• اخر تحديث : 2024-05-02 13:06
news-details
تقدير موقف

هل تؤدي مشكلات نظام الظل المصرفي إلى أزمة اقتصادية عالمية؟


منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، برز نظام الظل المصرفي باعتباره من أهم الآليات المبتكرة في الأسواق المالية، نظراً إلى قدرته الفائقة على تمويل الإقراض لأغراض عقارية وأخرى غير عقارية. ونتيجةً لقدرة العديد من المؤسسات العاملة في ذلك النظام على تجنب التدقيق من قبل الجهات التنظيمية، فقد استطاعت إنشاء أدوات مالية ذات مخاطر أعلى في السوق، مع تجنب شرط الحفاظ على السيولة؛ ما مكَّن نظام الظل المصرفي في العقد التالي للأزمة المالية العالمية، من التوسع ولعب دور رئيسي في تلبية الطلب الائتماني الذي لم تُلبِّه البنوك التقليدية، وإن كان قد ترافق مع ذلك النمو مستوى أعلى من التدقيق من جانب الجهات التنظيمية، إلا أن ذلك لم يَعُقْ القطاع عن التوسع بصورة ملحوظة.

ويشير نظام الظل المصرفي إلى مجموعة من المقرضين والوسطاء غير المصرفيين، ممن يقعون خارج نطاق الخدمات المصرفية التقليدية المنظمة. ورغم ما يحمله مصطلح الظل المصرفي من معنى سلبي، فإنه تجدر الإشارة إلى كون العديد من شركات الوساطة والاستثمارات المعروفة تشارك في نشاط ذلك النظام، ومنها بنوك الظل أو الوسطاء الماليون الذين لا يخضعون للتنظيم، وصناديق التحوط، وصناديق الأسهم الخاصة، ومقرضو الرهن العقاري، وحتى البنوك الاستثمارية الكبيرة.

سمات رئيسية

يختلف نظام الظل المصرفي عن النظام المصرفي التقليدي في عدة أوجه، كما يتمتع بدوره بمزايا، وتشوبه بعض العيوب، ليشكل ذلك كله مجتمِعاً أبرز وأهم سماته. وفيما يأتي يمكن تسليط الضوء على السمات الرئيسية لنظام الظل المصرفي:

1- عدم الخضوع للوائح الحاكمة للبنوك التقليدية: تُعرَف المؤسسات التي تقدم القروض لكنها ليست بنوكاً، باسم “بنوك الظل”، وتشمل صناديق التقاعد وصناديق أسواق المال ومديري الأصول. ونظراً إلى أن بنوك الظل لا تقبل الودائع، فإنها لا تخضع للوائح التي تخضع لها البنوك التقليدية؛ ما يسمح لها بتحمل مخاطر أعلى. كذلك فإن كيانات الظل المصرفية عادةً ما تكون غير قادرة على الوصول إلى قروض الطوارئ التي تقدمها البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتي تكون متاحة للبنوك التقليدية التي تواجه أزمة سيولة. ومن ثم، يحظى نظام الظل المصرفي بطبيعة غير منظمة، في ظل عدم وجود مستوى مماثل من الحماية للأصول التي تمتلكها المؤسسات المالية غير المصرفية، عند مقارنتها بالمؤسسات المالية التقليدية.

وينظر المنتقدون للمؤسسات المالية غير المصرفية، التي يشار إليها بمصطلح نظام الظل المصرفي، على كونها غير مستعدة للتعامل مع شروط ائتمانية أكثر صرامة، في ظل طبيعة العمل غير المنظمة، وعدم خضوعها لأنواع المخاطر والسيولة والقيود على رأس المال كما الحال بالنسبة للبنوك التقليدية.

2- تقديم خيارات ائتمانية أوسع في أوقات الأزمات: يبرز الدور الكبير لنظام الظل المصرفي بشكل كبير، مع تراجع البنوك التقليدية عن أداء واجباتها، لتتولى بنوك الظل مسؤولية سد الفجوة من خلال تقديم خيارات ائتمانية أكثر خطورةً وأوسع نطاقاً؛ فمنذ الأزمة المالية العالمية، تضاعف حجم الإقراض غير المصرفي تقريباً، ليمثل نحو 49.2% من إجمالي الأصول المالية العالمية في عام 2021، بحسب بنك التسويات الدولية (BIS)؛ وذلك ارتفاعاً من 42% في عام 2008؛ حيث أضحى يسيطر على 226.6 تريليون دولار بحلول عام 2021. ولعل ذلك النمو ينبع بصورة رئيسية من تدفق الأموال، وارتفاع تقييمات هذه المؤسسات، بالتوازي مع تعافي الاقتصاد العالمي من أدنى مستوياته كأحد تبعات جائحة كوفيد–19.

3- تعزيز فرص الاستثمار وتنمية المدخرات: يعد من أهم أسباب النمو السريع لنظام الظل المصرفي، تنامي رغبة المدخرين في البحث عن فرص استثمارية مربحة عقب الأزمة المالية العالمية؛ حيث أتاح انسحاب البنوك التقليدية بعد الأزمة، فرصة كبيرة أمام المقرضين الذين سارعوا إلى تقديم حلول موجهة نحو العملاء، ووعدوا باتخاذ قرارات إقراض سريعة في المدن التي أغلقت فيها البنوك الكبرى فروعها.

وبحسب مجلس الاستقرار المالي، فإن نظام الظل المصرفي – الذي يطلق عليه مجلس الاستقرار المالي “قطاع الوساطة المالية غير المصرفية (NBFI)” – قد نما بنسبة 8.9% في عام 2021، وهو أعلى بكثير من متوسط نموه السنوي على مدار السنوات الخمس السابقة لذلك العام، البالغ 6.6%؛ وذلك عند 293.3 تريليون دولار.

4- التمتع بقدر عالٍ من المرونة والابتكار: على خلاف البنوك التقليدية، التي يتعين عليها أن تلبي متطلبات رأس المال التي تحددها الهيئات التنظيمية، فإن بنوك الظل تحتفظ بضمانات يحددها الطرف المقابل لها (المودعون والمستثمرون والمتعاملون معهم مالياً بصفة عامة)، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى خلق شبكة معقدة من الأطراف ذات المصالح المترابطة والمتشابكة. ولعل المرونة وبراعة الابتكار من أعظم مزايا الوسطاء الماليين غير المصرفيين (NBFI)؛ إذ أهَّل ذلك نظام الظل المصرفي للعمل على نحو قوي وفعال خلال العقد السابق على جائحة كورونا؛ حيث كانت أسعار الفائدة منخفضة، وكانت تلك المؤسسات تتمتع بسيولة غير محدودة، بيد أن العديد من المؤسسات المالية غير المصرفية يقع على عاتقها في الوقت الراهن، تحدٍّ كبير يتمثل في الوصول إلى ضمانات كبيرة في ظل واقع الأزمات المصرفية الكبرى التي شهدها العالم في الفترة الأخيرة.

5- الافتقار إلى الشفافية: تتسم كيانات الظل المصرفي بالافتقار إلى الإفصاح بالمعلومات حول قيمة أصولها أو ماهية أصولها، وهياكل الحوكمة، وكذلك الملكية الغامضة بين البنوك التقليدية وبنوك الظل، فضلاً عن ضعف الرقابة التنظيمية أو الإشراف الذي عادةً ما تخضع له البنوك التقليدية، والافتقار إلى القدرة على الوصول إلى الدعم الرسمي للسيولة من أموال البنوك المركزية على سبيل المثال، للمساعدة في منع البيع وقت الأزمات بثمن بخس.

6- استغلال التقنيات المتطورة: من بين جميع مجالات الإقراض غير المصرفية الشديدة التعقيد، يستحوذ التمويل اللامركزي المعروف على نطاق واسع باسم (DeFi) على مكانة مهمة، وهو يقوم استناداً إلى تقنية (blockchain)، ويمثل المنتجات التي لا تحتاج إلى وسيط أو طرف ثالث؛ حيث يتم أتمتة كل شيء عبر العقود الذكية؛حيثتستخدم تطبيقات (DeFi) خوارزميات مبرمجة مسبقاً لتوفير الائتمان في العملات المشفرة دون سلطة مركزية، مثلها مثل العديد من اتجاهات التكنولوجيا الأخرى. ولعل جاذبية (DeFi) تنبع بالأساس من قدرتها على القضاء على الوسطاء، كالبنوك والمستشارين الماليين. وعلى الرغم من أن سوق التمويل اللامركزي هو وليد بضع سنوات فحسب، فإنه نما بصورة كبيرة؛ حيث بلغ إجمالي حجم الأموال التي تتعامل بها شركات التمويل اللامركزية نحو 13.6 مليار دولار بحلول عام 2022، وفقاً لشركة أبحاث السوق (Grand View Research).

مخاطر راهنة

في الوقت الراهن، تتعرض صناعة الظل المصرفية للعديد من المخاطر والتحديات في عدة بلدان، ولعل خطورة ذلك ترجع إلى تغلغل هذه الصناعة في العديد من الاقتصادات؛ فبينما تعد الولايات المتحدة أكبر حامل لأصول الظل المصرفية – حيث تلعب صناعة الظل المصرفية دوراً في تلبية الطلب المتزايد على الائتمان في الدولة الأمريكية – فإن مؤسسات الظل المصرفية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي تمتلك غالبية إجمالي أصول الصناعة. وفي المملكة المتحدة، يمثل التمويل “القائم على السوق” ما يقرب من نصف جميع أنشطة الإقراض. ومن ثم، فإن أي مخاطر تتعرض لها هذه الصناعة في تلك الأسواق، قد يكون لها تأثيرات قوية على اقتصادات هذه البلدان. وفيما يأتي يمكن استعراض أبرز هذه المخاطر:

1- أزمة نظام الظل المصرفي في المكسيك: بعد فترة من نمو خدمات الظل المصرفية على نحو سريع في المكسيك، تعرض النظام لأزمة كان لها وقع وتأثير واسع على الاقتصاد المكسيكي؛ حيث أدى صِغَر حجم القطاع المصرفي بها، ومحدودية الثقة بالشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى تغذية شهيتها للبحث عن مصادر تمويل بديلة، غير أن تخلُّف مقدمي القروض عن السداد – وهم شركة (AlphaCredit)، تليها شركة (Credito Real) وشركة (Unifin)– قد تسبب في انفجار الفقاعة في الشتاء الماضي؛ وذلك بعد إقراض الشركات الثلاث المفلسة نحو 6 مليارات دولار، بالإضافة إلى إصدار نحو 4 مليارات دولار من السندات غير المضمونة وديون البنوك الأجنبية. ومنذ ذلك الحين، ضربت العدوى العديد من المؤسسات المالية غير المصرفية الأخرى، التي تمول نفسها حالياً بأسعار فائدة مرتفعة، وامتدت الأزمة إلى الاقتصاد المكسيكي؛ حيث تواجه الآلاف من الشركات الصغيرة احتمال نفاد الائتمان؛ أي نقص أو انعدام التوافر العام للقروض؛ ما يضعها في مهب أزمة ائتمانية واسعة.

2- احتمالية انهيار نظام الظل المصرفي في الصين: خلال سنوات النمو الاقتصادي القوي في الصين، ازدهرت صناديق الاستثمار والمستثمرون فيها، حتى إنه بحسب المنظمين الماليين الصينيين اعتباراً من عام 2019، شكلت أنظمة الظل المصرفية أصولاً بقيمة 12.9 تريليون دولار؛ أي ما يعادل 86% من الناتج المحلي الإجمالي للصين أو 29% من إجمالي أصولها المصرفية، غير أن ذلك القطاع الحيوي والشديد الأهمية في الصين يتعرض لمخاطر عدة في ظل انخفاض مبيعات العقارات الصينية في الوقت الراهن، الذي يعد اختباراً لمدى قدرة العديد من المؤسسات غير المصرفية على سداد ديونها.

وهو ما حدث فعلياً على نحو واسع، حينتخلفت الصناديق الصينية عن سداد ما يقرب من 9 مليارات دولار من المنتجات المالية المرتبطة بالعقارات في النصف الثاني من عام 2022، فيما أفلس صندوق شينهوا (xinhua) – وهو بنك الظل الصيني – في مايو عام 2023، ليصبح أول شركة ظل مصرفية صينية تنهار منذ أكثر من عقدين. ومنذ ذلك الحين، تم عرض أجزاء من الشركة للبيع على تاوباو – وهي منصة للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت – بخصم 30%، كما قد أضيفت مؤخراً سيارات الشركة إلى المزاد، بأمر من المحكمة.

ومن المتوقع أن تشهد الصين انفجاراً أكبر، ربما يمتد إلى تشونج رونج (Zhongrong) أحد أكبر الصناديق الائتمانية في الصين، الذي تخلف عن سداد المدفوعات لعملائه في منتصف أغسطس عام 2023، بما يثير مخاوف من أن تتورط المزيد من مؤسسات الظل المصرفية في الصين في الأزمة ذاتها، فتنهار وتجلب – بالتبعية – المزيد من الأزمات الاقتصادية على الاقتصاد الصيني.

3- أزمة سيولة في قطاع الظل المصرفي في بريطانيا: في سبتمبر 2022، بعد إعلان وزير المالية البريطاني آنذاك كواسي كوارتينج عن ميزانية مصغرة تضمنت تخفيضات ضريبية غير ممولة، دخلت الأسواق في حالة من الفوضى الشديدة، وانخفض الجنيه الإسترليني إلى مستوى لم يشهده منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وعندما بدأت السندات الحكومية تفقد قيمتها في اليوم الذي أعلن فيه كوارتينج عن تلك الميزانية، اضطر مديرو صناديق التقاعد إلى عمليات بيع واسعة النطاق للوفاء بالالتزامات الطويلة الأجل، فيما طالبت الأطراف المقابلة بالمزيد من الأموال باعتبارها ضمانات، وهو ما تسبب في خلق حلقة مفرغة من عدم السيولة في نظام الظل المصرفي البريطاني.

4- ضعف المؤسسات المالية غير المصرفية في الولايات المتحدة: حذر صندوق النقد الدولي من نقاط ضعف جوهرية بين ما تسمى المؤسسات المالية غير المصرفية؛ وذلك على خلفية استطلاع أجراه بنك أوف أمريكا عقب الأزمة المصرفية الأخيرة في مارس 2023 في الولايات المتحدة؛ حيث أشار المستثمرون العالميون الذين شملهم الاستطلاع إلى مجموعة من المؤسسات غير المصرفية في الولايات المتحدة، باعتبارها الأكثر تعرضاً لأزمة ائتمان ونقص تمويل.

5- مخاطر حدوث خسائر ائتمانية: تزداد بعض المخاطر التي تتعرض لها المؤسسات المالية غير المصرفية “نظام الظل المصرفي”، عندما ترتفع أسعار الفائدة. ومع حدوث مشكلات وأزمات في ذلك القطاع في حد ذاته، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المالي بأكمله؛ نظراً إلى الحجم الكبير الذي يتمتع به القطاع، كما يمكن أن يتسبب في جلب عدم الاستقرار المالي للبنوك التقليدية.

ومن أبرز المخاطر التي تُحدِق بنظام الظل المصرفي، حدوث خسائر ائتمانية. فبحسب تقرير صادر في نوفمبر 2022، فإن البنك المركزي الأوروبي أشار إلى نقاط الضعف المستمرة في ذلك القطاع، بما في ذلك “خطر حدوث خسائر ائتمانية كبيرة”؛ حيث بدأ المقترضون من الشركات يتخلفون عن السداد وسط أداء اقتصادي ضعيف.

وبما أن مؤسسات الظل المصرفية لا تتلقى ودائع من العملاء، فإنها معفاة – في الغالب – من المتطلبات الصارمة لرأس المال والسيولة التي تمتص الخسارة المفروضة على البنوك، ومن ثم لا يخضع معظمها لاختبارات منتظمة من قبل الجهات التنظيمية للتأكد من قدرتها على التعامل مع السيناريوهات السلبية، وهو ما يزيد من ضعف قدرتها على تحمل الصدمات.

وهو ما أشارت إليه وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات الائتمانية في فبراير 2023؛ إذ إن بنوك الظل المصرفية لا تستطيع – بحسب الوكالة – الحصول على تمويل طارئ من البنك المركزي في أوقات الأزمات، ومن ثم فإن من غير المتوقع أن تستخدم الحكومات أموال دافعي الضرائب لإعادة رسملة بنوك ظل متعثرة.

الأزمة القادمة

إجمالاً، يزعم أنصار نظام الظل المصرفي أن ميزة النظام الرئيسية تتمثل في قدرته على تقليل الاعتماد على البنوك التقليدية باعتبارها مصدراً للائتمان، وهو ما يعد – بحسب اعتقادهم – فائدة إيجابية للاقتصاد؛ لأنه يعمل بصفته مصدراً إضافياً للإقراض وتوفير التنويع في النظام المالي، فيما يعتبره المعارضون خطراً غير منظم على المستهلكين وعلى الأمن المالي للاقتصاد العالمي.

وبين هذا وذاك، يذهب البعض إلى القول بحاجة قطاع الظل المصرفي الملحة إلى التنظيم؛ بسبب حجمه، وارتباطاته الوثيقة بالقطاع المالي الخاضع للتنظيم، والمخاطر النظامية التي يفرضها؛ إذ إن عدم خضوع ذلك القطاع للتنظيم، وعدم وجود إمكانية للسيطرة عليه، ومنحه الدعم اللازم في أوقات أزماته، يزيد من فرص عدم صموده، خاصةً في إطار الأزمات التي يتعرض لها ذلك القطاع عالمياً، وفي ظل الحجم الكبير الذي يحظى به ذلك القطاع، فإن أزماته تزيد المخاوف من أن تنتقل إلى النظام المالي العالمي، وأن تتسع عدوى عدم الاستقرار والإفلاس لكافة القطاعات المالية، بما ينذر بأزمة اقتصادية في كثير من البلدان التي ينشط بها ذلك النظام.