• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
مقالات عربية

مر النظام العربي ومحيطه الإقليمي بتحولات جسيمة تداخلت بوضوح مع إطارهما العالمي، ويعتمد هذا المقال مقاربة للتحولات المطلوب تحليلها من خلال النظر إلى النظام العربي كنظام إقليمي فرعي له محيطه الإقليمي الأوسع، مع التركيز على القوى الثلاث الرئيسية فيه، وهي إسرائيل وتركيا وإيران، مع أخذ الإطار العالمي لتفاعل النظام العربي مع محيطه الإقليمي في الاعتبار. ولتحقيق هذا الغرض سوف يتم تحليل دروس الخبرة التاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ثم مناقشة مدى الاستمرار والتغير في نماذج هذه الخبرة في الوقت الراهن عربيًا وإقليميًا، على أن يُختتم التحليل بنظرة استشرافية.

أولًا: دروس الخبرة الماضية

واجه النظام العربي منذ بدايته الرسمية في عام 1945، بتأسيس جامعة الدول العربية، تحدياتٍ جسام بدءًا من الهزيمة في الحرب الأولى مع إسرائيل عام 1948، ومرورًا بالعدوان الثلاثي (البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي) على مصر عام 1956، ثم هزيمة يونيو عام 1967، والانقسام المصري- العربي الفادح في أعقاب سياسات التسوية السلمية التي اتبعتها مصر تجاه إسرائيل في آخر سنوات سبعينيات القرن العشرين، وصولًا إلى توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في عام 1979، ثم وقوع كارثة الغزو العراقي للكويت في عام 1990، وأخيرًا الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وتداعياته.

والملاحظ أن النظام العربي قد امتلك دائمًا آليات للتعافي من الهزائم، والأزمات التي واجهها وفقًا لنظرية التحدي/ الاستجابة؛ فبعد أقل من سنتين على هزيمة 1948 أبرمت الدول العربية في عام 1950 معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، التي أحدثت نقلةً نوعية في نظام الجامعة العربية، والذي لم يكن يُلزم أعضاءها بالقرارات، التي لم يوافقوا عليها، بينما تضمنت المعاهدة تأسيس مجلس للدفاع العربي المشترك، تكون قراراته المُتْخَذة بأغلبية الثلثين ملزمة للكافة، وإذا كان لم يُقَدر لهذه المعاهدة أن تُنَفّذ بالكامل ولو لمرة واحدة فإنها أوجدت صيغة قانونية لحماية الأمن العربي إذا تطلبت الأمور ذلك.

كما أن حركة التحرر العربي بعد ثورة 23 يوليو 1952 قد حققت إنجازات هائلة على رأسها التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، وتحقيق استقلال الجزائر في عام 1962، وجنوب اليمن في عام 1967. وفي مواجهة هزيمة 1967 سرعان ما التأم شمل النظام العربي بعد أقل من ثلاثة شهور في قمة الخرطوم، التي نجحت في إيجاد صيغة لدعم دول المواجهة مع إسرائيل ماليًا بعد أن نجحت القمة في إزاحة التناقضات العربية البينية إلى الخلف لصالح التوحد في مواجهة التناقض مع إسرائيل، وهو ما أثمر انتصار حرب أكتوبر 1973.

كما لعبت تطورات الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) دورًا في تجاوز الانقسام المصري- العربي عندما بدا أن ثمة خطرًا في حدوث تحولات لصالح إيران في مجريات الحرب لم تكن مواجهتها ممكنة دون عودة مصر للصف العربي؛ فأصدرت القمة العربية في عمان عام 1987 قرارها بأن إعادة العلاقات الدبلوماسية التي قُطِعت مع مصر بعد معاهدة السلام مع إسرائيل مسألة سيادية، بعد أن كان الموقف العربي الرسمي أنها قُطِعت بقرار جماعي، ولا تعود إلا بقرار مماثل. وهكذا، أعادت الدول العربية علاقاتها مع مصر على نحو شبه فوري عدا سوريا وليبيا اللتين تأخرت إعادتهما العلاقات مع مصر إلى عام 1989. كما جرت محاولات لمصالحة كويتية-عراقية عقب الغزو لم تُكلل بالنجاح إلا في قمة بيروت عام 2002.

ويُلاحظ مما سبق أن النظام العربي، وإن كان قد امتلك دائمًا آلياته الخاصة للتعافي من هزائمه وأزماته، إلا إن المدة المطلوبة لهذا التعافي في تزايد عبر الزمن؛ فلم يتطلب الأمر سوى عامين للتعافي من هزيمة 1948 بتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، ثم الانطلاق بعد ثورة يوليو 1952 في معارك التحرر الوطني الظافرة، ثم استغرق الاستعداد لحرب أكتوبر بعد هزيمة 1967 قرابة 6 سنوات، غير أن عقدًا كاملًا قد مر قبل إعادة الُلحمة للصف العربي بعد الخلاف مع مصر حول معاهدة السلام مع إسرائيل، ثم استغرقت عملية المصالحة الكويتية- العراقية 12 سنة كاملة قبل أن يمكن التوصل لها.

أما التداعيات الكارثية للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فقد تداخلت مع مثيلاتها الناجمة عما ما سُمي في حينه بالربيع العربي، الذي تسبب في إيجاد وضع بالغ التعقيد تنتشر فيه الصراعات الداخلية، التي فتحت الباب لتدخلات إقليمية، وعالمية فادحة مازالت قائمة حتى الآن. ومن ثّم، فإن هذه الأوضاع المتردية في النظام العربي قد أتمت العقدين دون أن يظهر ضوء في آخر النفق.

كذلك، يلاحظ أن نموذج التفاعلات داخل النظام العربي قد أشار إلى ثلاث سمات رئيسية:

السمة الأولى، تتمثل في أن هذا النموذج قد عكس بوضوح الأولوية المطلقة لمبدأ السيادة الوطنية كأساس للنظام، وقد كان هذا واضحًا منذ صياغة ميثاق جامعة الدول العربية، وبرز تأثيره واضحًا في العجز عن تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، كما حدث بالنسبة لخطط القيادة العربية المشتركة لتقوية دفاعات الدول العربية المحيطة بإسرائيل في منتصف ستينيات القرن الماضي، وكذلك بالنسبة لمحاولة تأسيس نظام أمني عربي جديد بعد غزو الكويت بموجب «إعلان دمشق» في عام 1991، وأخيرًا المقترح المصري بتأسيس قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب في عام 2015، كذلك فإن المبدأ ذاته مسؤول، ولو جزئيًا عن إجهاض كافة محاولات الوحدة بين دولتين عربيتين أو أكثر منذ نشأة النظام العربي.

السمة الثانية، هي ظاهرة الصراعات العربية- العربية، وأهمها الصراع العراقي- الكويتي، والمغربي- الجزائري، والسعودي- اليمني بعد ثورة سبتمبر عام 1962، وبين شطري اليمن قبل الوحدة اليمنية، والمصري- العربي (حول سياسة السلام مع إسرائيل)، ناهيك بعدد لا بأس به من الأزمات الحادة بين دول عربية لأسباب مختلفة. ويُلاحظ أن بعض هذه الصراعات مزمن، بمعنى استمراره مدة طويلة كالمغربي- الجزائري، والعراقي-الكويتي، والنزاع السوري- العراقي، وهكذا. ويلاحظ أن النموذج العام لهذه الصراعات كان يشير إلى تهدئتها أو تسويتها مؤقتًا لدى ظهور تحديات خارجية للنظام كي يتسنى له مواجهة هذه التحديات كما حدث في عام 1964 عندما هدّأت قمة القاهرة الصراعات المنتشرة آنذاك في كافة الأقاليم الفرعية للنظام العربي لكي يمكن التوافق حول نهج لمواجهة المشروع الإسرائيلي لتحويل مجرى نهر الأردن. إلا إن هذه السمة اختفت بالذات بعد الانقسام العربي الحاد حول الغزو العراقي للكويت، وما ترتب عليه لاحقًا من غياب التوافق اللهم إلا على قبول الوضع الراهن بعد الغزو الأمريكي للعراق

السمة الثالثة، هي غلبة الطابع الصراعي على التفاعلات بين النظام العربي، وقوى محيطه الإقليمي، وهي سمة بغير حاجة إلى إثبات في الحالة الإسرائيلية، وشديدة الوضوح في الصدام العربي مع تركيا (باستثناء العراق الملكي) حول سياسة الالتحاق بالأحلاف الغربية، كما بدا في معركة حلف بغداد 1955، وسياسة شاه إيران المتماهية مع إسرائيل. غير أن اللافت أنه حتى عندما حدثت تغيرات سياسية داخلية جذرية في هاتين القوتين الإقليميتين بالثورة الإيرانية في عام 1979، ووصول حزب «العدالة والتنمية» للحكم في عام 2000 فإن الطابع الصراعي للتفاعلات قد استمر؛ لأن كلًا منهما أصبح له مشروعه الإقليمي ذو الطابع الإسلامي، سواء الإسلام الشيعي في الحالة الإيرانية، أو السني في الحالة التركية، وذلك لأن كلًا من المشروعين كان له خصومه "الألداء" في بلدان عربية عديدة.

ثانيًا: النظام العربي بين التحول والجمود

إذا كانت فائدة التحليل في الجزء السابق هي الكشف عن عوامل الاستمرار في نماذج التفاعلات ذات الصلة عبر الزمن بهدف الاستفادة منها في استشراف المستقبل، فإن فائدة التحليل في هذا الجزء تنصرف إلى تحديد المتغيرات التي يمكن أن تؤثر على مدى جدارة هذه النماذج المستمدة من الخبرة التاريخية؛ بمعنى هل مازالت تنطبق على الوضع الراهن، أم أن المتغيرات المستجدة قد جعلتها غير ذات صلة بهذا الوضع كليًا أو جزئيًا؟ فقد أظهر تحليل النظام العربي في الجزء السابق فيما يتعلق بالتفاعلات العربية البينية سمتين أساسيتين: أولاها، إنها بُنِيت على أساس السيادة الوطنية المطلقة، وثانيتها، أن هذا النظام قد عرف تفاعلات صراعية بين وحداته لا شك أنها لعبت دورًا سلبيًا في مصير أي محاولات لتأسيس أو تفعيل نظام أمني جماعي عربي مستقر، وكذلك محاولات الوحدة الجزئية بين بعض الدول العربية والتكامل الاقتصادي العربي. بالنسبة للسمة الأولى، فقد تبين استمرارها كأساس للنظام دون أدنى تغيير، حتى لو كان ظهور أي مؤشرات على بداية اتجاه لتليين مواقف الدول تجاه بعض القرارات التي ترى أنها تمثل انتهاكًا لسيادتها أو مساسًا بها، وهو ما يعني أن الحلم بهيكلية جديدة للنظام العربي تتجاوز ولو جزئيًا مبدأ السيادة الوطنية المطلقة مازال بعيد المنال.

أما بالنسبة للسمة الثانية المتعلقة بالصراعات والخلافات العربية البينية التي ميزت الكثير من التفاعلات بين الدول العربية، فيُلاحظ أنها وإن أصبحت أقل انتشارًا مما كانت عليه في ستينات القرن الماضي حين لم يكن أي إقليم عربي فرعي يخلو من هذه الصراعات (الصراع المغربي-الجزائري في المغرب العربي، والعراقي-الكويتي في المشرق والخليج، والصراع في الجزيرة العربية حول الثورة اليمنية بانخراط مصري وسعودي كامل، وهكذا)، غير أن الانتشار الأقل لا يعني اختفاء الظاهرة. على سبيل المثال، فإن العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي قد تعرضت لأزمة حقيقية بين عامي 2017 و2021 حين قطعت كل من السعودية والإمارات والبحرين، ومعهم مصر، علاقاتها الدبلوماسية مع قطر بسبب اتهامها بأنشطة تخريبية في هذه الدول. ويُلاحظ أن العلاقات في السنوات السابقة على قطع العلاقات الدبلوماسية شابها توتر شديد وصل إلى حد سحب تلك الدول سفرائها من الدوحة في عام 2014 كرد فعل للموقف القطري من الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر. وعلى الرغم من المصالحة التي تمت في قمة مجلس التعاون الخليجي في عام 2021، فلا يمكن الجزم بأن العلاقات بين دول المجلس باتت خالية من الخلافات أو على الأقل الاختلافات في وجهات النظر كما يبدو على سبيل المثال في الموقف من الصراع في اليمن، وبعض التقارير عن خلافات في وجهات النظر بين دول خليجية تجاه قضايا أساسية داخل الخليج أو خارجه، وربما يكون المتغير الإيجابي الجديد الواضح في العلاقات الخليجية البينية -مفهومة هنا على أنها تشمل كل دول الخليج العربية أي بما فيها العراق- متمثلًا في الانفتاح المتبادل بدرجات متفاوتة بين العراق من ناحية ودول مجلس التعاون الخليجي، من ناحية أخرى.

أما الدليل القوي على استمرار ظاهرة الصراعات العربية البينية فيأتي من الحالة المغربية- الجزائرية التي سبق أن رأينا أنها أوضح النماذج على استدامة تلك الصراعات؛ فالصراع المغربي- الجزائري ليس مستمرًا فقط منذ استقلال الجزائر وحتى الآن، وإنما أخذ في التصاعد عبر الزمن نتيجة إضافة وقود جديد له. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى قضيتين أساسيتين هما: قضيتا الصحراء، والتطبيع مع إسرائيل؛ فأما بخصوص قضية الصحراء فثمة تناقض كامل بين النهجين المغربي والجزائري بشأنها، فبالنسبة للمغرب يعتبر الصحراء جزءًا لا يتجزأ من إقليمه، وأقصى تنازل يمكن أن يقدمه هو الحكم الذاتي للصحراويين في إطار السيادة المغربية. بينما تنظر الجزائر لمصير الصحراء انطلاقًا من حق تقرير المصير الذي انطبق على عمليات تصفية الاستعمار كافة.

أما قضية التطبيع المغربي مع إسرائيل منذ انضمام المغرب للاتفاقيات المسماة باتفاقات أبراهام في عام 2020 فقد أفضت إلى تداعيات فاقمت من تدهور العلاقات من منظورين: أولهما، أن التطبيع مع إسرائيل قد ارتبط بالاعتراف الأمريكي، ومؤخرًا الإسرائيلي، بالسيادة المغربية على الصحراء، وهو ما يمثل بطبيعة الحال تطورًا سلبيًا بالنسبة للسياسة الجزائرية. ثانيهما، وهو المنظور الأخطر، يتمثل في أن التطبيع المغربي- الإسرائيلي قد ارتبط بتعاون أمني حقيقي مما تعتبره الجزائر دون شك تهديدًا حقيقيًا لأمنها؛ وبالتالي فإن ثمة استمرارًا واضحًا للطابع الصراعي للعلاقات المغربية - الجزائرية.

غير أنه لا يمكن أن ينتهي تحليل مدى استمرار السمة الصراعية في تفاعلات النظام العربي عند هذا الحد، فمن الضروري الإشارة إلى تحولات النموذج الصراعي في المنطقة من غلبة الصراعات البينية بين وحدات النظام العربي إلى انتشار الصراعات داخل هذه الوحدات، كما يبدو بوضوح في الحالات الليبية والسورية واليمنية والفلسطينية، ومؤخرًا السودانية، ناهيك عن عدم استقرار الأوضاع الداخلية في عدد من البلدان مثل لبنان والعراق وتونس.

ومن الصحيح أن لهذه الصراعات أبعادها الإقليمية والعالمية نتيجة التدخلات الخارجية فيها، إلا إنها بالتأكيد تمثل نموذجًا مغايرًا للصراعات البينية ينبغي أخذه في الاعتبار؛ لأنه بالغ التأثير على تماسك النظام العربي من منظور قاعدي؛ فبعض هذه الصراعات ينطوي على تهديد حقيقي بتفكك دول عربية معينة، وقد سبق لهذه الظاهرة أن حدثت في تسعينات القرن الماضي بالنسبة للصومال، وفي مطلع العقد الثاني من هذا القرن بالنسبة للسودان، فضلًا عن أن هناك دولًا عربية تعيش حالة تقسيم فعلي مثل اليمن وليبيا وسوريا وفلسطين.

ولو استمرت هذه الظاهرة وأفضت إلى حالات تفكك جديدة فإن هذا سيكون بداية لمرحلة جديدة من مراحل تطور النظام العربي تتفاقم فيها الفوضى والصراعات البينية والتدخلات الخارجية، ومن ثّم فإن تفاعلات النظام العربي لم تشهد تطورات مختلفة نوعيًا عن النماذج التي كشفت عنها الخبرة التاريخية اللهم إلا مزيدًا من التدهور في أوضاع داخلية عديد من الدول العربية.

ثالثًا: تحولات إقليمية جذرية

لا شيء يظهر آفاق التحول في النظام العربي أكثر من تطور علاقات دوله بقوى محيطها الإقليمي، التي تحددت أساسًا بإسرائيل وتركيا وإيران؛ حيث يُلاحظ حدوث تغيرات جذرية في علاقات الدول العربية بهذه القوى. وإذا بدأنا بإسرائيل فإن التحول في العلاقات العربية معها بدأ بعملية السلام المصرية- الإسرائيلية التي أفضت إلى معاهدة للسلام في عام 1979، وتلا ذلك اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993، التي وإن لم تفض إلى حل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلا إنها أقامت علاقات فلسطينية - إسرائيلية رسمية. وفي السنة التالية (عام 1994) تم توقيع معاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية، فضلًا عن قبول النظام العربي مبدأ التسوية مع إسرائيل من حيث المبدأ، وفقًا لمبادرة فاس في عام 1982.

ويُضاف إلى ذلك الاتفاق الإسرائيلي- اللبناني في عام 1983 الذي سرعان ما تم إجهاضه، والعلاقات الدبلوماسية الكاملة بين موريتانيا وإسرائيل في عام 1999، والتي أُعلن عن تجميدها في عام 2009 عقب قمة الدوحة التي عُقدت لاتخاذ إجراءات مضادة للعدوان الإسرائيلي على غزة آنذاك، ثم قُطِعت نهائيًا في عام 2010. غير أن طفرة حدثت في مسار تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل بتوقيع ما سُمي بـ «اتفاقات أبراهام» بين كل من: الإمارات والبحرين والمغرب والسودان في عام 2020. وقد أعقب هذه الاتفاقات مظاهر لا يمكن أن تخطئها العين على اندفاعة في مسار العلاقات الطبيعية اقتصاديًا، بل وأمنيًا، بين هذه الدول وإسرائيل، ويُلاحظ أن سلطنة عمان وإن اشتركت في مبادرات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل إلا إنها لم تنضم لهذه الاتفاقيات. كما أن لكل من الكويت والسعودية وقطر مواقفها المعارضة حتى الآن للتطبيع.

وبطبيعة الحال فقد أضعفت «اتفاقات أبراهام» من وضع القضية الفلسطينية، والتي تُعد مخالفة أصلًا للمبادرة التي أقرتها قمة بيروت العربية في عام 2002، التي تنظر للتطبيع مع إسرائيل باعتباره ورقة بيد الدول العربية تستخدمها وفقًا لنص المبادرة كتنازل يقدمه العرب في مقابل تسليم إسرائيل بالمطالب العربية. كذلك، رأينا الآثار السلبية لهذه الاتفاقات على العلاقات المغربية- الجزائرية التي تزخر بما يكفي من مصادر للصراع. ومن المهم التنويه إلى أن قطار التطبيع لم يواصل اندفاعه بعد هذه الاتفاقات كما كان البعض يتصور، بل إن ثمة معارضة داخلية واضحة للتطبيع داخل بعض أطراف هذه الاتفاقات. كذلك فقد كان تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2022 في الدوحة مناسبة لإظهار مدى رفض الجماهير العربية للتطبيع مع إسرائيل كما ظهر من مواقفها الرافضة للإدلاء بأي تصريحات لممثلي وسائل الإعلام الإسرائيلية، أو المتضمنة لعبارات الرفض لإسرائيل والتأييد لفلسطين.

أما فيما يخص العلاقات العربية مع إيران فلا يخفى المسار الصراعي الذي شهدته أحيانًا كثيرة عقب نجاح الثورة الإيرانية في عام 1979، التي كانت قد بلغت ذروتها في عام 2016 بقطع العلاقات السعودية- الإيرانية بعد أعمال التخريب التي طالت مقار دبلوماسية سعودية في إيران في أعقاب إعدام السعودية لـ27 شخصًا على رأسهم رجل الدين الشيعي الشيخ النمر، وفي هذا السياق تم تبادل تصريحات واتهامات حادة من الجانبين.

غير أن السنتين الأخيرتين (2022، 2023) شهدتا تطورات بالغة الإيجابية في علاقة دولتين خليجيتين مهمتين بإيران؛ حيث حدثت انعطافة واضحة في السياسة الإماراتية تجاه إيران أوضحت أن التطبيع الكامل مع إسرائيل ليس مجرد استجابة لضغوط أمريكية، ولكنه تعبير عن سياسة إماراتية جديدة تنحو إلى التهدئة مع القوى الإقليمية كافة تصفيرًا للمشاكل معها، وبحثًا عن مناخ للتهدئة يساعد على تحقيق الأهداف الوطنية. وقد بدأت هذه الانعطافة بزيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد لإيران في ديسمبر 2021، والتقائه عددًا من المسئولين على رأسهم الرئيس الإيراني. وتأكد هذا التحول بموقف الإمارات الواضح ضد الدخول في أي ترتيبات تحالفية ضد إيران، أو غيرها الذي عبرت عنه صراحة قبيل قمة جدة للأمن والتنمية في يوليو 2022.

وقد عزز هذا التطور ما كان يتردد آنذاك عن حوار سعودي- إيراني، وقد قام العراق بدور الوسيط فيه، وأفضى في النهاية لتوقيع اتفاق إعادة العلاقات السعودية- الإيرانية برعاية صينية في مارس الماضي (2023) ليكون تعزيزًا للآمال في مناخ جديد يسود المنطقة، ويساعد على تسوية الصراعات التي يعاني منها بعض بلدانها، ناهيك عن ما يوفره من إمكانات أفضل لنجاح جهود التنمية.

أضف إلى كل ما سبق، فقد تعددت التقارير عن حوارات مصرية- إيرانية تجري بهدف استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في نفس الاتجاه، وإن لم تصل لغايتها المأمولة بعد، فضلًا عن العلاقات الإيرانية مع عدد من الدول العربية التي تُعد ممتازة أو طبيعية كما هو الحال في العلاقة مع كل من: سوريا ولبنان والعراق وقطر وعُمان والجزائر.

أما بالنسبة للعلاقات العربية مع تركيا، فقد حدثت بشأنها تطورات مشابهة مع دول عربية وازنة كمصر والسعودية والإمارات بعد سنوات التوتر الشديد الذي شاب العلاقات معها بسبب رعايتها لمشروع ما يُسمى بالإسلام السياسي ورأس حربته جماعة «الإخوان المسلمين»، فضلًا عن التداعيات السلبية للمسألة الكردية على علاقة تركيا بكل من سوريا والعراق.

ويُلاحظ في الحالة التركية أنه يمكن القول بأن جانبًا مهمًا من المبادرة بتحسين العلاقات جاء من الجانب التركي بعد أن كانت سياسة «صفر مشاكل»، التي وضع وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو أسسها قد تحولت إلى الحد الأقصى من المشاكل بعد أن أفضت السياسة الخارجية التركية إلى صدامات مع الجميع تقريبًا كحلف الأطلنطي بسبب التقارب التركي-الروسي، والاتحاد الأوروبي بسبب السياسة الاستفزازية التركية تجاه اثنين من أعضائه (اليونان وقبرص) في قضايا الخلاف على الحدود البحرية والتنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط.  ناهيك عن استمرار مشكلة الجمهورية القبرصية التركية، بالإضافة إلى الخلاف مع مصر حول الملف الليبي، والاحتلال التركي لجزء من سوريا، والعمليات العسكرية التركية في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني، التي اعتبرتها السلطات العراقية انتهاكًا للسيادة. وهكذا بدت تركيا في حالة صدام مع الجميع تقريبًا.

وفي هذا السياق، قام الرئيس التركي بانعطافة رشيدة لقيت استجابات إيجابية من الدول العربية، التي توترت علاقاتها مع تركيا. وفي هذا الإطار، بدأت العلاقات تتخذ طابعًا تعاونيًا كان آخر مؤشراته إعلان مصر وتركيا رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى مستوى السفارة في يوليو 2023، علمًا بأن العلاقات لم تكن قد قُطِعت بين البلدين رغم احتدام الأزمة بينهما، كما أن العلاقات الاقتصادية بينهما لم تتأثر بالتأزم السياسي، وهو ما يُعَد ملمحًا إيجابيًا. ويُلاحظ أن العلاقات بين تركيا وعدد من الدول العربية كانت دائمًا ممتازة أو طبيعية، كما هو الحال مع قطر والسودان والصومال والجزائر على سبيل المثال.

ختامًا، يتضح مما سبق أن تحولات النظام العربي كانت محدودة للغاية، في حين شهدت التفاعلات العربية الإقليمية تحولات حقيقية، ومن المأمول بطبيعة الحال أن تؤدي هذه الانفراجات الإقليمية، فضلًا عن تعزيز التعاون العربي- الإقليمي في كافة المجالات إلى انفراجات مماثلة في عدد من الصراعات التي تدور في دول عربية بعينها وتتسم بتدخلات إقليمية مؤثرة.

غير أن ثمة أربع ملاحظات مهمة في هذا الصدد:

الملاحظة الأولى، تتعلق بالقضية الفلسطينية، وهي مستبعدة تمامًا من نطاق هذه الآمال طالما بقيت حكومة نتنياهو السادسة الحالية غير المسبوقة في تطرفها، بل طالما بقيت أية حكومة إسرائيلية تنكر أبسط الحقوق على الفلسطينيين. ومن الواضح أن المنطق السائد الآن لدى قادة الحكم في إسرائيل هو «السلام مقابل السلام»، ومن ثم، فإن القول بأن التطبيع مع إسرائيل يخدم القضية الفلسطينية هو قول بلا أساس، ولن يحدث أي تطور إيجابي في هذه القضية من منظور فلسطيني إلا بفعل فلسطيني.

الملاحظة الثانية، أن الانفراجات الإقليمية لا تكفي وحدها لحل التناقضات الداخلية في صراعٍ ما؛ بمعنى أن الاتفاق السعودي- الإيراني مثلًا لن يحل الصراع الدائر في اليمن أو الانقسام السياسي الفادح في لبنان؛ لأن ثمة أطرافًا محلية لهذه الصراعات، مع العلم بأن الانقسامات لا تُحل التناقضات بينها بمجرد اتفاق الأطراف الإقليمية، وقد سبق وفشلت اتفاقية جدة في عام 1965 مثلًا بين عبدالناصر وفيصل في حل الصراع بين الأطراف اليمنية آنذاك؛ لأن كلًا من الجمهوريين والملكيين لم يجدوا فيها ما يلبي مطالبهم، ولم تتم تسوية الصراع في اليمن إلا بعد خمس سنوات كاملة اتضح فيها ميزان القوى الحقيقي بين الأطراف المحلية.

ومن الملاحظ أنه بعد مرور قرابة الشهور الخمسة من الاتفاق السعودي- الإيراني، لا نلمس أي تقدم في الملفين اليمني واللبناني، وهما أكثر الملفات تأثرًا بكل من السعودية وإيران. كذلك، فإن الانفراجة في العلاقات المصرية - التركية لم تفض حتى الآن إلى تقدم حقيقي في مسار تسوية الصراع في ليبيا، ناهيك بأن الانفراجة لم تمتد بعد إلى العلاقات التركية- السورية. أي إن انفراجة العلاقات العربية- الإقليمية لن تمتد تداعياتها الإيجابية بالضرورة على نحو تلقائي إلى الصراعات الدائرة في عدد من البلدان العربية، وإنما يحتاج الأمر للقيام بجهود حقيقية لحل التناقضات بين أطراف الصراعات المحليين.

الملاحظة الثالثة، تتعلق بمحاولة استشراف مستقبل هذه التحولات، وهل يمكن أن يكون طابعها تكتيكيًا مؤقتًا، أم أنها نجمت عن تغيرات بنيوية يصعب الانفكاك من نتائجها. وعلى الرغم من أن كافة الاحتمالات ممكنة، إلا إنه من المرجح أن التراجع عن هذه التحولات سيكون صعبًا لأسباب عدة: تأتي في مقدمتها إن تلك التحولات تمت بعد تجارب حقيقية لصدامات واقعية بين أطرافها تبين منها استحالة انتصار طرف على الآخر اللهم إلا بتكلفة باهظة قد تفرغ هذا الانتصار من مضمونه، ومن ثم يُعْتَقَد أن صانعي القرار في الدول المعنية بهذه التحولات قد أدركوا هذا المعنى تمامًا. كما أن مردود هذه التحولات سيكون بالتأكيد إيجابيًا على أطرافها من المنظور التنموي. بالإضافة إلى أن ثمة قوى عالمية تدعم هذه التحولات وتعززها، كما هو الحال في الموقف الأمريكي من التطبيع مع إسرائيل، والموقف الصيني من التطبيع بين الدول العربية وإيران.

وأخيرًا، فإن الملاحظة الرابعة، تشير إلى أن ثمة سيناريو يمكن أن يكون مطروحًا لتداعيات هذه التحولات الإقليمية على مستقبل النظام العربي؛ فلكي يستفيد النظام العربي ككل من هذه التحولات يجب أن تكون أوضاعه طبيعية أما حالته الراهنة فإنها تنطوي على تهديدات محتملة، منها تحلله إلى نظم فرعية، ولولا أن قوى المحيط الإقليمية الأساسية الثلاث (إسرائيل- تركيا- إيران) بينها ما بينها من تناقضات رئيسية وثانوية، لأُضيف إلى هذا السيناريو احتمال ذوبان النظام العربي ككل في إطار شرق أوسطي أوسع.