• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27

أولاً: الموقف

منذ آذار 2022 وأرض الضفة الغربية تمور موراً، وبركان أهلها يغلي غلياناً، فقد تصاعدت فيها أعمال المقاومة وبمختلف أشكالها وأنواعها؛ الشعبية والعسكرية والأهلية، إلى الدرجة التي يصعب معها متابعة التفاصيل اليومية للاحتكاكات والاشتباكات التي يخوضها المقاومون وبيئتهم الحاضنة ضد هذا المحتل الدخيل.

فمع طلوع شمس كل يوم، تتسابق وسائل الاعلام التقليدية – أجهزة الراديو والتلفاز – وغير التقليدية؛ من وسائل التواصل الاجتماعية، تتسابق في بث ونشر ما قام به المقاومون بالأمس من عمليات، حتى أن بعض هذه الوسائل تراه مواكباً للفعل المقاوم بالبث المباشر.

فهذه الوسيلة تنقل مقطعاً صوتياً، وتلك تسارع إلى بث ما سجلته كاميراتها من مشاهد تصويرية، فما عاد يمكن طمس الفعل المقاوم وأثره على المحتل، بعد أن بدأنا نسمع عويل جنودهم عبر ما يبث من مقاطع مصورة، أو أصوات مسجلة.

وقد تركز الفعل المقاوم على مدن شمال الضفة الغربية – نابلس، جنين، طولكرم – فأصبحت هذه المدن مركز ثقل المقاومة، ونقطة ارتكازها، فلا يمر يوم دون اشتباك أو احتكاك للمقاومين في هذه المدن مع المحتل الذي يصول ويجول في أرضنا طولاً وعرضاً.

إلّا أن اللافت عند متابعة ردود فعل العدو، وتصريحات قادته العسكريين والأمنيين أنهم يقرعون جرس الإنذار والخطر من تحول هذه المقاومة، أو انتقال شرارتها إلى مدن جنوب الضفة الغربية؛ بالخصوص محافظة الخليل – هذا لا يعني أن لا فعلٌ مقاومٌ هناك، إنما ليس بالزخم أو الشدة المشاهدة في شمال الضفة حيث أشرنا سابقاً -، الأمر الذي يتطلب من مراقبي حالة المقاومة عن بعد، أو الساهرين على تطويرها ومدها بأسباب الحياة عن قرب، يتطلب منهم تحليل موقف العدو هذا، ومعرفة سبب تخوفه من تعاظم حالة المقاومة في جنوب الضفة الغربية، وتحول مدينة الخليل إلى نقطة ارتكاز لها، وهو ما ستحاول هذه الورقة تحليله والإجابة عليه، لما يحمله هذا الأمر – التحليل والإجابة – إن كان صائباً من فوائد نعتقد أنه يمكن أن تتحول إلى برامج وتوجيهات عمل، يمكن من خلالها تحقيق ما تصبو له المقاومة من إنتاج بؤر احتكاك واشتباك مع هذا العدو، تجبره على عدم الاستقرار، وبقائه في حالة من الاستنفار، وتجبي منه خسائر بشرية ومادية، وهي أمور تقع في صلب مهمة المقاومة والتي هي: فرض حالة لا أمن على العدو وقطعان مستوطنيه.

ثانياً: التحليل

يمكن اختصار تحليل الموقف المعادي على أنه يخشى خشية حقيقية من تحول مدن جنوب الضفة الغربية، بمركزية مدينة الخليل إلى ساحة مواجهة، واشتباك واحتكاك مع قواته، ومغتصبي أرضنا القاطنون في هذه المدن، الأمر غير المحتمل تعبوياً، والذي يقدر العدو أنه إن تحقق سيجبي منه خسائر بشرية ومادية غير محتملة، كما أن التعامل معه يتطلب تعبئة قدرات قتالية غير متوفرة له في هذا الظرف الذي تشتعل فيه جميع مدن الضفة – تقريباً – وتحتك وتشتبك معه، فالعدو يشغّل في منطقة عمليات الضفة الغربية ما لا يقل عن خمس وعشرين كتيبة عاملة، تشكل ثلثي قدراته القتالية، مما يعني تعذر تعبئة وحشد قدرات قتالية حقيقة قادرة على التعامل مع المقاومة إن هي نقلت مركز ثقل عملياتها إلى محافظة الخليل، أو زادت – المقاومة – من تخصيص قدراتها البشرية والمادية لتشغيلها في هذه المدينة، هذا هو تحليل الموقف باختصار.

أما عن تعليل هذا التخوف، وسبب هذا الهاجس لدى العدو؛ فيمكن التطرق إلى أهم النقاط التي يمكن من خلالها فهم وتعليل سلوك العدو هذا، فمن أهم العلل تلك ما يأتي:

المساحة الشاسعة لمنطقة العمليات:

من المشاكل التي تواجه أي تشكيل عسكري يريد السيطرة على موقف معادٍ، أو التحكم في مسارات عمل ما، وتحقيق أهداف عسكرية، من المشاكل التي تواجهه سعة المساحة، وقلة الموارد المخصصة لتحقيق الهدف، وفي نظرة سريعة إلى محافظة الخليل، وبمراجعة الأرقام؛ نجدنا نتحدث عن مساحة جغرافية تصل إلى 997 كلم مربع، أي ما يعادل 16% من مساحة الضفة الغربية البالغة 5860 كلم مربع، وهذا يعني تعبوياً أن العدو الإسرائيلي بحاجة إلى تعبئة ثلث قدراته العاملة حالياً في الضفة فقط للسيطرة على مدينة الخليل وأقضيتها، الأمر غير الممكن في ظل الموقف المتصاعد الحالي للمقاومة في عموم مدن الضفة الغربية وقراها.

ديموغرافيا منتشرة تصعب السيطرة عليها:

وجه الصعوبة الثاني الذي يواجهه القائد العسكري العامل في جغرافيا معينة؛ ما تحويه هذه الجغرافيا من بشر – انسوا الحجر هذه قصة ثانية -، ففي الخليل يقطن ما لا يقل عن 711 ألف نسمة، يعني بمعدل 713 شخصاً في الكيلو المتر المربع، وهذه أعداد تصعب السيطرة عليها، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن هذه الكتلة البشرية في حال تشغيلها في خطة دفاعية متكاملة، فإنها تشكل كتلة دفاعية يصعب خرقها، حيث توجد لأي مهاجم تهديداً ذا مصداقية؛ وهذا موضوع فني تخصصي ليس مكان بسطه والحديث عنه هنا.

طبوغرافية منطقة العمليات:

أما ثالثة الأثافي في معاضل القادة العسكريين، فهي الطبوغرافيا، إنها من تحمي – بعد حفظ الله – العالم بها والخابر لمسالكها، وتقتل من يجهلها وما تخفي طياتها، فقديماً قيل: “قتلت أرضٌ جاهلَها، وقتل أرضاً عالِمُها“.

ولن نسهب كثيراً في الحديث عن طبوغرافية الخليل وجبالها، وما فيها من مغر ومغاور، وشعاب وهضاب، ولكن إشارة بسيطة، تفصح عما نتحدث عنه. فطبيعة منطقة العمليات هذه جبلية؛ حيث تصل بعض ارتفاعاتها إلى ما يقارب 1032 متراً عن سطح البحر، وسلسلة جبال الخليل هي الأكبر في فلسطين، حيث تمتد من “برية الخليل” شرقاً إلى سواحل فلسطين غرباً، ومن” بيت أمر” شمالاً حتى “الظاهرية” جنوباً، وهي تضاريس متنوعة؛ فهي منبسطة في أماكن، وشديدة الوعورة في أخرى.

إن هذا التنوع الطبوغرافي من أهم عوامل القوة التي يمكن أن تضاف إلى قوة عناصر المقاومة المنتشرين في منطقة العمليات هذه إن هم أحسنوا معرفتها، والتعامل معها في جهودهم الدفاعية أو الهجومية، فخلاصة الفن العسكري هي: المواءمة بين الفرد والسلاح والأرض أثناء تنفيذ المهمة.

قربها من قاعدة المقاومة الصلبة في غزة:

ومما يقلق العدو من نقل الجهد المقاوم إلى الخليل هو قرب منطقة العمليات هذه من قاعدة المقاومة الصلبة في “غزة” التي تفصلها عنها مسافة لا تتجاوز 95 كم، وهي مسافة في العرف العسكري لا تساوي شيء!

فالمقاتل المتمرس يمكن أن يطوي هذه المسافة وهو بكامل عدته وعتاده في 3 أيام، وبمعدل سير لا يتجاوز ال- 10 ساعات يومياً، وهذا الأمر – قرب منطقة العمليات من قاعدة المقاومة – خطرٌ استراتيجي يواجه أي قائد عسكري تقع منطقة العمليات هذه تحت مسؤوليته، فيكفي أن يؤخذ قرار بتسيير دوريات مقاتلة تنطلق من ” غزة” باتجاه الخليل، تنقل عتاداً، أو مقاتلين لنقل الخبرة، وتطوير القدرة، يكفي أن يؤخذ هذا القرار، لتتحول محافظة الخليل إلى بؤرة مقاومة تقتلع مغتصبة “كريات أربع” من مكانها اقتلاعاً و (وتنعفها) بمن فيها (نعفاً).

قرب منطقة العمليات من جغرافيات فيها أصول استراتيجية للعدو:

عند قيام هذا الكيان المحتل، وتأسيسه على أنقاض مدننا وقرانا؛ رأى قادته ومؤسسوه أن جواره شمالاً (لبنان) وبحكم تركيبته الطائفية حيث أغلب أهله من المسيحيين، رأى أن هذا الجوار سيكون جواراً آمناً؛ فأسس بنيته الصناعية، ونشر كثيراً من أصوله الاقتصادية والعسكرية في المناطق الشمالية من أرضنا المحتلة، ولكن وبعد ما مر على لبنان من مواقف، وما احتضنته من مقاومة ومقاومين في الماضي، وما يشهده – لبنان – من احتضان لأهم مكون من مكونات محور المقاومة (حزب الله)، وتحوله إلى أحد أهم التهديدات الاستراتيجية مثبته الفاعلية ضد هذا الكيان، فقد بدأ العدو بنقل كثير من أصوله الاستراتيجية إلى منطقة الجنوب، فأهم قواعده الجوية (حتسوريم)، ومجمع استخباراته العسكرية؛ تقع في النقب، وكثير من مقرات تدريبه الرئيسية أيضاً محلها النقب ومحيط بئر السبع، فضلاً عن أن قاعدة الدفاع الصاروخي المشتركة بينه وبين الأمريكان اختير لها – لأسباب تعبوية – أن تكون في النقب، كل هذه الأصول الاستراتيجية تقع في مدى عمل أي مقاومة يمكن أن تتخذ من محافظة الخليل نقطة ارتكاز وانطلاق لها، وهذا موقف يطير النوم من أعين الصهاينة.

انفتاحها على جغرافيات يمكن أن تشكل طرق إمداد مستدامة للأدوات والرجال:

كما تنفتح منطقة العمليات (محافظة الخليل) على جغرافيا تعد خزاناً للقدرات البشرية والمادية، يمكن في حال تفعيله أن يقض مضجع العدو، وأن يحيل عملية تجفيف مصادر القدرة المطلوب لتطوير المقاومة في هذا المكان، تحيلها إلى عملية دونها خرط القتاد، هذا إن لم تكن مستحيلة أصلاً، إننا نتحدث عن جغرافيا تمتد على طول صحراء سيناء وعرضها، وهي منطقة عمل لا يمكن أن يُسيطر عليها، أو تغلق في وجه المقاومة، إن هي حددت وبدقة ما الذي تريده من هذه الجغرافيا وامتدادها. إن أبناء بئر السبع وعشائره الكرام يجوبون صحراء سيناء طولاً وعرضاً، ولهم امتدادات عائلية في مصر والأردن وصولاً إلى شرق ليبيا، وهذه صلات قرابة لا يمكن قطعها أو سد طريقها، وغض الطرف عن هذا المعطى وعدم استثماره لتعظيم قدرات المقاومة في منطقة العمليات هذه نعتقد أنه بحاجة إلى مراجعة، والعمل مع هذه الجغرافيات واستمرار ما فيها بحاجة إلى غرف مغلقة وأبواب مؤصدة.

الثقل التنظيمي لفصائل المقاومة – خاصة حماس – في هذه المدينة:

لا يكاد يوجد تنظيم فلسطيني عامل على الساحة الفلسطينية ليس له وجود في منطقة العمليات هذه، ففتح لها فيها نصيب، وحركة حماس أحد أهم مراكز ثقلها البشري هي الخليل، والجهاد لها هناك سهم وإن قل، وباقي الفصائل تجد لها هنالك مناصرين وأعوان، ومن عوامل نجاح حركات المقاومة؛ توفر جسم تنظيمي يمدها بما تعوزه من قدرات بشرية ومادية، لذلك فإن تقوية هذه التنظيمات وإعادة تعريف وصفها ودورها في معركة التحرير، تحرير هوياتها كتنظيمات عاملة في أرض محتلة، كل هذا يشكل أحد مكامن الخطر الذي يستشعره العدو، فحركات المقاومة التي تستند إلى أجسام تنظيمية، وحواضن شعبية؛ لا يمكن الخلاص منها أو الانتصار عليها، مهما طال زمن الصراع، وتعددت سبل القمع والاقتلاع.

الكمية الهائلة من الأسلحة الفردية المتوفرة لدى سكان منطقة العمليات:

وهنا يكفي أن نشاهد مقطع على اليوتيوب، أو وسائل التواصل الاجتماعي، لجاهة عرس، أو عطوة صلح، أو نجاح ناجح، أو عودة حاج من الحج، يكفي ذلك لنرى فوهات (السمرات) وقد غطت أفق السماوات، فوفق إحصاءات العدو؛ تحوي محافظة الخليل ما لا يقل عن 50 ألف قطعة سلاح فردي – مسدسات، بنادق، رشاشات خفيفة – وهذا السلاح لو وزع على مساحة المحافظة لكان في كل كم مربع 50 قطعة سلاح!!

وهذا يعني أن هذا السلاح إن استثمر – جزء منه وليس كله – في العمل المقاوم فإنه سـ (يخلق) شبكة نار لا يمكن التعامل معها أو السيطرة عليها من قبل العدو.

الأعراف والعادات العشائرية الحاكمة في منطقة العمليات:

إن الإنسان ابن بيئته التي تترك عليه أثرها، وتطبعه بطباعها، وأهلنا الكرام في الخليل، أهل عشائر وحمائل – كما سائر أهلنا في فلسطين المحتلة -، تحكمهم أعرافٌ يمكن أن تستثمر في تطوير عمل المقاومة، فإن كان البعض يضيّق على المقاومين هامش مناورتهم وحركتهم؛ فعرف العشائر يمكن أن يخدم في منع وردع من يمارس مثل هذا الفعل، وهذا أمرٌ مطلوب لذاته لتطوير المقاومة وحمايتها، وإن كان العدو يعتدي على أبنائنا وحرائرنا؛ فيقتل منهم أو منهن؛ فالثأر يتوارثه أبناء العشائر كابراً عن كابر، والدم عندهم لا يبقى على الأرض، وهذه صفة يمكن أن يستفاد منها في مواجهة العدو. وإغاثة اللهفان، وإجارة المستجير، يمكن أن تُترجم فعلاً يحمي ظهر المقاومين من المحتلين الأصليين أو من وكلائهم المحليين. وهذه أعراف وعادات إن هذبناها، وأحسنا استثمارها؛ فإنها تضيف قوة إلى قوة المقاومة، وتضع عوائق أمام المحتل الدخيل.

الغنى بالأهداف المعادية:

أخيراً، فإن منطقة العمليات هذه تعج بالأهداف المعادية، من مغتصبين وجنود محتلين، فليس مطلوباً أن يجوب المجاهدون الأرض طولاً وعرضاً بحثاً عن أهدافهم، ففي منطقة العمليات هذه ما لا يقل عن 27 مغتصبة، بين كبيرة وصغيرة، من “كريات أربع” إلى “تل رميدة” مرواً بـ “سوسيا” وكلها تحوي أكثر المغتصبين تطرفاً، وهم – المغتصبون – لهم مع أبناء جلدتهم مشاكل، ويرون فيهم عبئاً على هذا الكيان المؤقت، وتخصص لهم قدرات بشرية ومادية لحمايتهم أثناء التنقل والحركة؛ ما يزيد الأهداف أهدافاً، وحماية هذه الأهداف تشغل بال قيادة العدو، فما بالنا إن تحولت مدينة الخليل بأقضيتها إلى بؤرة مقاومة ساخنة، ومنطقة عمليات نشطة، ألن تطير النوم من عيني “غالنت” و “هليفي”؟

كانت هذه بعض الأمور التي تجعلنا نفهم، ونعلل لماذا يشكل تفعيل المقاومة، وزيادة جهدها في الخليل، هاجساً للعدو، ينشط في منع حدوثه، ويعمل على تخصيص قدرات بشرية ومادية لمنع تحققه، الأمر الذي يدفعنا إلى التوصية بالآتي: إخضاع هذه الورقة للبحث والتفصيل، ليبنى على الشيء مقتضاه؛ فالتوصيات في مثل هذه الأوراق من المحظورات.