• اخر تحديث : 2024-04-30 13:50
news-details
أبحاث

أوليغارشيا الزارما-الصونغاي وديمغرافيا الهاوسا ويورانيوم الطوارق


مثل كل دول الساحل الحبيسة، تُمضي النيجر أغلب أيامها غائبة عن الأنظار سابحة في عزلتها تكابد فقرًا مدقعًا يعيش تحت وطأته نحو نصف سكانها ومعدلَ ولادات من بين الأعلى في العالم، وتنتظر مساعدات خارجية تغطي بها أجور موظفيها العموميين وبقية نفقاتها العامة. ولا تتصدر النيجر العناوين إلا نادرًا بالتزامن مع أزمات أمنية أو موجات جوع أو خطف رعايا غربيين أو انقلابات عسكرية أو تمرد مسلح لأقليتي الطوارق والتبو. وقد ضربت النيجر هذا العام موعدًا للقاء طويل مع عناوين النشرات صارعت خلاله كبريات وسائل الإعلام العالمية ومراكز الدراسات لفهم هذا البلد وآليات الصراع فيه على السلطة وصناعة النخبة والرأي العام فيه، وسياقات هذا الانقلاب.

وإذا كان المحللون السياسيون والمراقبون يذهبون إلى تفسير أي انقلاب عسكري أو صراع على السلطة يندلع هذه الأيام في منطقة غرب إفريقيا والساحل انطلاقًا من ثنائية فرنسا روسيا، ورغم محورية التحالف مع روسيا في توطيد أركان السلطتين الانقلابيتين المرفوضتين غربيًّا في كل من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين، فإن انقلاب النيجر الأخير كان بالأساس تعبيرًا عن جملة من المتناقضات المحلية الخاصة التي صاغت تاريخ الصراع على السلطة وضبطت إيقاع الاضطرابات السياسية والأمنية في هذا البلد ذي الثروات الحيوية بالنسبة للمستعمر السابق، فرنسا، وصاحب التجربة الطويلة مع النزاعات المسلحة وموجات الجفاف والجوع.

على تخوم الصحراء بين إمبراطوريتي الصونغاي وكانم-بورنو: في انتظار النيجر

لا تفرط السردية الوطنية في النيجر، مثل كل السرديات التاريخية الإفريقية، فيما نشأ على أراضيها، أو لامس من بعيد تخومها من دول وإمبراطوريات، لـ"تبرر" وجودها بوصفه نهاية سيرورة طبيعية وتعبيرًا سياسيًّا معاصرًا عن لحظة تاريخية فارطة أو انبعاثًا لسلطة زمنية غابرة قوضها الاستعمار أو أنهكتها تجارة الرقيق. هكذا يمد مؤرخو النيجر (ساليفو 2002، نموذجًا) أيديهم غربًا نحو إمبراطورية الصونغاي التي كانت عاصمتها غاو في الأراضي المالية ليضعوا بلدهم على متن تاريخ بلاد السودان ويقتطعوا له من مآثر الإمبراطوريات الإفريقية الكبرى، ويتوسلون لذلك حضورًا قويًّا للزارما-الصونغاي المهاجرين قديمًا من مالي إلى موطنهم الحالي في جنوب غرب النيجر، ودورًا، لا يقره بعض المؤرخين مثل فوغلستاد (1986)، اضطلعت به منطقة دندي غربي البلاد في مقاومة تقدم السعديين نحو الأطراف الأقصى جنوبًا من إمبراطورية الصونغاي نهاية القرن السادس عشر. وهكذا ذكر الجنرال، عبد الرحمن تياني، اسم، الآسكيا محمد، زعيم إمبراطورية الصونغاي الأشهر، وهو يسرد، متوعدًا دول الإكواس برد حاسم إذا تدخلت عسكريًّا لإعادة الرئيس بازوم للسلطة، أعلامَ النيجر وأبطالها التاريخيين مساء العشرين من أغسطس/ آب 2023.

أما السلطة السياسية الأهم في السودان الأوسط، سلطنة كانم-بورنو (كانم ووريثتها التاريخية بورنو)، ورغم عمرها الطويل الممتد من القرن التاسع وحتى العشرين على أراضي تشاد وفزان شمالًا في ليبيا وساو جنوبًا في الكاميرون، فلم تبسط سلطانها بشكل فعلي على الفضاء الذي سيشكِّل دولة النيجر، إذا استثنينا الشريط الشرقي والجنوب الشرقي من البلاد. ولم تشهد أرض النيجر تنظيمًا سياسيًّا أو عسكريًّا يضاهي قوة الإمبراطوريتين سالفتي الذكر، وإن نشأت على أراضيها سلط محدودة النفوذ والمجال. وهو ما يشير، وفق فوغلستاد، إلى أن "المجتمعات المتوطنة في هذه الربوع كانت هشة الترابط [...] وأكثر "فوضوية" من المجتمعات المجاورة [...] وأن المناطق الموجودة ضمن حدود النيجر الحالية ظلت أقل سكانًا، مع وجود مساحات يباب وأدغال حتى القرن التاسع عشر، على الأقل".

لقد كان التنظيم السياسي لبلاد الناطقين بالهاوسا (كاصار هاوسا) في النيجر محصورًا في سلط محدودة المساحة والثروة في أغلب الأحيان. ولم تنشأ على أرض النيجر سلطة هاوسية تضاهي سلطنة كانو الهاوسية في نيجيريا ذات الشأن الكبير وصاحبة الدور المحوري في غرب القارة. وقد عاشت سلطنة الآير التي أقامتها مجموعات مختلفة من الطوارق انخرطت، وفق ما ينقل أورفوي (1934)، في ثلاث كونفيدراليات، هي: إصندالن وكلْ اغرسْ وكلْ أويْ، في صراع مستمر على الموارد والنفوذ.

ومن إمارة كانو غربًا التي وصلها الإسلام على يد تجار وانغارا الماندنيغ، منتصف القرن الخامس عشر، سينتشر الإسلام في بلاد الناطقين بالهاوسا، وفق معظم الدارسين لهذا الموضوع. وقد تزامن هذا الحدث، كما ينقل لفتسون (2000)، مع انزياح سلالة سيفاوا من كانم إلى بورنو لتقترب أكثر من أرض الهاوسا وتدعم هذه الأسلمة التي اقتصرت في بداياتها على بلاطات الحكام، قبل أن تتعزز مع وفود الفولان الذين ستسهم حركاتهم الجهادية مع عثمان دان فوديو في دمج الإسلام في الهوية الهاوسية دمجًا عميقًا.

ويؤكد تشارليك أن "الإسلام قوة دمج يعزى لها إسهام في تجاوز الاختلافات العرقية" في النيجر. وكان خروج النيجَريين من المساجد عقب مجزرة الطلاب، سنة 1990، تجسيدًا للمكانة التي يحتلها الإسلام في النيجر، ويتكرر الأمر الآن في المظاهرات الرافضة لتدخل الإكواس في البلاد والداعمة للمجلس العسكري في البلاد. كما تمثل الحظوة التي كانت لوفد علماء نيجيريا لدى المجلس العسكري الحاكم، بعد رفضه استقبال وفد رسمي من الإكواس والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، والتجمعات الابتهالية التي تشهدها مساجد العاصمة، نيامي، منذ الانقلاب، أمثلة على هذا الدور المحوري للدين الإسلامي في حياة النيجَريين.

هل لعشوائية حدود النيجر من حدود؟

تبدو حدود النيجر منظورًا إليها من بعيد مجرد خطوط عبثية رست عليها جولات من الصراع والمفاوضات بين القوى الأوروبية وهي يدافع بعضُها البعض خلال السيطرة على إفريقيا، دون مراعاة لأي حقائق تاريخية أو عرقية أو لغوية أو طبيعة جغرافية. ورغم هذا الاعتقاد السائد بعشوائية الحدود التي رسمها المستعمر وتقطيعها أوصال الشعوب والبنى السياسية والاجتماعية الإفريقية، والمعزز بحالة الهاوسا على وجه التحديد، فإن هاوسا النيجر، وإن شكَّلوا، ولا يزالون يشكلون، مع هاوسا نيجيريا امتدادًا عرقيًّا ولغويًّا ودينيًّا ضمن ما يُعرف ببلاد الهاوسا التاريخية، إلا أنهم كانوا قد سلكوا مسارًا مختلفًا عن إخوتهم في الجنوب قبل دخول الاستعمار بقرن من الزمن. فقد ظل الجزء النيجَري من بلاد الهاوسا بمنأى عن الهيمنة المباشرة لإمارة سوكوتو الإسلامية التي خلفت سلطنة كانو الهاوسية التاريخية إثر حملات الجهاد الفلانية-الهاوسية بقيادة عثمان دان فوديو بدايات القرن التاسع عشر. ويذهب لوفيفْرْ (2015) أبعد من ذلك، حين يؤكد أن الشطر الجنوبي من أراضي النيجر ظل ملاذًا لزعامات (ساركي) دويلات الهاوسا التي فقدت عروشها خلال الحملات الجهادية لإمارة سوكوتو، وشكَّل فضاء مقاومة أمام حملات الجهاد رغم تجانس المنطقتين لغويًّا ودينيًّا منذ أمد بعيد.

ولا يعدم الساعون إلى نقد مقولة: "عبثية الحدود" الإفريقية ذائعة الانتشار، والموسومة في الخطاب الوطني بالشؤم، والملقى باللوم عليها دائمًا من بعض مثقفي العالم الثالث بشأن ما تعانيه بلدانهم من فشل تنموي وصراعات دموية، تمايزًا من نوع ما يبررون به تقسيم فضاء الطوارق بين مالي والنيجر من جهة وبين الجزائر والنيجر من جهة أخرى. يقدم لوفيفْرْ مثلًا الفضاء القفر (تنيري) الفاصل بين مجال سلطنة الآير الطوارقية وبين نفوذ زعيم (أمنوكل) الهگَّار كحاجز طبيعي وتاريخي واقتصادي اعتمدته فرنسا لتجعل منه حدودًا "بين إدارتين تخضعان لسلطتين عسكريتين منفصلتين. فالجزائر كانت تخضع لوزارة الداخلية[...] بينما كانت النيجر جزءًا من وزارة المستعمرات".

وإذا كانت قبيلة إولمَّدن تبدو مقسمة الآن بين النيجر ومالي، فإن تاريخ انفصال فرعيها يعود إلى القرن الثامن عشر، كما ينقل غريمون (2010)، ذاكرًا اسم إولمَّدن الموجودين في النيجر والمعروفين بكلْ دنَّگْ (أهل الشرق)، وكل أتَّرمْ (أهل الغرب) الذين يعيشون في مالي، كتعبير سابق على الاستعمار عن هذا التمايز والانفصال.

ورغم أن موجات جفاف ماحقةً وقرونًا طويلة من سيطرة الطوارق على منطقة الآير شمالي النيجر قد خفضت أعداد الهاوسا في المنطقة، وولدت ما يشبه انفصالًا عرقيًّا بين جنوب البلاد وشمالها، فإن مؤرخي السردية الوطنية في النيجر (هاماني، 1989) لا يزالون ينظرون إلى الآير، أو ما يسميه الهاوسا آبْزم، بوصفه مهد أغلب الشعوب التي تستوطن أرض النيجر الآن.

وإذا كان الهاوسا والزارما-الصونغاي والطوارق والفلان (الفولفولدة) والكانوري، ثم التبو والعرب بدرجة أقل، يشكلون أبرز القوميات التي تقطن النيجر، فإن إبراهيم يشير إلى بروز قوميات هجينة سائلة تولدت عبر قرون من التداخل العرقي واللغوي والهجرات والحروب، وعبَّرت عن هذا التعايش طويل الأمد. كما يبرز في النيجر التباين العرقي بلبوس جهوي واضح بين الغرب ذي الأغلبية الزارمية-الصونغاوية والشرق الذي قد يطلق على كل المناطق غير الغربية التي يقطنها الهاوسا والطوارق وغيرهم.

وعلى هذا الفضاء الواسع للنيجر الممتد على أكثر من مليون ومئتي كيلومتر مربع، والذي تقطنه قوميات متعددة، ستبسط فرنسا سلطانها، "عرضًا"، كما ينقل كيمبا لـ"تظل النيجر في جوهرها على الدوام عنصرًا تكميليًّا في تشييد الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا" وربطًا لأوصال هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف التي لم يكن لها من من موارد اقتصادية كبيرة طيلة أيام الاستعمار.

وستعتمد فرنسا، كما يروي لوفيفْرْ (2015)، في توطيد حكمها للنيجر على عدد محدود من العسكريين، لتأخذ النيجر شكلها الحالي بعد القضاء على مقاومة الزارما في الغرب وإخماد ثورات الطوارق في الشمال، وإثر جولات طويلة من التقطيع الإداري وإعادة التقطيع ودمج أطراف من مالي (منطقتي غاو وتنبكتو) ثم فصلها لاحقًا. أما التغير الأبرز في مسار مستعمرة النيجر التي كانت تدار ضمن إفريقيا الغربية الفرنسية، فكان نقل عاصمتها بشكل نهائي من زندار في قلب بلاد الهاوسا جنوبًا إلى نيامي في معقل الزارما غربي البلاد، سنة 1926.

مسار طويل لافتكاك السلطة من يد الزارما-الصونغاي

 ستسلك النيجر مسارًا مشابهًا لمسار بقية مستعمرات "إفريقيا الغربية الفرنسية" وستبقى ضمن المجموعة الفرنسية التي أنشأها دستور الجمهورية الخامسة، سنة 1958، حتى نيلها الاستقلال في الثالث من أغسطس/آب 1960. ولن تترك فرنسا لهذا البلد عشية خروجها منه سوى جهاز إداري بسيط ومنشآت هزيلة جدًّا، ومعادلة سياسية واجتماعية حرجة ولَّدتها عقود من الممارسات الاستعمارية أقصت أغلبية الهاوسا من دواليب الإدارة، ومكَّنت لقومية الزارما-الصونغاي خاصة بعد نقل العاصمة إلى معاقلهم، وأبقت الطوارق والفلان وغيرهم من القوميات على هامش الفعل السياسي. "فقد وجد الفرنسيون،" كما ينقل تشارليك (1991، ص. 9)، "أنه من السهل نسبيًّا إخضاع الزارما الذين جعلتهم بناهم السياسية غير الدولتية وانقساماتهم الداخلية عرضة على وجه الخصوص لسياسة "فرق تسد". كما ضمن التنظيم الاجتماعي للزارما، حيث ما لا يقل عن ثلثي السكان "عبيدٌ" وسياساتُ فرنسا التحريرية، أن ينخرط عدد كبير من الزارما المنحدرين من الطبقات الدنيا في العمل لصالح الفرنسيين خدمَ منازل وإدرايين ذوي رتب دنيا وجنودًا".

أما الهاوسا فسيدفعون ثمن ما اعتبره تشارليك موقفهم المحافظ تجاه المدرسة الفرنسية وغيرها من المؤسسات الاستعمارية، ولن يشفع لهم ثقلهم الديمغرافي (52% من السكان) ولا إمكاناتهم الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن شبكة التجارة، والتهريب أيضًا، عبر حدود النيجر-نيجيريا الممتدة على أكثر من ألف كيلومتر في تولي زمام الأمور في النيجر المستقل.

لقد ظلت أغلب المناصب السياسية العليا طيلة العقود الثلاثة الأولى من عمر النيجر المستقل، لاسيما رئاسة الجمهورية، شأنًا خاصًّا بالزارما-الصونغاي الذين لا يمثلون سوى نحو 22%. وقد تجلت السيطرة الزارمية-الصونغاوية على مقاليد أمور النيجر بشكل لا لبس فيه في الصراع الذي دار في الفترتين، السابقة للاستقلال واللاحقة عليه، بين حماني ديوري أول رئيس للنيجر وقريبه چيبو باكاري المنتميين كليهما إلى الزارما-الصونغاي.

ولم يكن للهاوسا ولا الطوارق من حضور يُذكر في هذا التدافع السياسي على هرم السلطة في البلد الوليد حينها، بل كان على الهاوسا أن ينخرطوا في حزب "صوابا" ذي التوجه الثوري بزعامة باكاري تعبيرًا عن رفضهم للوضع القائم. وكان هذا الصراع مماثلًا لما شهدته دول المجموعة الفرنسية بين التيارات ذات الميول اليسارية أو الوطنية الإفريقانية وتلك المحافظة القريبة من الإدارة الاستعمارية، وكانت فيه الغلبة في النيجر، على غرار جميع بلدان هذه المجموعة باستثناء غينيا كوناكري، للموالين لفرنسا. وتجسدت تلك الغلبة في النيجر في انتصار طرح حماني ديوري الداعي إلى البقاء ضمن المجموعة الفرنسية في استفتاء 1958، ليكون أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال سنة 1960.

وجاء انقلاب المقدم، حينها، سيني كونتي، الذي أطاح بالرئيس ديوري، سنة 1974، ليكرس سيطرة الزارما-الصونغاي في شكل قبضة حديدية عسكرية لهذه القومية التي استأثرت مناطقها الواقعة غربي البلاد حول العاصمة نيامي بأغلب مشاريع الإنشاء والتنمية الهزيلة في النيجر. ولم تُزح وفاة كونتي سنة 1987 سطوة الزارما-الصونغاي؛ إذ خلفه عقيد من نفس القومية هو علي صيبو الذي بدأ التخفيف على المعارضين السياسيين، رغم إبقائه على نظام الحزب الواحد، وأنشأ دستورًا جديدًا دشن ما يُعرف في التاريخ السياسي والدستوري للنيجر بالجمهورية الثانية.

وستقلِّم مظاهرات طلابية ونقابية، عاشتها النيجر إثر ما يعرف بالجمعة السوداء، في الثامن من فبراير/شباط 1990، التي قتلت خلالها الشرطة 14 متظاهرًا من طلاب جامعة نيامي، أظافرَ علي صيبو، وترغمه على تسريع إجراءات دمقرطة البلاد. لقد كان حادث مقتل هؤلاء الطلاب شرارة تحول جذري أفضى في النهاية إلى عقد مؤتمر وطني وكتابة دستور جديد أقر التعددية السياسية ومنح البلاد أول رئيس منتخب في تاريخها، هو مَحمَّنْ عثمان، سنة 1993، تكريسًا لدستور الجمهورية الثالثة.

مثَّل انتخاب مَحمَّنْ عثمان ذي الأصول الكانورية الهاوسية المختلطة، والمنحدر من أقصى جنوب شرق البلاد، والمتربع على رئاسة حزب الميثاق الديمقراطي والاجتماعي ذي الشعبية الواسعة في صفوف الهاوسا، لا سيما ملاك رؤوس الأموال منهم، كما ينقل إبراهيم وسوليْ (1998)، نهاية لانفراد الزارما-الصونغاي بحكم النيجر، وقوسًا ديمقراطيًّا أغلقه انقلاب عسكري، سنة 1996، بقيادة الجنرال، ماينصارا باري، ذي الأصول الهاوسية الذي أعاد كتابة دستور البلاد (الجمهورية الرابعة) وانتُخب في نفس العام رئيسًا قبل أن يلقى حتفه وهو يتأهب لمغادرة البلاد في مطار العاصمة خلال انقلاب عسكري أوصل داوود مالام ونْكي المنتمي إلى نفس القومية إلى السلطة، سنة 1999.

ومع ونْكي ستحاول النيجر العودة للمسار الديمقراطي مع إرساء دعائم الجمهورية الخامسة، وانتخاب مامادو تانجا ذي الأصول الصونونكية الموريتانية القادم من محيط فولاني-كانوري في أقصى شرق البلاد رئيسًا للبلاد. وبانتهاء المأمورية الثانية لتانجا وسعيه إلى مواصلة حكم البلاد عبر تعديل دستوري يلغي حصر الولايات الرئاسيات في اثنتين، أجهض انقلاب عسكري، سنة 2010، جهوده الرامية لتحقيق هذه التغييرات التي عُرفت بالجمهورية السادسة، وأعلن العقيد صالو جيبو قائد الانقلاب عن مرحلة انتقالية جديدة كلَّلت مسارًا سياسيًّا ونقابيًّا طويلًا لرئيس الحزب النيجري من أجل الديمقراطية والاشتراكية ذي التوجه اليساري، والمنحدر من أغلبية الهاوسا، محمدو إيسوفو، برئاسة البلاد، في أبريل/نيسان 2011. وفي نهاية مأموريتين رئاسيتين لإيسوفو، نجح الحزب النيجَري من أجل الديمقراطية والاشتراكية في البقاء في الحفاظ على حكم البلاد عبر انتخاب محمد بازوم المنحدر من الأقلية العربية ورفيق درب إيسوفو في مسيرته النقابية والسياسية، في أبريل/ نيسان 2021. وفي السادس والعشرين من يوليو/تموز 2023، أعلنت مجموعة من الضباط يقودها الجنرال عبد الرحمن تياني، ذو الأصول الزارمية-الهاوسية المختلطة، إنهاء حكم الرئيس بازوم في إعادة لسيناريو مألوف جدًّا في التاريخ السياسي للنيجر.

وما يميز هذا المسار السياسي المضطرب، إذا نظرنا إليه من زاوية عرقية، هو أن صناديق الاقتراع ظلت وفية للمعادلة العرقية، إذ لم تحمل إلى سدة الحكم أي مرشح ينتمي إلى عرقية الزارما-الصونغاي أو إلى مناطقهم الغربية. فمنذ أول انتخابات تعددية، سنة 1993، نجح الهاوسا في إزاحة هيمنة الزارما وإن كانوا قد اضطُرُّوا خلال هذه الانتخابات إلى تخفيف حدة الهاوسية في مرشحهم من خلال اختيار شخصية ذات أصول كانورية هاوسية مختلطة هو مَحمَّنْ عثمان الذي كان يرأس حزب الحركة الوطنية.

وكان الانقلاب الذي أطاح بالرئيس عثمان، سنة 1996، والانقلاب اللاحق على ذلك سنة 1993 تعبيرًا عن الصعود المطرد للهاوسا في الرتب العليا من الجيش وتراكم الثروة لدى رجال أعمالهم. ورغم أن حزب الحركة الوطنية من أجل المجتمع والتنمية الذي أنشأه الرئيس العسكري، علي صيبو، نهاية الثمانينات ظل، وفق ما يرى إبراهيم وسوليْ (1998)، تعبيرًا عن مطامح النخب السياسية والإدارية من الزارما-الصونغاي، واستطاع الوصول إلى سدة الحكم في انتخابات 1999، فإن مرشحه الفائز في هذه الانتخابات، مامادو تانجا، كان ذا أصول صونونكية موريتانية وإن نشأ في وسط فولاني كانوري، وقد وُلد في أقصى جنوب شرق البلاد بعيدًا عن معاقل الزارما-الصونغاي في الغرب.

ولم يطل حكم العقيد صالو جيبو ذي الأصول الزارمية-الصونغاوية المختلطة الذي أطاح بتانجا؛ إذ سلَّم السلطة سنة 2011 إلى رئيس مدني منتخب هو محمدو إيسوفو. وإذا كان الأخير ينتمي إلى الهاوسا، فإن حزبه، الحزب النيجَري من أجل الديمقراطية والاشتراكية، تميز بمسار مختلف وبخلفية وطنية يسارية لا غبار عليها وبتجربة راكمتها قيادات الحزب عبر نضالات طلابية ماركسية ونشاط نقابي حثيث، وإن كان أغلب قادته قد انخرطوا في مراكمة الثروات وحياة البذخ بصورة جلية. وقد أضفى اختيار الحزب لبازوم المنتمي للأقلية العربية مرشحًا لرئاسيات 2020 مصداقية على هذا التوجه الأيديولوجي العابر للأعراق والقوميات. وللتخفيف من حدة ما بدا مع انقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني وكأنه إقصاء للأقليات في الانقلاب على بازوم، أعلن المجلس العسكري الحاكم تعيين وزير أول من أقلية التبو هو وزير الاقتصاد السابق، علي مَحمَّنْ الأمين الزين.

ثورة الطوارق ورديفتها لدى التبو

ولم يكن مسار الصراع العرقي في النيجر على الإطلاق مغالبة بحتة بين الزارما-الصونغاي والهاوسا، بل كانت ثورة الطوارق، ورديفتها ثورة التبو، أبرز ملامح التشظي العرقي في هذا البلد منذ منتصف الثمانينات. وقد طغت ثورة الطوارق على المشهد في النيجر مع بداية التسعينات، وبالتزامن مع بدء المسار الديمقراطي وعقد المؤتمر الوطني الذي افتكَّ السلطة من علي صيبو وأجرى انتخابات ديمقراطية هي الأولى من نوعها في النيجر، سنة 1993. وجاءت هذه الثورة جراء جملة من المتغيرات حملها وصول العقيد القذافي إلى سدة الحكم في ليبيا نهاية الستينات، وبدء تصدير اليورانيوم في مناجم آرليت شمالي النيجر بداية التسعينات، وموجات جفاف متلاحقة شهدتها العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وما كان لها من تبعات بالغة الأثر على البنى الاجتماعية للطوارق.

وقد مثَّل إنشاء القذافي الكتيبة الإسلامية التي ستضطلع بدور بارز في تدخله في تشاد بداية الثمانينات بواكير عسكرة طوارق وتبو الصحراء الكبرى في عصر الدولة الوطنية، واستعادةً لتقاليد حربية عريقة وصولات وجولات طويلة خاضتها هاتان القوميتان في التخوم الجنوبية للصحراء خلال العصور السابقة للاستعمار. وكانت المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد سيني كونتي سنة 1976 التي يتهم القذافي بدعمها، والتي نفذها أفراد من العرب والطوارق، وإصدارُ ليبيا نفسَ العام خريطة لها وقد اقتضمت أجزاء من أراضي النيجر، تكريسا لهذا الدور المتعاظم لليبيا في شؤون جيرانها الجنوبيين (تشاد، والنيجر، ثم جمهورية إفريقيا الوسطى) وتعبيرا عن المطامح السياسية الآخذة في التبلور لطوارق النيجر ومالي، وعلاقتهم الوطيدة مع العقيد الليبي.

وقد عمقت موجات الجفاف التي أدت إلى لجوء عشرات الآلاف من الطوارق إلى ليبيا والجزائر، بعد نفوق قطعان أنعامهم، من الاغتراب الطوارقي تجاه نيامي وحكامها العسكريين، وأسهمت في نسج مظلوميتهم وبناء سرديتهم بشأن الشتات الطارقي بين البلدان ووحدت شعورهم بالمأساة. وكانت موجتا جفاف 1973 و1984، كما ينقل غريغوار (1999)، أخطر هذه الموجات، وجاءتا بعد تفكك البنى والعلاقات الطوارقية جراء عقود من الاستعمار وقيام الدولة الوطنية؛ ما أفقد مجتمع الطوارق وسائل المرونة والقدرة على الصمود التقليدية في وجه هذه التغيرات الإيكولوجية الكبرى. ولن تنجح إعادة الطوارق اللاجئين من موجات الجفاف إلى الجزائر وليبيا، والتي أشرف عليها العقيد، علي صيبو، نهاية الثمانينات، في إخماد فورة الغضب التي كانت قد تشكلت لديهم جرَّاء ما يرونه إهمال نيامي لمأساتهم، بل سيشكل الشباب العائدون من المنافي وقود هذه الثورة التي أطلقت أول رصاصة فيها سنة 1985 في تشين تباردين، ثم تكررت نفس العملية في نفس المكان، سنة 1990، مؤذنة بالبداية الفعلية لهذا التمرد. وكانت هذه المنطقة الواقعة في أقصى شمال البلاد تضم آلاف العائدين من ليبيا والجزائر والنازحين من مناطق أخرى في تجمعات لاستقبال المساعدات التي قدمتها منظمات غوث دولية ومانحون دوليون. وسترتفع الهجمات ضد الجيش النيجَري ومواقعه بعد إنشاء جبهة تحرير آير وأزواغ FLAA سنة 1991 برئاسة غيسى آغْ بولا، والتي ستنشق منها جبهة تحرير الهوية بعد ذلك بسنتين برئاسة مانو دَيَاكْ الذي لقي حتفه في تحطم مروحية، سنة 1995، خلال إقلاعها من مدينة أغاديز إلى نيامي.

ولم تكن المعارك بين متمردي الطوارق والجيش النيجَري أكثر ضراوة من المعارك الصحفية والأكاديمية التي خاضها الطوارق وأنصارهم من الصحفيين والأكاديميين الفرنسيين نصرة ودعمًا لهذه الثورة ضد الأطروحات النيجَرية الرسمية ومن يتبناها من المثقفين والأكاديميين في نيامي. ويبدو امتعاض بعض مثقفي النيجر (ساليفو، 1993 وجيبو، 2002 نموذجًا) جليًّا مما يعتبرونه تحاملًا حادًّا ضد الدولة النيجَرية ودعمًا متحيزًا للأطروحات الانفصالية للطوارق طغيا على تناول الصحافة الفرنسية والأكاديميا الفرنسية (ألين كلود-هاواد نموذجًا) لتمرد طوارق النيجر تسعينات القرن المنصرم. ويسرد هذان المؤلفان ما يرونه حضورًا قويًّا للطوارق في الجهاز الإداري للدولة النيجَرية منذ نشأتها تمثل في تعيين وزير خاص بالمناطق الصحراوية من الطوارق، وتعيين الطارقي، حامد الغابد، وزيرًا أول، سنة 1983، ويحاججان بأن نير الأنظمة العسكرية في النيجر لم يكن مأساة خاصة بالطوارق، بل شمل جميع القوميات والأعراق. ويمثل كتاب ساليفو، قضية الطوارق في النيجر، نقضًا لأطروحة الثائر الطوارقي مانو دَيَاكْ التي سطرها في كتابه ولدت والرمل في عينيَّ، والذي يمكن اعتباره مانيفستو هذه الثورة. وقد حظي هذا الكتاب ومن ورائه ثورة الطوارق، بدعاية واسعة في الأوساط الصحفية وداخل الأكاديميا الغربية، لاسيما الفرنسية منها، بسبب علاقات مانو دَيَاكْ التي بناها من عمله ونشاطه في السياحة الصحراوية. وقد تزامنت ثورة الطوارق مع ثورة أخرى لأقلية التبو قادها بركة وردوغو زعيم القوات المسلحة الثورية الصحراوية في منطقة كَوَرْ أقصى شمال شرق النيجَر.

وسيأخذ تمرد الطوارق وقتًا طويلًا ويلقي بظلاله على أعمال المؤتمر الوطني الذي مثل بداية المسار الديمقراطي مطلع التسعينات. ورغم تعدد الوسطاء والمسهلين (فرنسا وبوركينا فاسو والجزائر)، وتوقيع اتفاقيات متتالية نصت على العفو العام ودمج المتمردين في الجيش النيجَري ومنح المناطق الشمالية مستوى معينًا من الإدارة غير المركزية ابتداء من سنة 1995، فإن انشطار الحركات الطوارقية المسلحة وبروز ثورة التبو منذ منتصف التسعينات سيطيلان أمد هذا الصراع الذي ظلت تبعاته قائمة حتى نهاية التسعينات، ثم برز مرة أخرى سنة 2007. وعلى عكس مالي التي عادة ما يصطف فيها العرب والطوارق ضد باماكو، فإن ثورة الطوارق في النيجر حملت معها بروز حزازات عرقية بين العرب الساعين إلى حماية سلاسل إمداداتهم التجارية نحو ليبيا مع الطوارق.

اليورانيوم: النيجر مولِّدًا للمفاعلات النووية الفرنسية

 على عكس الدور الهامشي الذي ظل للنيجر في الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، فإن النيجر المستقلة ستحظى بأهمية كبرى في علاقة باريس مع مستعمراتها السابقة في القارة السمراء ضمن الإطار المعروف بـ فرنسا-إفريقيا مع بدء استغلال مناجم اليورانيوم في الشمال، سنة 1971. بدت يد فرنسا التي اكتشفت مناجم اليورانيوم أيام استعمارها للنيجَر هي العليا في شراكة استغلال هذه المناجم مع إنشاء شركة مناجم الآير SOMAIR، فاتح فبراير/شباط 1968. فقد استحوذت مفوضية الطاقة النووية الفرنسية وخصوصيون فرنسيون على ثمانين في المئة من هذه الشركة، مقابل عشرين في المئة للدولة النيجَرية، كما ينقل غريغوار (1999). وكان هامش المناورة ضيقًا لدى النيجر التي كانت تنقصها الموارد والخبرات واليد المتخصصة؛ ما جعل فرنسا تنجح في فرض شروطها القاسية على نظام حماني ديوري الطامح إلى مورد يُبقي نظامه على قيد الاستقرار.

وقد سعى نظام حماني ديوري، الذي حكم النيجر منذ استقلالها حتى سنة 1974، إلى جعل يورانيوم بلاده ورقة رابحة في مفاوضة فرنسا، واستدرار دعم مالي إضافي إلى المبالغ التي تخصصها فرنسا لدعم مستعمراتها السابقة في إفريقيا، مع بدء دراسات إقامة هذه المشاريع. وقد عمل ديوري خلال السنوات الأخيرة من حكمه على الضغط على باريس من أجل إعادة احتساب سعر اليورانيوم، متطلعًا إلى التحرر من السيطرة الفرنسية المطلقة على يورانيوم النيجر، وإلى تأكيد حق نيامي في بيع حصتها من اليورانيوم لمن تشاء. وهي الجهود التي يرى هيكت (2012) أنها لم تكلل بنجاحات كبيرة جرَّاء البون الشاسع في موازين القوى بين باريس ومستعمرتها السابقة.

وستشهد أيام العقيد سيني كونتي توسعًا في إنتاج النيجر من اليورانيوم مع إنشاء الشركة المنجمية لأكوكان COMINAK التي كانت شركة آريفا الفرنسية (ستحمل لاحقًا اسم أورانو) صاحبة الحصة الأكبر من رأس مالها بنسبة 34%، مقابل 31% للمكتب الوطني للموارد المعدنية النيجَري، بالإضافة إلى مستثمرين يابانيين وإسبان. وستستغل هذه الشركة منجم أكوكان الواقع إلى الغرب من آرليت. وقد تزامن استغلال هذه المناجم مع ارتفاع أسعار اليورانيوم الذي انتقل سعر الطن منه، كما ينقل غريغوار (2011)، من خمسة آلاف فرنك غرب إفريقي، سنة 1971، إلى أربعة وعشرين ألفًا وخمسمئة سنة 1980. ويتحدث غريغوار عن الأثر الواضح الذي تركته طفرة اليورانيوم على اقتصاد النيجر وتمكينها نظام كونتي من إطلاق مشاريع إنشاءٍ شملت إقامة ومدارس وطرق ومنشآت حكومية مختلفة.

ودون الجزم بالترابط بين الحدثين، يؤكد معظم الدارسين لدور اليورانيوم في علاقة باريس بنيامي (غريغوار 1999، غريغوار 2011، هيكت 2012) أن الانقلاب العسكري الذي أطاح ديوري، في الخامس عشر من أبريل/نيسان 1974، جاء قبيل اجتماع مقرر بين الأخير ووفد فرنسي في نيامي في الثامن عشر من نفس الشهر. وكان ديوري يطمح إلى أن يكلَّل هذا الاجتماع بانتزاع نيامي أسعارًا أفضل لليورانيوم من باريس وباستفادة أكثر لبلاده من خيراتها.

كما تشير تقارير إلى الدور المتساهل الذي كان للرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، تجاه مساعي مامادو تانجا للبقاء في سدة الحكم قبيل انتهاء ولايتيه الرئاسيتين الدستوريتين خلال زيارته إلى نيامي، في مارس/آذار 2009. وينقل غلازير (2016) أن تانجا ضغط على ساركوزي الذي حاول شطب النيجر من جولته الإفريقية من خلال اشتراطه زيارة ساركوزي لنيامي لتوقيع اتفاق مع شركة آريفا يمنحها حق استغلال ثاني أهم منجم لليورانيوم في العالم، كما ينقل غلازير. ويتعلق الأمر بمنجم إيمورارن الذي تبلغ احتياطياته ثمانين ألف طن. ويرى غلازير أن تانجا استغل هذه الزيارة لشرعنة مخططاته للبقاء في السلطة وكسب الدعم الفرنسي لها، قبل أن يطيح به العقيد صالو جيبو في انقلاب عسكري، في فبراير/شباط 2010.

ولم تكن ثروة النيجر من اليورانيوم حاسمة في ضبط إيقاع العلاقة مع باريس وحدها، بل كانت كذلك ذات دور محوري في رسم مسار علاقة نيامي بالطوارق في الشمال. فثورات الطوارق في التسعينات ومطلع الألفية التي ناقشنا أعلاه كانت، وفق سردية حركات التمرد، رفضًا لسكان مناطق مناجم اليورانيوم غياب مشاريع تنموية على أراضيهم رغم ما في باطنها من خيرات. لقد كانت حصة الطوارق ضئيلة لا على مستوى تشييد المرافق الحيوية في مناطقهم وحسب، بل تتجسد ضآلتها أيضًا فيما يحصلون عليه من وظائف وصفقات إيراد وتموين من الشركات المستغلة لهذه المناجم. فلم تكن حصة مؤسسات التموين التي يمتلكها منحدرون منهم تتجاوز، سنة 1980، عشرة في المئة، مقابل أربعين في المئة للهاوسا، وخمسة وعشرين في المئة للعرب، وعشرين في المئة للزارما-الصونغاي، كما ينقل غريغوار (1999). وستنخفض هذه النسبة، سنة 1988، في عز أزمة التمرد، وفق نفس المصدر، إلى تسعة في المئة، لتنحدر إلى أقل من أربعة في المئة سنة 1996.

خاتمة

لا تمثل ثروة النيجر من اليورانيوم التي تعتمد عليها فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي في توليد الطاقة النووية، في ظل انقطاع إمدادات الغاز الروسي، الرهان الأبرز في الأزمة الراهنة فحسب، بل للقواعد العسكرية الفرنسية التي بدأ فضاء الساحل يضيق بها ثقلها أيضًا في هذه الرهانات. وليست فرنسا القوة الغربية الوحيدة التي تتخذ من أرض النيجر مكانا لقواعدها العسكرية، بل للولايات المتحدة واحدة من أكبر قواعدها للمسيَّرات. والنيجر، لاسيما شمالها المفتوح على الجزائر وليبيا، مسار من أهم مسارات الهجرة التي يسلكها سنويًّا أفواج الأفارقة الهاربين من نير الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والتفقير من جنوب الصحراء نحو الأبيض المتوسط أملًا في العبور إلى أوروبا.

ولعل الغائب الأبرز من هذه الحسابات هو الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة لأغلب سكان النيجر المصنفة من بين الأفقر في العالم. فوفق منظمات الغوث الدولية التي تقدم، من بين ما تقدم من مساعدات حيوية، غذاءً منقذا للحياة لأكثر من ثلاثة ملايين شخص في النيجر، قد يحمل استمرار هذه الأزمة، وما انجر عنها من إغلاق للحدود، تبعات إنسانية كارثية في بلد ذي تاريخ طويل مع الجوع وانعدام الأمن الغذائي.

ورغم ثقل وطأة هذه الأزمة، ورغم الضغوط التي تواجهها النيجر من الإكواس والاتحاد الإفريقي، والمجتمع الدولي برمته، فإن قادة الانقلاب العسكري، ومن خلفهم مجموعات من الشباب الساخط التائه المتشبث بأمل ما في هذا الانقلاب العسكري، قد يفاجئون العالم بقدرتهم على الصمود. فالنيجر بلد طوَّر سكانه، وهم ينتظرون منذ اكتشاف اليورانيوم قبل ستة عقود حصتهم من الرفاه وفرص العمل، مرونة عالية في مواجهة الخيبات وتبدد الآمال وقساوة الظروف. ذاك ما اقتنصته، بعبقرية الأنثروبولوجي، الباحثة الأمريكية ماسكيليير، وهي ترقب جلسات الشاي (فادا) التي يعقدها الأقران (ساماريا) في نيامي في كتابها فادا: الضجر والانتماء في النيجر.