• اخر تحديث : 2024-05-02 13:29
news-details
تقدير موقف

مسار التقارب بين العسكريين الجدد في الساحل الأفريقي


يمثل التقارب الواضح بين العسكريين الجدد في منطقة الساحل منذ صعودهم إلى السلطة، وخاصةً في دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حلقة جديدة ضمن سلسلة التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، وهو ما يعزز نفوذ الأنظمة العسكرية الجديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما يعد بمنزلة ضربة قوية لنفوذ فرنسا والغرب في الساحل وغرب أفريقيا الذي يتداعى بشكل ملحوظ مؤخراً، في مقابل صعود أدوار دول أخرى مثل روسيا التي تسعى إلى ملء الفراغ في المنطقة، وسط ترحيب رسمي وشعبي في دول حزام الانقلابات –باستثناء الجابون – وذلك تمهيداً لتوسيع نفوذها وحضورها الاستراتيجي على حساب منافسيها هناك.

أنماط العلاقات

هناك عدد من المؤشرات التي تعكس مدى التقارب بين العسكريين الجدد في منطقة الساحل الأفريقي خلال الفترة الماضية، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1- دعم سياسي إقليمي متبادل: بمجرد استيلاء المجلس الوطني لحماية الوطن على السلطة في النيجر في أواخر يوليو 2023، سارعت السلطتان العسكريتان الانتقاليتان في دولتي مالي وبوركينا فاسو إلى الاعتراف بالانقلاب في نيامي، ودعمهما القادة العسكريين الجدد في البلاد، وهو ما اتضح في إرسال باماكو وواجادوجو وفوداً رسمية إلى العاصمة نيامي لإظهار الوحدة مع قادة الانقلاب، وسط تصعيد التهديدات الإقليمية والدولية بالتدخل العسكري من جانب تكتل إيكواس مدعوماً من فرنسا، في حين أعلن القادة الجدد في نيامي إعادة فتح الحدود البرية والجوية مع البلدين بالرغم من إغلاقها منذ اندلاع الانقلاب العسكري الأخير الذي وقع في يوليو 2023.

يأتي ذلك ضمن سلسلة من اللقاءات الدبلوماسية بين مسؤولي الدول الثلاث خلال الفترة الماضية تستهدف تعزيز العلاقات البينية بينها؛ فقد التقى وزيرا خارجية دولتي مالي وبوركينا فاسو في أغسطس 2023 بهدف ترسيخ العلاقات الثنائية بين البلدين. وقبل ذلك في سبتمبر 2022 التقى الجنرال بول هنري سانداوجو داميبا رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق – قبل أن يطيح به إبراهيم تراوري – خلال زيارته إلى باماكو، الجنرال أوسيمي جويتا رئيس المجلس العسكري الانتقالي المالي؛ حيث اتفقا على تعزيز الشراكة العسكرية بين البلدين، ومراجعة شراكتهما العسكرية وتقويتها. وجدير بالإشارة أن التنسيق بين الطرفين استمر عقب الانقلاب الأخير في واجادوجو في سبتمبر 2022 الذي أطاح بداميبا.

2- تعزيز التعاون العسكري بين الأنظمة الجديدة: فقد عملت الأنظمة الجديدة على تعزيز تعاونها العسكري؛ وذلك في ضوء التربص الإقليمي والدولي من قبل إيكواس بإيعاز من فرنسا التي هددت النيجر بالتدخل العسكري، واجتماع قادة أركان دول إيكواس في العاصمة الغانية أكرا في أغسطس 2023 من أجل وضع خطة عسكرية لحرب خاطفة لاستعادة بازوم للسلطة.

في مقابل ذلك، عُقد اجتماع ثلاثي ضم قادة أركان مالي والنيجر وبوركينا فاسو في أغسطس 2023 بالعاصمة النيجرية نيامي لاتخاذ تدابير مشتركة واستعدادات لمواجهة أي تدخل عسكري محتمل من قبل إيكواس في الأراضي النيجرية، كما أشارت تقارير في أغسطس 2023 إلى وصول طائرات عسكرية ومروحيات هجومية قادمة من مالي وبوركينا فاسو لدعم الجيش في النيجر من أجل مواجهة التدخل العسكري المحتمل؛ وذلك في إطار عملية الشراكة الأمنية والعسكرية التي تربط البلدان الثلاثة بهدف تدريب وتطوير قدرات القوات النيجرية في مجال مكافحة الإرهاب، إضافة إلى تقارير تفيد بنشر قوات من جيش بوركينا فاسو في البلاد برغم نفي السلطات النيجرية صحة هذه الأنباء.

فيما زعمت تقارير اعتراض تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، في أغسطس 2023، قافلة تابعة للجيش المالي خلال طريقها لعبور الحدود المالية المشتركة مع النيجر، كانت تحمل أسلحة مرسلة إلى القادة العسكريين في النيجر، في ضوء احتمال قيام عمل عسكري ضدها.

3- التنسيق المشترك في الأمم المتحدة: سعت كل من مالي وبوركينا فاسو إلى إحراج تكتل إيكواس والغرب، بما في ذلك فرنسا، من خلال محاولة تدويل أزمة النيجر بمطالبة مجلس الأمن الدولي في 9 أغسطس 2023 باتخاذ إجراءات أممية للحيلولة دون تنفيذ عمل عسكري محتمل ضد النيجر عقب تهديدات تكتل إيكواس مدعوماً فرنسياً.

وفي سياق متصل، تصدت كل من مالي وبوركينا فاسو لاتهامات الأمم المتحدة لكليهما بانتهاكات لحقوق الإنسان؛ ففي مايو 2023 قدمت باماكو الدعم للأخيرة بعدما وجهت لها الأمم المتحدة انتقادات بسبب مزاعم بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين في شمال بوركينا فاسو، التي دعمت هي الأخرى باماكو عقب اتهامات أممية للجيش المالي وقوات فاجنر بالتورط في مقتل أكثر من 500 مدني في شمال البلاد في الفترة 27-30 مارس 2023.

4- بزوغ ملامح محور إقليمي جديد: وهو محور يضم ثلاث دول هي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهو مناهض لتكتل إيكواس وإجراءاتها التي اتخذتها ضد الدول الثلاث منذ اندلاع الانقلابات فيها ومن ورائها فرنسا. ويعزز هذا التحالف الثلاثي عدة مؤشرات، مثل اتفاق كل من مالي وبوركينا فاسو في فبراير 2023 على تعزيز التنسيق بين الجانبين لمواجهات التحديات الإقليمية المتزايدة، بما في ذلك التهديدات الأمنية وتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية، بالتزامن مع التراجع العسكري النسبي لفرنسا من المنطقة خلال الفترة الأخيرة.

كما يبدو التفاهم الواضح بين البلدين خاصة بعدما اقترح أبولينير كيليم دي تامبيلا رئيس وزراء بوركينا فاسو، إقامة اتحاد فيدرالي مرن بين البلدين. وأشارت بعض التقارير الغربية إلى إمكانية انضمام دولتي النيجر وغينيا كوناكري إليهما. وفي سبيل مواجهة تلك التحديات، طالبت الحكومات العسكرية في الدول الثلاث بوركينا فاسو ومالي وغينيا كوناكري باستئناف عضويتها في إيكواس بهدف مكافحة الإرهاب في الساحل، ومن أجل تضافر الجهود الإقليمية في هذا الصدد.

5- تبني موقف ثلاثي موحد ضد الغرب: اتخذت المجالس العسكرية الانتقالية في دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر سلسلة من القرارات الموجهة ضد فرنسا خلال العامين الأخيرين، على رأسها طرد السفير الفرنسي من البلاد مثلما فعلت مالي، وإلغاء اتفاقات التعاون العسكري والدفاعي مع باريس، كما هو الحال في البلدان الثلاثة، وقرارات أخرى متعلقة بإيقاف بث بعض وسائل الإعلام الفرنسية على غرار إذاعة فرنسا الدولية، وقناة فرانس 24 مثلما هو الحال في النيجر.

وهو ما يعكس رفض العسكريين الجدد النفوذ الفرنسي في المنطقة، في ضوء تشكيكهم في مدى فاعلية وجود القوات الفرنسية في منطقة الساحل، لا سيما بعد إخفاقها في مواجهة الإرهاب على مدار العقد الماضي، واتهامها باستغلاله ذريعة للاستحواذ على الثروات والموارد الطبيعية الأفريقية، وهو ما دفع السلطات العسكرية في الساحل إلى مطالبة باريس بمغادرة قواتها العسكرية خارج أراضيها.

6- تسهيل العلاقات مع فاجنر: يبدو أن مالي تلعب دوراً بارزاً باعتبارها عراباً لفاجنر من أجل تعزيز دورها وانخراطها عبر الشراكة مع دول حزام الانقلابات بالساحل؛ إذ يكشف اللقاء الذي سهلته السلطات العسكرية المالية والذي جمع الجنرال ساليفو مودي رئيس أركان المجلس العسكري النيجري، مع بعض مسؤولي فاجنر خلال زيارته إلى مالي في 2 أغسطس 2023، عن اهتمام قادة النيجر الجدد بالحصول على خدمات فاجنر في البلاد، إضافة إلى حرص العسكريين الجدد في الساحل على تقوية شوكتهم في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية الساعية إلى إفشال الحراك العسكري في المنطقة خشية تهديد المصالح الحيوية للاعبين الفاعلين هناك، كما تسير بوركينا فاسو في توجه مالي نفسه فيما يتعلق بشراكة عسكرية وأمنية واسعة مع فاجنر الروسية من أجل التعامل مع التحديات الأمنية التي تواجهها منذ عام 2015.

تعزيز السلطة

هناك فرصة أمام عسكريي الساحل الجدد لتعزيز سلطتهم في بلدانهم استناداً إلى مؤشرات التقارب الواضح بين دول حزام الانقلابات التي دفعت البعض إلى الاعتقاد باقتراب ظهور تحالف إقليمي جديد غير رسمي مناهض لإيكواس والغرب، وهو التحالف الذي تفرضه السياقات الدولية والإقليمية الضاغطة عقب الانقلابات الأخيرة في المنطقة. ويمكن أن يحقق هذا التقارب أهداف العسكريين المتمثلة في الاستمرار في الحكم، وتثبيت أركان سلطتهم على الأقل في المدى القصير؛ وذلك من خلال ما يلي:

1- توظيف فخ الانقلابات المتكررة في المنطقة: وهو ما يمثل فرصة للتحايل على الغرب وفرنسا وكذلك إيكواس، من خلال تشتيت انتباههما، وهو ما تحقق في الانقلاب الأخير بالجابون، الذي خفف الضغوط الإقليمية والدولية على المجلس العسكري الانتقالي في النيجر، ولا سيما أن المخاوف الإقليمية والدولية لا تزال قائمة حول احتمال انضمام دول أخرى جديدة إلى قائمة دول حزام الانقلابات بالمنطقة خلال الفترة المقبلة، في ضوء تأثير الدومينو، واستلهام العسكريين تكرار تجارب الانقلابات الأخيرة في بلدان أخرى، خاصة أن الدوافع حاضرة لقيام انقلابات جديدة في ضوء التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجهها معظم دول الساحل وغرب أفريقيا.

2- السيطرة على الرأي العام الأفريقي: فاستمرار دعم العسكريين للاحتجاجات الشعبية المناهضة للوجود الفرنسي والغربي في دول الساحل، وتشويه صورة الغرب في السياق الأفريقي، من شأنه أن يعزز سلطة العسكريين الجدد في الداخل والخارج، وبخاصة ضد الممانعة الفرنسية لسحب قواتها العسكرية من المنطقة؛ ففي النيجر، تتزايد التظاهرات الشعبية المؤيدة للمجلس العسكري الانتقالي في البلاد، وهي التظاهرات المناهضة للوجود الفرنسي في البلاد وتستهدف بصورة رئيسية القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي، خاصة مع قرار السلطات العسكرية الأخير بطرد السفير الفرنسي من البلاد.

3- تهديد بقاء تكتل إيكواس: يثير الموقف الموحد لدول مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري تجاه تهديدات إيكواس بتنفيذ عمل عسكري محتمل في النيجر عقب الانقلاب الأخير، المزيد من القلق والمخاوف من احتمال تفكك وانهيار التكتل بغرب أفريقيا، في ضوء الانقسامات وحالة الاستقطاب الحاد التي أضحت تشكل السياق الحاكم في أروقة إيكواس، لا سيما في ضوء الاتهامات الموجهة إلى الأخيرة بالتبعية للنفوذين الفرنسي والغربي، وهو ما يهز ثقة الدول الأعضاء بالمنظمة الإقليمية، وربما يهدد بانسحاب بعض الدول من التكتل مستقبلاً.

4- تعزيز العلاقات مع موسكو: إن قدرة العسكريين الجدد على التحليق خارج عباءة التحالفات الغربية، بما في ذلك فرنسا، والانفتاح على أطراف دولية فاعلة أخرى مثل روسيا التي تقدم الدعم اللوجستي من خلال فاجنر من أجل محاربة الإرهاب الذي أخفق في محاربته الغرب وفرنسا على مدار السنوات الماضية؛ من شأنها تعزيز نفوذ هؤلاء العسكريين على الصعيدين المحلي والإقليمي، خاصة بعد نجاحهم في فرض قواعد جديدة للعبة الإقليمية سيكون لها تأثيرها في تغيير موازين القوة في المنطقة، وربما تكون سبباً في تمديد فترة حكمهم خلال السنوات المقبلة.

5- استمرار سياسة الضغط على فرنسا: فقد أسهمت هذه الانقلابات الأخيرة في إفقاد الدبلوماسية الفرنسية توازنها في المنطقة، خاصة مع توتر العلاقات مع معظم القادة الجدد باستثناء الجابون، وهو ما يعزز شعبية العسكريين الجدد على الصعيد الداخلي، بما يخدم أهدافهم في إطالة أمد بقائهم في السلطة؛ وذلك في ضوء تنامي المطالبات بمغادرة فرنسا والغرب من بلدان الساحل.

وإجمالاً، يمثل تطور العلاقات التي تربط بين العسكريين الجدد في دول حزام الساحل نقطة قوة لمستقبلهم السياسي في السلطة بالمنطقة خلال الفترة المقبلة؛ وذلك في مواجهة سلسلة الضغوط الخارجية الساعية إلى استعادة الأنظمة الحاكمة السابقة أو على الأقل احتواء النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في المنطقة أو إجبارها على تقديم تنازلات من شأنها الحفاظ على النفوذ الغربي والسيطرة على الطموح الروسي الجامح هناك.