• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
قراءات

السلطة الفلسطينية بعد ثلاثين عاماً من "اتفاقية أوسلو"


من الممكن أن تساهم الإصلاحات النظامية الجذرية وانتخاب خلف جدير بالثقة لمحمود عباس في تأمين المصالح الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء.

في الوقت الذي يُحيي فيه الفلسطينيون والإسرائيليون هذا العام الذكرى السنوية الثلاثين لـ "اتفاقية أوسلو"، يجدر بنا أن نتوقف لدراسة ما تبقى من الوعد الأصلي الوارد في الاتفاقية (وفعلاً، تبقّى منه بعض الشيء). بالإضافة إلى ذلك، يستحق الأمر التحقق من قدرة ما تبقى على الصمود أمام التحديات العديدة التي تواجه السلطة الفلسطينية، وخاصة تلك التي ستظهر على الأرجح "في اليوم التالي" لخروج الرئيس محمود عباس من المشهد السياسي.

نضالات السلطة الفلسطينية

منذ سنوات كثيرة، ولا سيما في العقد الماضي، أصبحت السلطة الفلسطينية مؤسسة متداعية، ويتحمل عباس المسؤولية النهائية عن فشلها في إقامة دولة فلسطينية داخل خطوط وقف إطلاق النار العربية الإسرائيلية لعام 1967. ويتولى عباس قيادة السلطة الفلسطينية منذ عام 2005 ويمكن أن يُنسب إليه الفضل في الإشراف على الاستقرار النسبي في الضفة الغربية ومنع بروز الإرهاب بعد الانتفاضة الثانية (2000-2004). ولكن نظراً إلى تقدمه في السن، فقد يترك منصبه في أي لحظة دون أن يدّعي فضلاً على إرث قيّم. بالإضافة إلى ذلك، فشل عباس في تأمين التوافق على نهجه السلمي، الذي واجه تحديات مستمرة فرضتها حركة "حماس"، غريمة السلطة الفلسطينية في غزة، والتي لطالما دعت إلى الكفاح المسلح.

ولعبت إسرائيل دورها الخاص في إضعاف عباس والسلطة الفلسطينية، جزئياً من خلال تجنيدهم "كمقاولين من الباطن" لمكافحة الإرهاب (وفقاً للرأي العام الفلسطيني) في أجزاء من الضفة الغربية، مما قوّض شرعية السلطة الفلسطينية لدى السكان المحليين. وفي المقابل، سعت القيادة الفلسطينية إلى التوصل إلى ترتيب سياسي دائم مع إسرائيل. إلّا أن الأفق السياسي انحسر خلال العقد الماضي، وحلت محله سلسلة من الفوائد الاقتصادية والمدنية، وأضاع عباس فرصاً رئيسية لتحقيق تقدم على الجبهة السياسية.

وعلى نطاق أوسع، فرضت الاستراتيجية الإسرائيلية منذ عام 1993 التحول من السعي إلى إقامة ترتيب مع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات تؤدي عن غير قصد إلى انهيارها، على الرغم من أن هذه النتيجة لا تصب في مصلحة إسرائيل. وكان هذا التحول مثيراً للقلق بشكل خاص إذ ترافق مع سعي إسرائيل إلى التسوية مع "حماس"، والذي سرّعت وتيرته احتجاجات "مسيرة العودة الكبرى" على طول الحدود بين غزة وإسرائيل في الفترة 2018-2019. وبدأت إسرائيل بتنفيذ هذا التغيير من خلال توجيه الأموال إلى غزة وتخفيف حصار القطاع بدرجة كبيرة (انظر النسخة الإنجليزية بصيغة "بي. دي. إف" للحصول على شرح مفصل لهذا التطور). وفي الواقع، تهدف السياسة التي تنتهجها إسرائيل في غزة إلى كسب الوقت إلى أن يتغير المشهد السياسي الفلسطيني، سواء من خلال عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، أو اندلاع انتفاضة شعبية ينظّمها سكان غزة، أو حتى اعتدال "حماس". وتهدف هذه السياسة أيضاً إلى منع حدوث أزمة إنسانية، وهو الهدف الذي حققته، ولكنها عززت في المقابل من قوة "حماس". وفي لعبة المحصلة الصفرية (التي لا غالب فيها ولا مغلوب) التي يلعبها تحالف حركة "فتح" بزعامة عباس وحركة "حماس" ، فإن أي تشجيع لـ "حماس" يعكس فشل السلطة الفلسطينية.

ويقيناً، أن مشكلة غزة لا يمكن حلها بسهولة، كما أن هناك احتمالاً ضئيلاً بتبني "حماس" نهجاً أكثر اعتدالاً، حتى ولو أظهرت الحركة قدراً كبيراً من البراغماتية من وقت لآخر. وبالنسبة إلى إسرائيل، يتمثل التحدي التكتيكي المرتبط بذلك بتأمين حدود غزة ومنع "حماس" من إرسال الأسلحة إلى مناطق أخرى، وخاصة الضفة الغربية. ويتطلب ذلك وجود سلطة فلسطينية قوية تتعاون مع إسرائيل وتتشارك معها موقفاً واحداً تجاه "حماس".

اتجاهات الرأي العام الفلسطيني

في الضفة الغربية، لا ينبع ضعف السلطة الفلسطينية من العرقلة الإسرائيلية وغياب الآفاق السياسية فحسب، بل من الإخفاقات الداخلية المتعددة أيضاً، بما في ذلك الركود السياسي، وسوء الحكم، والفساد المستشري، والنفور من النقد الذاتي، وعدم كفاية توفير الخدمات العامة، وتضييق دائرة مستشاري عباس، الأمر الذي أدى إلى تهميش أفضل العقول السياسية الفلسطينية. وهكذا تصاعد السخط في "الشارع" الفلسطيني وفي صفوف حركة "فتح" التي تشكل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية.

وتشير الدراسات الاستقصائية التي أُجريت في شهري آذار/مارس وتموز/يوليو 2023 إلى انخفاض كبير في الدعم الشعبي لعباس والسلطة الفلسطينية، وزيادة مقابِلة في تقبّل الهجمات الإرهابية ومنفذيها. ووفقاً لاستطلاع أجري في آذار/مارس، يرى 60 في المائة من المشاركين في الضفة الغربية أن السلطة الفلسطينية تشكل عبئاً، ويؤيد 49 في المائة فكرة تفكيكها، في حين يعتبرها 27 في المائة فقط إنجازاً. ويشير استطلاع شهر تموز/يوليو إلى أن 67 في المائة من المشاركين يعتقدون أن الضفة الغربية ستشهد انتفاضة بحلول نهاية عام 2023. بالإضافة إلى ذلك، يرفض 40 في المائة فقط التصريح القائل بأنه يتعيّن على الفلسطينيين بدء انتفاضة وإنهم يعتبرون الكفاح المسلح أولوية قصوى. وبعد عقدين من الانتفاضة الثانية، يبدو أن شبح فشلها يطارد الفلسطينيين في منتصف العمر.

ولم يسفر الاستياء الشعبي من عباس وأداء السلطة الفلسطينية، مهما بلغت درجته، عن احتجاجات واسعة النطاق أو زيادة كبيرة في الدعم لحركة "حماس". ووفقاً للاستطلاع الذي أُجري في شهر آذار/مارس، يعتقد 51 في المائة من المشاركين في الضفة الغربية أنه لا السلطة الفلسطينية ولا "حماس" تستحقان تمثيل الفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر التجارب السابقة أن القبول العام لاستخدام العنف ضد إسرائيل في الضفة الغربية لا يُترجم بالضرورة إلى تعبئة عامة فعلية دعماً للإرهاب. وهذا أمر مهم نظراً لتأثير السلوك العام الفلسطيني على الأمن في الضفة الغربية. وعلى مدى العقدين اللذين قضاهما عباس في السلطة، امتنع الرأي العام عموماً عن القيام بأي تحركات ترقى إلى مستوى انتفاضة وانخرط بدلاً من ذلك في احتجاجات محدودة. ووفقاً لاستطلاع تموز/يوليو، يعتبر 53 في المائة من المشاركين في الضفة الغربية أن عدم حصول "مظاهرات كبيرة في الشوارع" أمراً إيجابياً، ويعارض 49 في المائة التصريح القائل بأن السلطة الفلسطينية يجب أن توقف التنسيق الأمني ​​مع إسرائيل "مهما كان الأمر".

واستمرت هذه المواقف على الرغم من العمليات العسكرية الإسرائيلية المتكررة في غزة، والإجراءات السياسية التي يعتبرها معظم الفلسطينيين مرفوضة (على سبيل المثال، نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والتوقيع على "اتفاقيات إبراهيم" مع الدول العربية)، والانتهاكات الدينية في القدس (على سبيل المثال، صعود سياسي يميني متطرف إلى جبل الهيكل/الحرم القدسي الشريف، ودخول الجيش الإسرائيلي إلى المسجد الأقصى)، وتحديات أخرى. وقد يعكس التسامح الفلسطيني النسبي مع الوضع الراهن رغبة في الحفاظ على نسيج الحياة اليومية والأمن الشخصي. وعلى الرغم من أن نتائج الاستطلاع المذكورة أعلاه تشير إلى شعور بالتردد فيما يخص الانتفاضة الثانية، فقد أدى فشلها بطبيعة الحال إلى نفور واضح وعميق من المخاطر لدى شريحة من الفلسطينيين. ولا يقل أهمية عن ذلك اعتمادهم على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث يعمل الكثير من الفلسطينيين عبر خطوط عام 1967، وفي المستوطنات الإسرائيلية، وما زال آخرون يعملون في مصانع إسرائيلية في الضفة الغربية.

ويُعزى أيضاً انخفاض الحماسة النسبي في الضفة الغربية تجاه العنف إلى غياب بديل أو نظام قيادة قابل للاستمرار يمكن أن يحل محل النظام الحالي بشكل واقعي. ولذلك فإن شريحة كبيرة من الرأي العام تقبل الوضع الراهن على مضض، الأمر الذي يمنح عباس والسلطة الفلسطينية ما يمكن أن يُطلق عليه "الشرعية السلبية" ومجال المناورة والسيطرة المرتبط بها. ولكن هذه الشرعية هشة، كما هو موضح أدناه.

التحديات المالية والأمنية

تشمل أسباب ضعف السلطة الفلسطينية الضغوط المالية الواسعة الانتشار التي تعمل في ظلها. فبعد مرور ثلاثين عاماً على "اتفاقيات أوسلو"، ما زالت السلطة الفلسطينية تعتمد على الاقتصاد الإسرائيلي وتفتقر إلى محركات النمو، في حين تبلغ قيمة ديونها 3.3 مليار دولار. وبالإضافة إلى الديون المصرفية، فهي تدين بمبلغ 4.7 ​​مليار دولار لموردين مختلفين و400 مليون دولار لـ "شركة الكهرباء الإسرائيلية". ويؤدي الدين الأخير بشكل دوري إلى انقطاع التيار الكهربائي في الضفة الغربية، مما يضر بالاقتصاد الفلسطيني والمواطنين على حد سواء.

وقد اتخذت السلطة الفلسطينية خطوات جذرية لتقليص هذا العجز، لكن التحسينات كان لها تكلفة على المدى القصير، إذ قوّضت قدراتها ورفاه المواطنين. ومنذ كانون الأول/ديسمبر 2021، على سبيل المثال، تدفع السلطة الفلسطينية رواتب مخفضة (75-80 في المائة من الأجر العادي، مع إضافات في بعض الأحيان) للموظفين الحكوميين الذين يكسبون أكثر من 500 دولار شهرياً، مما يؤثر على الغالبية العظمى من العاملين في السلطة الفلسطينية البالغ عددهم حوالي 150 ألف عامل. كما تم تجميد زيادات الرواتب منذ ما يقرب من عام.

بالإضافة إلى ذلك، أجرت السلطة الفلسطينية تخفيضات كبيرة على ميزانيات الوزارات المختلفة، مما أدى إلى تقليص الخدمات التي تقدمها للمواطنين. وحقق اقتصاد الضفة الغربية مكاسب اسمية من حيث "الناتج المحلي الإجمالي" والبطالة والتجارة الخارجية، لكن هذه الفوائد لم تحسن بشكل كبير الحياة اليومية لمعظم المواطنين. وفي غضون ذلك، ارتفعت تكلفة المعيشة بنسبة 4.6 في المائة، وارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 3.74 في المائة في عام 2022 (في زيادة هي الأكبر منذ حوالي عقد من الزمن، مما يعكس جزئياً ارتفاعاً عالمياً في التضخم ولكنه يزداد بمعدل أسرع بكثير بالمقارنة مع أماكن أخرى)، وقلصت المنظمات الدولية مثل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" نشاطها في الضفة الغربية، وخاصة في مخيمات اللاجئين.

وبالمثل، أصبح الأمن الشخصي، وهو الشغل الشاغل للفلسطينيين، تحت التهديد. فقد أدى نشاط إسرائيل المكثف لمكافحة الإرهاب في الضفة الغربية إلى سقوط الكثير من الضحايا هذا العام، إذ قُتل 181 فلسطينياً هناك اعتباراً من شهر آب/أغسطس 2023، مقارنةً بـ 151 قتيلاً في عام 2022 بأكمله و79 في عام 2021. وينبع انعدام الأمن الإضافي من الاحتكاك المتزايد بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في الضفة الغربية، الذي ينجم عن أسباب مختلفة تتراوح بين النزاعات على حقوق الرعي وارتفاع نسبة الحوادث الإرهابية من كلا الجانبين، بما في ذلك الهجمات الانتقامية. ومهما كانت النتيجة، لا شك في أن بعض العناصر السياسية الإسرائيلية تدعم الشريحة المتطرفة من مجتمع المستوطنين اليهود.

وينعكس ضعف السلطة الفلسطينية أيضاً في سلوك أجهزتها الأمنية، وهي ذراعها المركزية للحفاظ على الحكم والاستقرار. ولطالما عانت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية من أوجه قصور أساسية مثل محدودية الموارد، ومشاكل في ممارسات توظيف الضباط، والفشل في حل القضايا بعد الاعتقالات، والإحجام عن التعامل مع العناصر المارقة في قوات "التنظيم" شبه العسكرية التابعة لحركة "فتح". وصحيح أن قوات الأمن أتمت تفويضها الرسمي إلى حد كبير على مر السنين، وأصبحت أكثر احترافاً وساهمت في ترسيخ السلطة الفلسطينية حتى في الاستعداد لمرحلة ما بعد عباس. ومع ذلك، فقد تفاقم الوضع منذ عام 2021 بسبب ضغوط الميزانية وضعف الشرعية العامة. ونتيجة ذلك، تراجع حكم السلطة الفلسطينية وسيطرتها بشكل عام، مع ظهور جيوب من الفوضى في المناطق الطرفية، وخاصة مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية. وفي الواقع، تشير البيانات إلى أنه منذ بداية عام 2023، نُفذ 119 من أصل 174 هجوماً كبيراً شنه فلسطينيون في الضفة الغربية، انطلاقاً من الشمال.

المقاومة الفلسطينية الجديدة

دفعت قلة الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الضفة الغربية مجموعات صغيرة نسبياً من الشباب اليافعين، ومعظمهم دون سن السابعة والعشرين، وهي السن التي لا يُسمح لمن هم دونها من العمال الفلسطينيين بدخول إسرائيل، إلى إعلان الاستقلال فعلياً عن السلطة الفلسطينية. فقد عمدت هذه الجماعات، من خلال عملها في مناطق تغيب عنها السلطة الفلسطينية فعلياً، إلى تعزيز قوتها العسكرية تحت شعار "لا «فتح» ولا «حماس»"، بهدف الدفاع عن وطنها ضد إسرائيل. وتمثل هذه العناصر تحدياً للمركز السياسي للسلطة الفلسطينية، ولأجندتها وأجهزة إنفاذ القانون التابعة لها أيضاً.

ويُعتبر هذا الجيل الجديد من المقاومين الفلسطينيين أكثر تطوراً من مقاومي العقد الماضي الذين اقتصرت تحركاتهم إلى حد كبير على أعمال "الذئاب المنفردة" (مثل الهجمات الانتحارية) وكثيراً ما استخدموا أسلحة بسيطة مثل السكاكين. أما في هذه الأيام، فيمتلك الكثير من المقاتلين الشباب أسلحة أفضل ويركزون بصورة أكثر على تعزيز قدراتهم العسكرية واستخدام منصات التواصل الاجتماعي لتوسيع نفوذهم. ومما يسيء إلى سمعة السلطة الفلسطينية أن بعض هؤلاء الأفراد هم أعضاء سابقون في "فتح" أو "التنظيم" واعتُبروا سابقاً من صلب الحركة.

ويضاف إلى كل ذلك "حماس" و"حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" والجهات الفاعلة المشابهة التي لطالما سعت إلى تحويل الضفة الغربية إلى ساحة معركة للمقاومة المناهضة لإسرائيل. وتواصل "حماس" توجيه عناصرها لتعزيز الهجمات الإرهابية بموجب المبدأ العام الذي ينطوي على التصعيد في الضفة الغربية مقابل الهدوء في قطاع غزة. وقد أبدت الجهات الفاعلة المحلية، ولا سيما في شمال الضفة الغربية وفي جنوبها أيضاً، استعداداً للتعاون بشكل فعال مع المنظمات الأكثر رسوخاً ورفع مستوى الهجمات التي تنفذها لتشمل تفجيرات السيارات المفخخة والضربات الصاروخية وعمليات الطائرات بدون طيار. وغالباً ما يحظى هذا النشاط بدعم إيران و"حزب الله" اللبناني، اللذين أغدقا على المنطقة المعرفة الفنية والأسلحة والمال. وبناءً على ذلك، يشعر بعض المراقبين بالقلق بشأن احتمال حصول ما يسمى بـ"يوم القيادة" على المدى الطويل، عندما تتحد افتراضياً الجماعات المختلفة المناهضة لإسرائيل، وتحاول السيطرة على جميع الأراضي. وقد تواجه إسرائيل صعوبة أكبر في مواجهة أي تحدٍ متعدد الجبهات من هذا القبيل.

الخاتمة

في العقود الثلاثة التي تلت "اتفاقيات أوسلو"، أدت سلسلة من الأزمات إلى تقويض ثقة الرأي العام في فكرة إجراء حوار سياسي بروح تلك الاتفاقات، وشملت انتفاضتين فلسطينيتين، وتداعيات فك الارتباط الإسرائيلي مع غزة في عام 2005، وحتى حرب لبنان في عام 2006. وقد فُتحت نافذة فعلية في عهد رئيس الوزراء إيهود أولمرت بين عامَي 2006 و 2008، لكنها أُغلقت في النهاية أيضاً، سواء بسبب السياسة الإسرائيلية أو تردد عباس.

وتمكنت السلطة الفلسطينية من الصمود لتتابع عملها اليوم في المجالات المدنية والاقتصادية والسياسية. ولكن نقاط ضعفها المتأصلة أصبحت أكثر وضوحاً، كما تزعزع نظام الحكم في الضفة الغربية على المستويين الأيديولوجي والوظيفي نتيجة الركود السياسي، وانعدام الثقة في الشارع الفلسطيني، وازدحام ساحة المقاومة. لقد كان هذا العام بالفعل الأكثر عنفاً في عهد عباس، إذ قُتل كما هو مذكور أعلاه 181 فلسطينياً على يد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية منذ كانون الثاني/يناير، في حين قُتل 30 إسرائيلياً وأجنبياً على يد مهاجمين فلسطينيين من الضفة الغربية والقدس الشرقية. وقد أثار الخلل الوظيفي والعنف تساؤلات حول قدرة السلطة الفلسطينية على التعامل مع الأزمات المستقبلية، بما في ذلك غداة مغادرة عباس السلطة.

ويدرك خلفاؤه المحتملون هذا الواقع والحاجة إلى تقديم نهج بديل، بما في ذلك صياغة أهداف وطنية تساعد على ضمان قدرة السلطة الفلسطينية على الاستمرار. ومن وجهة نظر إسرائيل، لا تُعتبر خياراتها الحالية مشجعة للغاية، إذ تشمل السعي إلى إقامة تحالف سياسي مع "حماس"، والعودة إلى استراتيجية العنف الشعبي والإرهاب، وفي أسوأ الحالات، التخلي عن هدف الدولتين لصالح "دولة واحدة لشعبين". وبما أن إسرائيل تفضل اعتماد "عنوان" واحد لإدارة القضايا في الضفة الغربية، فلطالما خشيت انهيار السلطة الفلسطينية، واتخذت مراراً وتكراراً إجراءات للحفاظ على أداء المؤسسة. وبفضل هذا الدعم، الذي اتخذ عادةً شكل مساعدات اقتصادية، تمكنت السلطة الفلسطينية أن تنتقل من أزمة إلى أخرى، من دون أن تضطر إلى معالجة المشاكل الأساسية التي تسبب شروخات آخذة في الاتساع. فالمبادرات الاقتصادية وحدها غير كافية لتمكين السلطة الفلسطينية من إنشاء إطار مفاهيمي يعيد إحياء الشعور بالوحدة الوطنية أو يسهل خطة الخلافة في مرحلة ما بعد عباس.

وفي حين لا يزال عباس في السلطة، تملك إسرائيل مصلحة حيوية في بذل جهود حسنة النية لتسهيل بروز قيادة فعالة وشرعية للشعب الفلسطيني، ومن شأن هذه النتيجة أن تفيد الجانبين. ومن شبه المؤكد أنه في حال الانتظار إلى حين رحيل عباس، سيكون قد فات الأوان. وقد يؤدي عدم التركيز على هذه الحاجة الملحة الآن إلى سيناريو أكثر إشكالية في المستقبل، مما سيجبر إسرائيل على التعامل مع "عناوين" متعددة للقوة والسلطة أو ربما حتى إدارة شؤون سكان الضفة الغربية بنفسها، مع كل التحديات السياسية، والتكاليف المالية، والمتاعب الإدارية، والازدراء الدبلوماسي الدولي الذي قد يسببه هذا السيناريو.

وللمساعدة على تنشيط السلطة الفلسطينية، تستطيع إسرائيل التركيز على مفهوم "الدولة في طور التكوين"، والذي يتضمن تعزيز قيادة متعددة الأبعاد مسؤولة عن اقتصاد الفلسطينيين في الضفة الغربية ورفاهيتهم وصحتهم وأمنهم. وتتطلب إعادة تأهيل الشرعية الداخلية للسلطة الفلسطينية أيضاً من إسرائيل تجنب بناء مستوطنات إضافية في الضفة الغربية، والامتناع عن مصادرة المزيد من الأراضي، والتصدي بقوة للإرهاب الذي تمارسه العناصر المتطرفة داخل مجتمع المستوطنين اليهود. ومن الضرورة أن تقترن هذه الإجراءات بمطالبة حازمة بأن تنفذ السلطة الفلسطينية إصلاحات هيكلية عميقة في مؤسساتها وأجهزتها وقطاعها الأمني. ويمكن لإعادة التأهيل الناجحة التي تمنع انهيار السلطة الفلسطينية أن تمنح الشريحة المترددة من السكان سبباً لتنأى بنفسها عن النشاط العنيف، بينما تعمل أيضاً على تهيئة السلطة الفلسطينية بشكل أفضل لمواجهة التحديات المستقبلية. ولن يكون أي من هذه المهام سهلاً، سواء من الناحية السياسية أو من حيث التنفيذ، ولكن من الضروري منع الانهيار التام للأمن، وربما العودة إلى العبء الثقيل الذي كان قائماً في فترة ما قبل أوسلو، عندما كانت إسرائيل مسؤولة عن الحياة اليومية لجميع الفلسطينيين في الضفة الغربية.

وإلى جانب هذه التوصيات، ما زال السؤال المربك قائماً: لماذا ساد الهدوء على المسار الدبلوماسي، بعد مرور ثلاثين عاماً على "اتفاقية أوسلو"؟ ولماذا فشل عباس، وهو من مهندسي نموذج أوسلو، في إقامة دولة فلسطينية في عهده؟ إن الإجابة للأسف معقدة وتتعلق بالتاريخ بين الشعبين، والتفاعلات بين قادتيهما، والتطورات الداخلية على الساحتين الوطنيتين. فبعد الإخفاقات المتعاقبة في تحقيق السلام، ربما يكون عباس قد تخلى عن تحقيق رؤيته، واكتفى بدلاً من ذلك بإرث (قابل للزوال) يتلخص بعبارة "أنا لم أتخلَ عن مبادئي". على أي حال، تُعتبر الشروط الأساسية لأي عملية إحياء للتقدم الدبلوماسي واضحة: القيادة الشجاعة، والشرعية العامة لاتخاذ القرارات الصعبة، والجهود المستمرة لتقويض قوى المعارضة حتى لا تتمكن من عرقلة هذه العملية.