• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
دراسات

حدود مفكّكة: سورية وتركيا وظاهرة الكانتونات


نشر معهد Carnegie Middle East Center دراسة للكاتبين أرميناك توكماجيان,  وخضر خضّور، بعنوان: حدود مفكّكة: سورية وتركيا وظاهرة الكانتونات، ويرى الكاتبان أنه على الرغم من وجود مفاوضات بين سوريا وتركيا، وما قد ينتج عنها، الا أنّ ظاهرة "الكانتونات" ستستمر، بالاضافة إلى أنّ أي توجّه للنظام السوري في السيطرة على الشمال السوري لا يمكن أن يتحقق نتيجة "التجربة في درعا" أضف إلى ذلك يرى الكاتبان أن النظام في الوقت الحالي "شبه عاجز" عن عن "استيعاب الشمال الغربي الخاضع لسيطرة الثوّار، وسكّانه". وفي ما يلي نص الدراسة مترجم الى العربية:

قد تُحدث المفاوضات الجارية بين سورية وتركيا تعديلات على حدود مناطقهما الحدودية المشتركة، لكنها لن تغيّر واقع الكانتونات بشكل جذري.

ملخّص

أسفرت عوامل عدة مرتبطة بالحرب السورية عن تقسيم الأراضي الحدودية في شمال البلاد إلى كانتونات. فأصبحت خمس مناطق واقعة على الحدود الشمالية وممتدّة من الشرق إلى الغرب تتمتّع بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، إلا أن أربعة منها تحظى بدعم من تركيا، لا بل تعتمد عليها. قد تفضي المفاوضات غير المباشرة الجارية بين تركيا وسورية، اللتَين كانتا متخاصمتَين في السابق، إلى إدخال تعديلات على حدود هذه الكانتونات، إلا أنها لن تؤدّي إلى تغيير ظاهرة الكانتونات ناهيك عن زوالها.

محاور أساسية

بات تقسيم جزء كبير من شمال سورية أمرًا واقعًا نتيجة عوامل عدة هي التدخل التركي، والعملية العسكرية التي نفّذها النظام السوري بدعم روسي، وتحوّل المنظومة التجارية في وقت سابق من حلب نحو جنوب تركيا، واقتصاد قائم على المساعدات العابرة للحدود والخاضعة بشكل متزايد لسيطرة تركيا، ومسار الأستانة للسلام الذي بدأ في العام 2016 وما زال مستمرًا.

بفضل مسار الأستانة جزئيًا، أصبحت تركيا قادرة على تحويل تركيزها من دعم مشروع المعارضة السورية الرامي للإطاحة بنظام الأسد، إلى مواجهة ما اعتبرته المشكلة الكردية على حدودها الجنوبية.

أفضى مسار الأستانة إلى حدوث تقارب أمني بين دمشق وأنقرة. فقد تطوّرت المفاوضات غير المباشرة من خلال الأستانة إلى محادثات بوساطة روسية وخارج هذا الإطار، إنما كانت مستوحاة منه.

خلاصات

تحقّقت الاستدامة الاقتصادية للكانتونات السورية التي شكّلتها تركيا من خلال العمليات العسكرية نتيجة الوضع القائم الذي أفرزته الحرب والمتمثّل في النشاط التجاري الواسع عبر الحدود، وتنامي السيطرة التركية على قنوات المساعدات الدولية.

إذا راودت النظام السوري أي أوهام باستعادة السيطرة على الشمال الغربي، فلا شك من أن تجربته في درعا، التي هي أقل تعقيدًا من الناحية الاجتماعية والسياسية وأقل كثافة سكّانية، دفعته إلى التخلّي عن هذه القناعة. العبرة الأساسية المستمدّة من درعا هي أن النظام شبه عاجز، في حال واجه معارضةً، عن استيعاب الشمال الغربي الخاضع لسيطرة الثوّار، وسكّانه.

لن تزول ظاهرة الكانتونات في المستقبل القريب. ويُرجَّح حتى أن هذه العملية لم تنتهِ بعد. ستبقى إدلب والكانتونات الثلاثة الخاضعة للنفوذ التركي قائمةً بشكل أو بآخر ريثما تتم بلورة إطار وطني يقضي بإعادة دمجها، إضافةً إلى الكانتون الشمالي الشرقي الذي يديره الأكراد، في باقي الأراضي السورية. وهذا السيناريو تحديدًا لا يزال بعيد المنال.

مقدّمة

أحدث التدخل العسكري الروسي في سورية في العام 2015 تغييرًا في ديناميكيات الحرب التي شهدتها البلاد، والتي بدأت على شكل انتفاضة مدنية في العام 2011 وسُرعان ما تحوّلت إلى صراع مسلّح في العام التالي. واستطاع التدخل الروسي في نهاية المطاف أن يضع حدًّا لطموحات مجموعات المعارضة السورية وداعميها الدوليين التي هدفت إلى إسقاط النظام، ومكّن الرئيس بشار الأسد من استعادة أراضٍ كان قد خسرها لصالح مجموعات المعارضة المسلحة. وحدثت نقطة التحوّل في العام 2016، حين شنّ النظام حملة عسكرية في حزيران/يونيو، بمساعدة من روسيا، ولا سيما سلاحها الجوي. وبحلول كانون الأول/ديسمبر، أي عند انتهاء هذه العملية، نجحت القوات التابعة للنظام في استعادة سيطرتها على حلب، فأتى هذا الانتصار بعد سلسلةٍ من الهزائم الكثيرة التي مُني بها النظام في ساحة المعركة.

وفي العام 2016 كذلك، بسطت تركيا نفوذها بشكل أكبر بكثير على تدفّق المساعدات الإنسانية الموجّهة إلى سورية، بعد أن أصبحت منذ العام 2014 مركزًا أساسيًا لها، واتّضح أن حملة المساعدات هذه هي من بين أكبر حملات المساعدات وأكثرها تعقيدًا في التاريخ. صبّ هذا الأمر، إضافةً إلى واقع أن نزوح أعداد هائلة من السوريين إلى جنوب تركيا ومناطق شمال غرب سورية الخاضعة لسيطرة الثوار قد نقل جوانب كثيرة من النشاط الاقتصادي بين البلدَين من حلب إلى المناطق الحدودية، في خدمة مساعي أنقرة الرامية إلى تأمين الاستدامة الاقتصادية للمناطق التي شكّلتها لاحقًا في شمال سورية لمجموعات الثوار السوريين المتحالفين مع تركيا. بالفعل، أطلقت تركيا في وقتٍ لاحق من العام 2016 عملية درع الفرات التي كانت الأولى من بين عمليات عسكرية عدة نفّذتها في سورية، وأدّت إلى إنشاء منطقة تحمل الاسم نفسه وتخضع لسيطرة تركيا في شمال غرب سورية، ما أماط اللثام عن نهج تركي جديد حيال النزاع السوري، اكتسى طابعًا تدخّليًا بامتياز.

دفعت نزعة النظام السوري الانتقامية ونزعة أنقرة التدخّلية كلًّا من روسيا وإيران وتركيا إلى إطلاق محادثات الأستانة للسلام في أواخر العام 2016. شكّل مسار الأستانة إطار عمل أتاح لكلٍّ من موسكو وأنقرة وطهران والنظام السوري فتح النقاش حول مصير شمال غرب سورية وإبرام الصفقات بدلًا من الانزلاق إلى النزاع المسلّح. شكّل مسار الأستانة أيضًا بداية تقسيم الأراضي الحدودية في شمال سورية إلى كانتونات. فيما استعاد النظام السوري وحلفاؤه السيطرة على عدد من المناطق (وتم ذلك بشكل كبير من خلال الاتفاق مع تركيا)، أصبحت المعارضة وقاعدتها الاجتماعية متركّزة أكثر في إدلب المقرّبة من أنقرة والواقعة في شمال غرب سورية والخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام. في الواقع، ومن الناحية الديموغرافية، أصبحت إدلب مركزًا للنازحين داخليًا في سورية، إذ توافد ملايين السوريين المعارضين للنظام إلى هناك بعد هروبهم أو طردهم من مناطقهم. وخلال السنوات اللاحقة، عمدت تركيا جزئيًا، ونتيجة التفاهمات التي مهّد لها مسار الأستانة، إلى تشكيل منطقتَي نفوذ إضافيتَين في شمال غرب سورية، هما عفرين في العام 2018، ونبع السلام (التي سُمّيت تيمّنًا بالعملية العسكرية التركية التي حملت الاسم نفسه) في العام 2019، وتعزيز وجودها العسكري في إدلب. لاحقًا، ومع انحسار التهديد الذي طرحه تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2016، باتت قوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد وجناحها المدني، بالتعاون مع الولايات المتحدة، يسيطران على شريحة واسعة من الأراضي في شمال شرق سورية بشكل مستقل عن ترويكا الأستانة، وعلى الرغم من معارضتها لذلك.

نتيجةً لكل ما سبق، باتت الحدود السورية الشمالية منقسمة إلى كانتونات. وتتمتّع هذه المناطق، من الشرق إلى الغرب، بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، مع أن أربعًا منها تحظى بدعمٍ من تركيا، لا بل تعتمد عليها. ولن نشهد أفول ظاهرة الكانتونات في المستقبل القريب، لكن قد تتواصل عملية تعديل حدودها. في الواقع، لم تسهم المفاوضات التي جرت مؤخرًا بوساطة روسية بين تركيا ونظام الأسد إلا في التأكيد على استمرارية هذه الظاهرة. ولم تتوقف الاجتماعات بين المسؤولين الأتراك والسوريين بوساطة موسكو، على الرغم من الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا في شباط/فبراير 2023 وأضراره الفادحة. ويُعزى ذلك إلى أن الوضع في الكانتونات الأربعة في شمال غرب سورية، وفي سورية عمومًا، قد يشكّل مصدرًا للمشاكل بالنسبة إلى أنقرة، التي تدرك أنها لن تتمكّن من إرساء الاستقرار على الحدود ما لم تتوصّل إلى تفاهم مع نظام الأسد. وستتمثّل النتيجة الأوسع لأي تفاهم مماثل، حتى لو انطوى ذلك على تعديل حدود إحدى المناطق الشمالية الغربية أو كلها، في ترسيخ ظاهرة الكانتونات على طول الحدود التركية السورية.

تبدُّل جهود إيصال المساعدات إلى سورية من إدارة دولية إلى سيطرة تركية

حين اندلعت أولى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في ربيع العام 2011، لم يتخيّل أحد كم اتّساع حجم الحرب والدمار والأزمة الإنسانية التي ستعصف بالسوريين. كان العام 2011 مليئًا بالاحتجاجات والقمع من النظام وعمليات الكرّ والفرّ التي نفذّتها مجموعات المعارضة، بيد أن النزاع تحوّل في العام 2012 إلى حرب داخلية شاملة شاركت فيها دول عدة، وازدادت مستويات العنف بشكل ملحوظ.1 وبحلول نهاية العام 2012 وبداية العام 2013، فقد النظام سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي لصالح مجموعات ثورية مختلفة. وسحبت دمشق قواتها من المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال شرق البلاد خلال صيف العام 2012، وبدأت أيضًا بتكبّد خسائر لصالح الثوّار في المناطق الريفية لمحافظات دير الزور وحلب وإدلب، التي بات يحكمها جميعها عدد كبير من المجموعات المسلحة وهيئات المعارضة المدنية الناشئة في البلاد. واتّضح من هذا النمط، الذي استمر إلى العامَين 2014 و2015، أن أعدادًا متزايدة من السوريين لم يعودوا يخضعون لسيطرة النظام بل لحكم مجموعات ثورية متنوعة.

من منظور اقتصادي، عنى فقدان النظام السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي أن نمط النشاط الاقتصادي في تلك المناطق شهد تحوّلًا كبيرًا. في شمال غرب البلاد، أصبحت المعابر الحدودية مع تركيا البوابة الأساسية إلى الخارج، لحركة الأشخاص ووصول المساعدات الإنسانية والسلع التجارية. قبل العام 2011، كانت حلب المركز الاقتصادي والإداري الأساسي في الشمال الغربي، لكنها باتت مهمّشة في أواخر العام 2012، إذ انقسمت بين النظام ومعارضيه. فتحوّل النشاط الاقتصادي نحو المناطق الحدودية الشمالية، وباتت تركيا المصدر أو الممر الأساسي للنشاط التجاري.

وعلى ضوء هذه التغييرات، تشكّل اقتصاد عابر للحدود بمليارات الدولارات. ففي العام 2014، بلغت قيمة الصادرات التجارية التركية إلى سورية عبر المناطق الشمالية الغربية حوالي 1.8 مليار دولار، مقتربةً من مستويات ما قبل العام 2011، بعد انخفاضها في العام 2012. وأصبح جنوب تركيا، ولا سيما غازي عنتاب، وجهة أساسية لمجتمع الأعمال السوري. فقد نقل عدد كبير من السوريين أعمالهم إلى تركيا، لكنهم واصلوا تزويد الأسواق نفسها، مثل العراق ودول الخليج، من مركزهم الجديد. باختصار، لم يصبح السوريون، الذين نقلوا أعمالهم إلى جنوب تركيا جزءًا من الاقتصاد التركي وحسب، بل أيضًا جزءًا من اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الثوّار في شمال غرب سورية.

إضافةً إلى بروز اقتصاد عابر للحدود مقرّه تركيا، تنامى دور أنقرة باعتبارها نقطة انطلاق لإرسال الكميات الكبيرة والمتزايدة من المساعدات الإنسانية إلى سورية. في البداية، كانت معظم المساعدات التي تدخل إلى البلاد تمرّ عبر دمشق وفق شروط النظام. كانت قدرة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية العاملة من دمشق على الوصول إلى الشمال محدودة. ويُعزى سبب ذلك جزئيًا إلى صعوبات لوجستية، وإلى أن النظام منع تسليم المساعدات عبر خطوط النزاع (أي المساعدات التي تُرسل إلى دمشق أولًا ثم إلى مناطق المعارضة عبر الخطوط الأمامية، أو خطوط التماس)، ورفض إيصال المساعدات عبر الحدود إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الثوّار باعتبار ذلك انتهاكًا لسيادة البلاد. لكن بدءًا من منتصف العام 2013، رزحت الأمم المتحدة للضغوط المتزايدة التي مارستها منظمات غير حكومية دولية كبيرة - مثل أطباء بلا حدود، ومنظمات إغاثة مرتبطة بالمعارضة السورية، وتحالف "أصدقاء سورية"، الذي يضمّ دولًا غربية وعربية داعمة للمعارضة - للسماح بدخول المساعدات عبر الحدود من تركيا من دون الحصول على موافقة مسبقة من النظام. وفي شهر تموز/يوليو 2014، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2165، الذي أجاز دخول المساعدات المُرسلة من دول عدّة، بما فيها تركيا، عبر الحدود من دون موافقة الحكومة السورية.

شكّلت هذه الخطوة تحوّلًا رئيسًا، إذ وضعت الأساس القانوني لعمل الأمم المتحدة مباشرةً في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، وربما الأهم أنها منحت غطاءً قانونيًا لمنظمات كانت تقدّم مثل هذه المساعدات عبر الحدود بشكل أو بآخر. بقيت مساهمة الأمم المتحدة خجولة خلال العام 2014، أي عام إصدار القرار 2165. ومع أن دورها ازداد على مدى السنوات، فإن منظمات من خارج منظومة الأمم المتحدة استمرّت بتسليم الحصة الأكبر من المساعدات العابرة الحدود.

سهّلت أنقرة من جهتها عملية تسليم المساعدات من خلال السماح لجنوب تركيا بأن يصبح مركزًا للعمليات العابرة للحدود من دون فرض الكثير من القيود والتنظيمات على المنظمات غير الحكومية الدولية. وساهمت أيضًا في تنظيم عملية تسليم المساعدات إلى سورية، في ما سُمي بـ"عملية النقطة صفر" التي جسّدت الدور التيسيري الذي لعبته تركيا. وأشارت وثيقة صادرة عن منظمة الهلال الأحمر التركي إلى أن عملية النقطة صفر بدأت في آب/أغسطس 2012. أمكن للمنظمات غير الحكومية الراغبة في تسليم مساعدات "عينية" إلى سورية، القيام بذلك بالتنسيق مع رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث التركية ومنظمة الهلال الأحمر التركي، اللتَين عملتا على تخليص البضائع ونقلها في شاحنات تابعة لمنظمة الهلال الأحمر إلى النقطة صفر، وهي عبارة عن معبر حدودي مع سورية مخصّص لهذه الغاية، مثل باب الهوى أو باب السلامة. وإذا استلزم الأمر الحصول على إذن مسبق من الوالي، عملت منظمة الهلال الأحمر على تسهيل ذلك. وعند النقطة صفر، كانت تُفرّغ الشاحنات التابعة للهلال الأحمر حمولتها وتُنقَل إلى شاحنات سورية تؤمّنها المنظمة المُتلقية للمساعدات داخل سورية.

وكان هذا المجهود كبيرًا. ففي العام 2014 مثلًا، سهّلت منظمة الهلال الأحمر التركي عملية نقل مساعدات إنسانية بلغت قيمتها 220 مليون دولار. وبقي هذا النظام قائمًا حتى ما بعد إصدار القرار 2165 في منتصف العام 2014، والذي أجاز لوكالات الأمم المتحدة نقل المساعدات عبر الحدود.

 انتهى دور تركيا فعليًا عند النقطة صفر، نقطة التقاء المنظمات الإنسانية الدولية بالشركاء السوريين المعنيين بالتنفيذ. رسميًا، شملت التدابير تحقّق السلطات التركية من السلع وإجراء تدقيق أمني حول الشريك المتلقي. لكن، أشارت تقارير كثيرة إلى العيوب التي انطوت عليها هذه الآلية. أولًا، كان من الممكن نقل المساعدات إلى سورية من دون تنسيق مسبق، مثلًا من خلال الذهاب مباشرةً إلى معبر باب الهوى. ثانيًا، حتى مع التنسيق في الكثير من الأحيان، افتقدت الآلية إلى رقابة دقيقة من منظمة الهلال الأحمر التركي أو رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث. علاوةً على ذلك، لم تضع تركيا آلية واضحة لمراقبة وجهة المساعدات الفعلية بعد عبورها الحدود.

وفي العام 2014، بدأت تركيا تدريجيًا في الانخراط بشكل مباشر أكثر في مسألة المساعدات الإنسانية. واتّضح لاحقًا أن السبب هو أن أنقرة كانت تسعى إلى الإشراف على إمدادات المساعدات وحتى إدارتها، بدلًا من تسهيل عمل المنظمات غير الحكومية الدولية، لاعتقادها بأن هذه المنظمات تجمعها علاقات وطيدة بوكالات الاستخبارات الغربية، وأنها لا تكنّ احترامًا كبيرًا للدولة التركية، وحتى أنّها تقوّض المصالح الوطنية التركية من خلال دعم المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في سورية.

على سبيل المثال، دفعت أنقرة المنظمات غير الحكومية الدولية إلى التسجيل رسميًا. ثم في العام 2015، طالبت موظفيها بالاستحصال على تصاريح عمل. وبعد أن تعزّزت آلية الأمم المتحدة الجديدة عبر الحدود في العام نفسه، أنشأت أنقرة نظام تسجيل جديدًا بحيث تعيّن على المنظمات غير الحكومية الدولية التسجيل والحصول على موافقة السلطات التركية المعنية. وفي العام 2016، شدّدت تركيا القيود أكثر، وأجرت في الوقت نفسه عمليات تدقيق مفاجئة وزيارات إلى مكاتب المنظمات غير الحكومية الدولية لمقابلة الموظفين والاطّلاع على الوثائق. علاوةً على ذلك، اتّخذت تركيا إجراءات صارمة ضدّ نظام الحوالة من خارج النظام المصرفي الرسمي، الذي سهّل تحويل مبالغ مالية ضخمة من دون وجود وثائق تُثبت إجراء التحويل. وبلغت الأمور ذروتها في فترة شباط/فبراير وآذار/مارس 2017، عندما طُردت منظمة ميرسي كوربس الأميركية، التي عملت في تركيا وأعلنت أنها كانت تقدّم مساعدات لنحو 500,000 شخص شهريًا في شمال سورية، من دون أي شرح أو تفسير.

تركيا والنظام السوري: تشكيل واقع سياسي جديد في الشمال السوري

تزامن طرد منظمة ميرسي كوربس مع أول تدخل عسكري مباشر لتركيا في سورية حمل اسم درع الفرات، وذلك في العام 2016. وتبعت هذا التدخل حملتان في العامَين 2018 و2019 على التوالي. ومن خلال هذه العمليات العسكرية الثلاث الكبرى، التي ضمّت جميعها مجموعات من الثوّار السوريين المدعومين من أنقرة إلى جانب القوات التركية، أنشأت تركيا ثلاثة كانتونات في شمال غرب سورية (وهي درع الفرات وعفرين ونبع السلام)، ووسّعت مظلّة الحماية إلى كانتون رابع (وهو إدلب الخاضعة لسيطرة الثوّار). لكن ذلك لم يكن كافيًا لضمان استمرارية هذه الكانتونات، بل حدث ذلك إلى حدٍّ بعيد نتيجة الوضع القائم الذي أفرزته الحرب والمتمثّل في النشاط التجاري الواسع عبر الحدود وتنامي السيطرة التركية على قنوات المساعدات الدولية.

لم تكن خطوات أنقرة عفوية. فعلى سبيل المثال، شنّت عملية درع الفرات، أولى الحملات العسكرية الثلاث، نتيجة تنسيق وثيق مع موسكو. في المقابل، دعمت روسيا محاولات النظام السوري الرامية إلى استعادة منطقة شرق حلب الخاضعة لسيطرة الثوّار من دون الشعور بالقلق حيال حدوث ردّ فعل عكسي من تركيا. وكما تبيّن، قضى التدخل الروسي المباشر في النزاع على إمكانية إطاحة المعارضة بالنظام، ومكّن دمشق من استعادة مساحات واسعة من الأراضي التي خسرتها لصالح الثوّار، الذين باتوا يتمركزون في الجزء الشمالي الغربي من البلاد.

اليوم، يُعدّ نظام الأسد الطرف المحلّي الوحيد القادر على توسيع سيطرته على المناطق. لكن مثل هذا التوسّع لا يمكن أن يحدث من دون تفاهم مسبق مع القوى الإقليمية والدولية التي تدعم الكانتونات في الشمال. ومن شأن أي محاولة يُقدِم عليها النظام بشكل أُحادي للاستيلاء على كانتون أن تتسبب باندلاع صراع مع تركيا (في حالات درع الفرات، وعفرين ونبع السلام، وإدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام) أو الولايات المتحدة (التي تدعم قوات سورية الديمقراطية في الشمال الشرقي). علاوةً على ذلك، حتى لو توصّلت دمشق إلى اتفاق من نوع ما مع أنقرة، بوساطة روسية مثلًا، لتوسيع رقعة نفوذها بشكل ملحوظ في الشمال الغربي الخاضع لسيطرة الثوّار، فهي لن تكون قادرة على إدارته كمنطقة واحدة. وخير مثال على ذلك الصعوبة التي يواجهها النظام في فرض سيطرته على درعا منذ العام 2018. وعلى الرغم من أن دمشق تمكّنت من تأمين بعض الطرقات والأصول الاستراتيجية، والتخلّص من منافسيها، واستخراج الموارد، فهي غير قادرة على السيطرة بشكل فعلي على كامل درعا، بسبب مشاعر السخط الذي لا تزال سائدة، أو توفير الخدمات إلى السكان المحليين.

تركيا تؤدّي دورًا تدخّليًا

في كانون الأول/ديسمبر 2016، حين كانت عملية درع الفرات تسير على قدم وساق، أنشأت روسيا وتركيا وإيران إطارًا تفاوضيًا لشمال غرب سورية، أُطلق عليه اسم مسار الأستانة للسلام، تيمّنًا بالمدينة التي انعقدت فيها الاجتماعات في كازاخستان، وانطلق الإطار واضعًا نصب عينيه هدفَين اثنَين. تمثّل الأول في تهميش مسار جنيف للسلام، الذي لم يسفر عن أي نتائج. وتمحور الثاني حول توفير منصة لروسيا وتركيا وإيران للتفاوض في ما بينها حول سورية، ولا سيما حول المناطق الشمالية الغربية. وأصبحت تركيا قادرة على تحويل تركيزها من دعم مشروع المعارضة السورية الرامي إلى الإطاحة بنظام الأسد، إلى البحث عن سبل لمواجهة ما أسمته المشكلة الكردية وقضايا أخرى على حدودها الجنوبية. وانطلق ذلك بالتنسيق مع إيران وروسيا، اللتَين منح تعاونهما في إطار الأستانة تركيا نوعًا من المرونة في ما يتعلق بخياراتها في شمال غرب سورية.

وخلال السنوات التي أعقبت عملية درع الفرات، نفّذت تركيا عمليتَين عسكريتَين إضافيتَين، بما يتماشى مع تفاهمات مستوحاة من مسار الأستانة. وفي العام 2018، طردت أنقرة وحدات حماية الشعب التي يهيمن عليها الأكراد من عفرين ذات الأغلبية الكردية، في إطار عملية إنشاء كانتون سوري ثانٍ تابع لتركيا. وفي العام 2019، أنشأت تركيا كانتون نبع السلام الذي يصل إلى عمق 30 كيلومترًا من الحدود، ضمن منطقة خاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، التي تشكّل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري. ومن خلال مسار الأستانة، عزّزت القوات التركية حضورها في إدلب، التي كانت خاضعة لحكم هيئة تحرير الشام إنما واقعة تحت حماية تركيا.

إلى جانب الأنشطة العسكرية، عزّزت تركيا أدوارها في مجالات عدة، مثل المساعدات الإنسانية وإرساء الاستقرار والحوكمة. في الواقع، شدّدت منظمة الهلال الأحمر التركي على أن عمليات الإغاثة التي نفّذتها منذ شهر آب/أغسطس 2012 "لم تنتهك حقوق [السوريين] على الحدود"، إلى حين بدء التدخّل التركي في سورية. لكن مع توغّل أنقرة في الشمال الغربي - من خلال تنفيذ عملية درع الفرات، التي تلتها عملية عفرين في العام 2018 ثم عملية نبع السلام في العام 2019 - أعادت رسم الحدود المُعترف بها دوليًا بصورة أحادية. فقد وسّعت القوات التركية المعابر الحدودية الصغيرة القائمة وفتحت معابر جديدة. وتحديدًا، قامت بتوسيع معبَري جرابلس والراعي في منطقة درع الفرات كي يكونا معبريَن مدنيَين إنسانيَين تجاريَين في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وأيار/مايو 2017 على التوالي. كذلك، وعلى عكس السنوات الأولى من خطة الاستجابة الإنسانية، راقبت تركيا عن كثب السلع التي دخلت عبر المعابر الحدودية والجهة التي تولّت نقلها.

وفي الوقت نفسه، رُبطت المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في سورية بأقرب ولاية تركية، وتولّى الولاة المعنيون إدارة كل منطقة بحكم الأمر الواقع. فعلى سبيل المثال، وبعد فترة وجيزة من انتهاء عملية درع الفرات، قامت رئيسة بلدية غازي عنتاب بزيارة جرابلس، مشيدةً بنجاح بلادها في تحسين الخدمات البلدية. وأصبحت مثل هذه الزيارات للمسؤولين الأتراك، بمن فيهم مسؤولين رفيعي المستوى، مثل وزير الداخلية، شائعة وعبّرت عن نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة. وعلى المستوى العملي، عيّنت السلطات التركية "مساعدين للولاة" ليكونوا وسطاء بينهم وبين المجالس المحلية في سورية. عمومًا، يتمتع هؤلاء المسؤولون الأتراك بسلطة قوية على السكان المحليين.

الجدير بالذكر أن بعض القطاعات تخضع لإشراف الوزارات التركية المعنية بشكل مباشر، ويعمل موظفوها بالتنسيق مع الموظفين السوريين المحليين والهيئات التركية التي تعمل في سورية. فعلى سبيل المثال، احتكرت تركيا بعض القطاعات منذ فترة 2016-2017 مثل التعليم والصحة في منطقة درع الفرات، فضلًا عن إدارة المخيمات في مناطق أخرى، خصوصًا في عفرين ونبع السلام. إضافةً إلى ذلك، يشكّل القطاع الخاص التركي جزءًا لا يتجزأ من جهود تركيا لإرساء الاستقرار في شمال سورية. فقد نفّذت شركات البناء التركية مثلًا مشاريع سكنية وأخرى للبنى التحتية. كذلك، يشكّل قطاع الاتصالات مجالًا آخر تستثمر فيه الشركات التركية الخاصة من خلال شركاء محليين مختارين بعناية يتولّون إدارة الأعمال من الجانب السوري، على حدّ تعبير أحد هؤلاء المستثمرين.

وفي ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، تتولّى رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث التركية تنسيق العمليات في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال غرب سورية. ويتعيّن على أي منظمة ترغب في العمل في أيٍّ من الكانتونات الثلاثة الخاضعة لسيطرة تركيا، التسجيل في أنقرة والتنسيق مع مختلف الهيئات الحكومية التركية. ربما يتجلّى هذا الأمر بأوضح صوره في عفرين، حيث يتعيّن على أي منظمة تعمل في عفرين التسجيل في تركيا والتنسيق مع رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث. ويبلغ عدد المنظمات العاملة في عفرين حوالي الخمسين، تنقسم بين منظمات تركية (مثل هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات، وشركة حياة، ومنظمة الهلال الأحمر التركي) أو سورية (مثل منظمة الأمين للمساندة الإنسانية، ومنظمة بهار، والجمعية الطبية السورية الأميركية - سامز، ومؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، وغيرها). وتعمل جميعها تماشيًا مع السياسات التركية وتتلقّى التمويل من مصادر خضعت لتدقيق أنقرة.

لقد أنشأت تركيا نظام مساعدات موازٍ يعمل إلى جانب النظام القائم (بقيادة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية الغربية)، في إطار علاقة غريبة يتخلّلها تعاون وتنازع على السلطة في آنٍ معًا. مثلًا، نتيجة معارضة الغرب للعملية العسكرية التركية التي أنشأت كانتون عفرين، لم تحصل أي منظمة مموَّلة من الحكومات الغربية على تصريح للعمل هناك. وكان سيناريو نبع السلام مشابهًا لعفرين لأسباب سياسية ترتبط بشكل أساسي بالعامل الكردي وقرار تركيا شنّ العملية على الرغم من المعارضة الغربية. لكن التشابه الآخر يتمثّل في أن تركيا سعت إلى إملاء كيفية تدفّق المساعدات إلى المنطقة، ما تسبّب بخلاف بينها وبين المنظمات غير الحكومية الدولية الكبيرة والأمم المتحدة، التي عارضت تسييس تركيا للمساعدات.

وفي منطقة درع الفرات، لا تزال أنظمة المساعدات الغربية تعمل إلى جانب الأنظمة التركية. فقد استمرت مثلًا عمليات الأمم المتحدة في مخيمات النازحين داخليًا، بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية الدولية والمنظمات السورية ومن دون أي تدخّل يُذكر من تركيا. مع ذلك، ولا سيما منذ العام 2021، رفضت تركيا أحيانًا مساهمات المنظمات الإنسانية أو أملت شروط تسليم المساعدات. وهكذا، بدلًا من أن تسمح أنقرة لمنظمات الإغاثة الأجنبية التي لا تثق بها بقيادة العملية، حرصت أنقرة على أن تتولّى المنظمات التركية قيادة العمليات وتنفيذ البرامج على الأرض.

علاوةً على ذلك، كانت أنقرة مدفوعةً بالرغبة في التصدّي للوجود الكردي في المنطقة، ومنع موجات جديدة من النزوح، وحتى إعادة اللاجئين السوريين إلى شمال سورية. بحسب وزير الداخلية التركي، عاد حوالي 500,000 سوري إلى وطنهم "طواعيةً" بحلول نهاية العام 2022 (وهو رقم لا يمكن التحقق منه بشكل مستقل). وذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مناسبات عدّة أيضًا أن بلاده تعمل على إعادة مليون سوري إلى نحو 200,000 منزل في 13 موقعًا مختلفًا في شمال غرب سورية، على أن تغطي تكاليف ذلك المساعدات الخارجية.

وعلى الرغم من التحديات وأوجه القصور، ولا سيما خلال المراحل الأولى من النزاع، ساهمت الإجراءات التركية في المجال الإنساني ومشاريعها الأخرى في الحؤول دون تدهور الوضع بشكل إضافي في مناطق الشمال الغربي، وتحسين توافر المواد الغذائية، والكهرباء، والمسكن، والخدمات المصرفية والتعليمية والصحية. لا شكّ في أن النهج الذي اعتمدته تركيا كان سياسيًا وليس إنسانيًا فحسب. وكان عبارةً عن مجهود مدروس كُلِّف به مسؤولون رفيعو المستوى (على غرار الوالي، ومسؤولين بارزين في رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث التركية، ووزارة الداخلية) لإرساء الاستقرار في المنطقة بالتعاون مع منظمات إغاثة محدّدة. وقد نجح هذا المسعى عمومًا، ناهيك عن أن السياسة التدخلية التي انتهجتها تركيا منحتها رأيًا أساسيًا في تقرير مصير المناطق الحدودية الشمالية الغربية لسورية.

درعا وحدود النزعة الانتقامية للنظام السوري

أصبح الشمال الغربي الخاضع لسيطرة الثوّار، من خلال تحوّله ملاذًا لأولئك الذين إما لم يستطيعوا التعايش مع النظام وإما طُرِدوا على يده، بؤرة النزوح الداخلي في البلاد. ومن العوامل الأساسية المساهِمة في هذه النزعة حملات الحصار والقصف والطرد التي شنّها النظام بين العامَين 2016 و2018 على أجزاء عدة من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة في مختلف أنحاء سورية، مثل الغوطة الشرقية، ودوما وريف حمص وغيرها. ففيما كان النظام يتقدّم باتجاه هذه الجيوب، طُرِد جزءٌ من السكان أو فرّوا إلى الشمال الغربي. صحيحٌ أن هذه العملية ساهمت في تسهيل سيطرة النظام على هذه المناطق التي كانت معادية له في السابق، إلا أنها جعلت سيطرته على الشمال الغربي في المستقبل أصعب وأبعد منالًا إلى حدٍّ كبير.

في الواقع، إذا راودت النظام السوري أي أوهام باستعادة السيطرة على الكانتونات الأربعة في الشمال الغربي، فلا شك من أن تجربته في درعا، التي هي أقل تعقيدًا من الناحية الاجتماعية والسياسية وأقل كثافة سكّانية، دفعته إلى التخلّي عن هذه القناعة. فعلى الرغم من أن روسيا توسّطت للتوصّل إلى اتفاق ساعد النظام على إعادة إحكام سلطته على درعا التي كانت خاضعة لسيطرة الثوّار في جنوب سورية في العام 2018، لا تزال دمشق تفتقر إلى السيطرة الكاملة وتواجه مقاومة ضارية فيها. لقد نجحت، خلال الأعوام القليلة الماضية، في توسيع سيطرتها العسكرية والأمنية على المناطق الحضرية في محافظة درعا حيث ثمة بنى تحتية مهمة، وتمكّنت من إقناع الشبكات المتجذّرة محليًا (ومن ضمنها أعضاء سابقين في المعارضة المسلّحة) بتبديل موقفها، وعمدت إلى تصفية بعض أعدائها. ولكن النزاع المزمن قوّض قدرة النظام على الحكم وتوفير الخدمات الأساسية. وهكذا، اتّخذت المقاربة التي يتّبعها النظام، في جوهرها، طابعًا أمنيًا، إذ تستخرج دمشق الموارد من دون أن تتمكّن من حكم الأراضي والسكّان الذين تشرف عليهم.

ألحق النظام الهزيمة بالمعارضة في العام 2018 بمساعدة روسية، لكنه لم يستعِد السيطرة على درعا دفعةً واحدة. ظلّ عدد قليل من الجيوب، أبرزها منطقة بصرى الشام، وأجزاء من مدينة درعا ومنطقة طفس، في أيدي مجموعات كانت تنتمي سابقًا إلى المعارضة وقد سُمِح لها، بفضل الاتفاق الذي أُبرِم بوساطة روسية، بالاحتفاظ بأسلحتها الخفيفة. وبين العامَين 2018 و2021، شنّ النظام عمليات عسكرية عدة أسفرت عن تصفية عناصر في هذه المجموعات، أو إدماجهم في صفوفه، أو طردهم (إلى الشمال الغربي). وتمكّن النظام من تعبئة قواته، والتقدّم مباشرةً باتجاه منطقة معيّنة، وتحقيق النجاح العسكري. ولكنه كان ولا يزال عاجزًا عن فرض سيطرته الفعلية على محافظة واسعة تأوي أعدادًا كبيرة من السكان المستائين منه. وحتى اليوم، تلازم القوى الأمنية التابعة للنظام، في مناطق مثل نوى وجاسم ودرعا البلد، مقارّها أو ثكناتها خلف الأبواب الموصدة بعد حلول الظلام، خوفًا من التعرّض لهجوم. يسهم هذا الوضع، الذي هو أقرب إلى حرب منخفضة الحدّة، في زعزعة الاستقرار في المنطقة.

في مواجهة هذا الواقع، سعى النظام من جهة إلى السيطرة على البنى التحتية الاستراتيجية التي تدرّ الإيرادات، واتّبع من جهة أخرى نهجًا أمنيًا لترويض المعارضين. على سبيل المثال، فرضت قوات النظام سيطرتها على معبر النصيب عند الحدود مع الأردن في العام 2018 (بعدما كانت قد خسرته في نيسان/أبريل 2015)، فربطت بذلك بين دمشق والأردن. ومنذ العام 2018، ازدادت الحركة التجارية، ما أمّن إيرادات للدولة إنما أيضًا لقوات النظام التي تنتشر على الطريق وتبتزّ الأموال من التجّار الذين ينقلون البضائع وحتى من السائقين العاديين. ومنذ العام 2018، تناوبت فصائل عدّة في الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة للنظام على السيطرة على الطريق السريع، وخاضت أحيانًا قتالًا في ما بينها من أجل فرض سيطرتها. وفي كانون الثاني/يناير 2023، استولت الفرقة الرابعة المدرّعة التابعة للنظام، بقيادة ماهر الشقيق الأصغر لبشار الأسد، على المعبر.

كان لهذا النهج المرتكز على الأمن الذي اتّبعه النظام في درعا تأثيرٌ كبير على هيكليات الحكم المحلية. ويتجلّى ذلك من خلال تبدّل دور رئيس البلدية ووظيفته في البلدات والمدن. فقبل العام 2011، كان رؤساء البلديات يوفّرون، بصفتهم تكنوقراطًا وبيروقراطيين، الخدمات لناخبيهم. أما اليوم فيضطلعون بدور له طابع أمني أكبر بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات، ويشتمل هذا الدور على إسكات المعارضين. وفي هذا الإطار، أُفيد مثلًا بأن رئيس بلدية إنخل، ياسين الزامل، على صلة بفرقة اغتيالات تضم مقاتلين كانوا في المعارضة سابقًا، وتستهدف مواطنين محليين معارضين للنظام. وقد تعرّض هو لأربع محاولات اغتيال على الأقل بسبب تعاونه مع الأجهزة الأمنية.

تترافق هذه الظاهرة، في مختلف أنحاء درعا، مع تراجع قدرة الدولة على الحكم وشحّ الموارد لديها. تشهد درعا، نتيجةً لإفلاس الدولة، ظاهرة آخذة في التوسّع وتتمثّل في مبادرة السكّان المحليين إلى جمع الأموال كي تتمكّن الدولة من النهوض بدورها في توفير الخدمات الأساسية.