً، بما يعني أنها تقدمت نحو 5 كيلومترات خلال معارك الصيف، بعد أن كانت قد استولت على نحو 10 كيلومترات تقريباً خلال معارك الربيع. كما استدارت القوات الأوكرانية باتجاه باخموت وسوليدار اللتان كانت قوات مجموعة "فاغنر" الروسية قد استولت عليهما في السابق، ثم الاستمرار في منع تقدم القوات الروسية على محور كريمينا الاستراتيجي. وبالتالي يمكن القول إن القوات الأوكرانية تقوم بعملية "قضم مُضاد" في اتجاه معاكس للجبهة الروسية في أوكرانيا.

حدود التأثير:

كتقدير إجمالي لهذه التطورات التكتيكية، يصعب القول إن الجانب الأوكراني بمقدوره إحداث اختراق في عمليات الهجوم المُضاد ضد القوات الروسية، وذلك بالنظر إلى عدة مؤشرات، من بينها على سبيل المثال الآتي: 

1- تكتيكات تجريبية: في مايو الماضي، حصلت أوكرانيا على "الذخائر العنقودية"، وحسب ما نُشر في مطلع سبتمبر الجاري ستحصل على ذخائر اليورانيوم المنضب، ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية والبنتاغون إن تلك الأسلحة يجري تجريبها خلال المعارك. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أن عمليات التجريب لقياس الفاعلية هي أحد اعتبارات التسليح الأمريكي لأوكرانيا، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى، من بينها استمرار تدفق إمدادات الذخيرة لتعزيز الدفاعات الأوكرانية مثل منظومات "هيمارس" (HIMARS) و"ناسامز" (NASAMS) و"باتريوت" (Patriot)؛ وذلك بهدف تأمين العاصمة كييف والخطوط الخلفية للقوات الأوكرانية، ثم على المدى المتوسط بناء قوات مسلحة أوكرانية وفق عقيدة وقدرات تسليح غربي استراتيجية كمنظومات الدفاع الأمريكية المُشار إليها سلفاً ومقاتلات "أف 16" (F16).

2- تخطيط مرتبك: لا تزال هناك فجوة في تفسير طبيعة العلاقة بين خطط القتال والإمدادات العسكرية وفق المؤشرات الميدانية مع انتقال أوكرانيا من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم المُضاد. فعلى سبيل المثال، يمكن تصنيف إمدادات قذائف اليورانيوم المنضب تحت بند القدرات الدفاعية أكثر من الاستعدادات الهجومية؛ وذلك بالنظر إلى دخول الدبابة الروسية "تي 90- أم" (بروريف) مسرح العمليات القتالية في أوكرانيا أخيراً، وهي دبابة تمتلك قدرات مضادة لـ"أبرامز" الأمريكية، بما فيها استخدام الذخائر النووية. كذلك على مستوى التشغيل، يمكن فهم أبعاد التحركات الأوكرانية التي توازي بين الأهداف البعيدة باستهداف العمق الروسي في محيط موسكو وبيلغرود والقرم، رداً على استهداف الأهداف البعيدة الأوكرانية مثل أوديسا وإغلاق البحر الأسود، لكن هناك تشتيتاً للجهود ما بين الخطوط الأمامية والخلفية، الأمر الذي يفسر تباطؤ الهجوم المُضاد. وسيكون الأسوأ منذ ذلك هو الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدماً في المستقبل مع دخول مقاتلات "أف 16" أو غيرها من الأسلحة الاستراتيجية الأخرى.

3- قدرة موسكو على التكيف: ربما تعكس التحركات الهجومية الأوكرانية الأخيرة حالة "انكشاف دفاعي" في الجانب الروسي، واستنزاف لقدراته بشكل مُكلف، إضافة إلى أن ارتفاع معدلات أعداد القتلى الروس في بعض العمليات التي تطال مواقع مدنية يشكل عامل ضغط من جانب الرأي العام على الكرملين فيما يتعلق بالاستمرار في الحرب. ومع ذلك، تُظهر روسيا من مرحلة لأخرى القدرة على التكيف مع التكتيكات العسكرية الجديدة، على نحو ما تفعل حالياً من اعتراض أو تحييد "الدرونز" البحرية والجوية على الرغم من كثافة الهجمات وتزايد عدد الوحدات المستخدمة. 

4- استعراض قدرات الردع الاستراتيجي: قد تكون محصلة اعتبارات التسليح الأمريكي والغربي مفيدة عموماً لأوكرانيا في استمرار الدورة التشغيلية للحرب، لكن قد يكون الأصعب من ذلك هو استمرار موسكو في استعراض قدرات الردع الاستراتيجي، وأحدثها إعلان روسيا يوم 2 سبتمبر الجاري دخول صاروخ "سارمات" (Sarmat) البالستي العابر للقارات في الخدمة القتالية، الأمر الذي يشكل متغيراً جديداً في موازين القدرات العسكرية عالمياً، حيث يمكن للصاروخ حمل نحو 10 رؤوس نووية تدميرية، ويصل مداه إلى 18 ألف كيلومتر، بحسب التقديرات الأمريكية. وعلى الرغم من طبيعة هذه الرسالة الروسية المتعلقة بموازين الردع العالمي، فإنها تنطوي في الوقت ذاته على تثبيت موسكو موقفها من عواقب المحاولات الغربية لتجاوز "الخطوط الحمراء" في الحرب مع أوكرانيا.

صعوبة الحسم:

لا يزال من المُبكر تطوير أوكرانيا هجوماً مُضاداً نشطاً ضد روسيا، وقد يعكس ذلك القاسم المشترك في أغلب التقديرات الاستراتيجية، وهو أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن إمكانية حسم الحرب الأوكرانية عسكرياً في المدى القريب، وسيظل بإمكان كييف استنزاف الجانب الروسي من دون إحداث اختراق يدفع موسكو إلى التراجع عن العملية العسكرية الحالية. والعكس أيضاً، سيظل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا عامل إحباط لإنجاز روسيا عملياتها العسكرية، أو الاستقرار في مناطق السيطرة في أوكرانيا، وربما لن تتغير هذه المعادلة إلا بتغير المعطيات الحالية في ساحة الحرب والساحة الدولية في نفس الوقت.

كذلك، هناك أبعاد سياسية مؤثرة، مثل استقالة بن والاس، وزير الدفاع البريطاني، والتي تُعد خسارة أوكرانية لحليف مهم، بالإضافة إلى انشغال فرنسا خارجياً في الساحل الإفريقي للتعامل مع عواقب الانقلابات هناك، بينما تخشى ألمانيا من انعكاسات فاتورة الحرب المُمتدة على الطلب الدفاعي المحلي، وقد يكون هناك متغيرات أيضاً في الموقف الأمريكي بسبب الانتخابات القادمة في 2024، وهو الأمر ذاته بالنسبة لروسيا التي تقترب هي الأخرى من الانتخابات العام المقبل.

وربما بدأت أوكرانيا تتفهم تقلبات السياسة الدولية وتأثيراتها في الحرب، لذا تولى السياسي رستم أميروف منصب وزير الدفاع الأوكراني، خلفاً للوزير السابق أوليكسي ريزنيكوف، ولأميروف خلفية تفاوضية في صفقات الحبوب. وسيكون لتغير قيادة الدفاع هذه انعكاسات هيكلية وترتيبات ميدانية جديدة، كما أنها تعني سياسياً إقرار كييف بالحاجة إلى تغيير في الوضع العسكري في ظل تباطؤ عمليات الهجوم المُضاد بالرغم من إقرارها بعكس ذلك. بالإضافة إلى ذلك، تتبنى أوكرانيا إطلاق عملية تصنيع محلي للأسلحة والذخائر بدعم أوروبي. وكل هذه التطورات ربما لن تظهر آثارها الفورية في ساحة المعركة على الأقل في المرحلة الحالية.