• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
أبحاث

تحديات السياسة الفرنسية في المنطقة المغاربية


في السنوات الأخيرة، دخلت العلاقات الفرنسية المغاربية حقبة من عدم اليقين، تميزت بظهور أزمات وتحديات جديدة ومختلفة وسط بيئة جيوسياسية متغيرة. أحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في حالة عدم اليقين هذه هو المشهد السياسي المتغير باستمرار في فرنسا والدول المغاربية.

وهذا سيجعل من الصعب على فرنسا الحفاظ على مكانتها السابقة وتقوية علاقاتها بدول المنطقة والحفاظ على مصالحها وبناء شراكات مستقرة.

نتساءل في هذه الورقة عن التحديات التي أصبحت تواجه سياسة فرنسا في المنطقة المغاربية، وكيف سيتمكن الرئيس، إيمانويل ماكرون، من تجاوز هذه التحديات وإصلاح علاقاته المتأزمة مع الدول المغاربية لاسيما المغرب والجزائر.

أولًا: أزمات مركبة مع الجزائر والمغرب

تمر علاقة فرنسا مع البلدان المغاربية في الآونة الأخيرة بمرحلة حرجة وفي سياق غير عادي من الأزمات المركبة والمتكررة. فقد توقف الحوار السياسي مع المغرب؛ لدرجة أن كلا البلدين غير قادرين على جدولة أية زيارات لقادة البلدين أو أي مسؤولين رسميين. كما وصل انعدام الثقة مع الجزائر إلى درجة أن الزيارة التي طال انتظارها للرئيس الجزائري قد تم تأجيلها لأجل غير مسمى. ويمكن رصد بعض الديناميات المفيدة في هذا السياق:

أ) الصعود والهبوط غير المتناهي في العلاقات مع الجزائر

على الرغم من وجود العديد من التراكمات في العلاقات بين باريس والجزائر؛ حيث تتداخل القضايا المعقدة من الماضي والقضايا الخلافية من الحاضر، إلا أن الجانبين، الفرنسي والجزائري، يتبادلان من وقت لآخر رسائل تُظهر الرغبة في تجاوز الأزمات التي تحدث بين البلدين.

كما تفيد بعض الإشارات من الجانبين باتجاه البلدين نحو حل القضايا الخلافية وتعزيز العلاقات ونحو إقامة "شراكة إستراتيجية" لم تتضح بعد ملامحها بشكل كبير، بسبب ثقل الملفات العالقة وعلى رأسها ملف الذاكرة وصعوبات تتعلق بالتعاون العسكري والإستراتيجي.

كان هناك الكثير من التشنج في العلاقات في أعقاب الأزمة الدبلوماسية الحادة لعام 2021 التي كانت من جراء انتقاد الرئيس ماكرون الصادم للطبقة الحاكمة في الجزائر، والذي ذكر فيه أن "النظام السياسي العسكري الجزائري تم إنشاؤه على ريع الذاكرة"، وعلى "تاريخ رسمي قائم على كراهية فرنسا" و"إنكار وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار" وتم على إثرها استدعاء سفير الجزائر لدى باريس لمدة ثلاثة أشهر.

ونظرًا لأهمية ملف الذاكرة والماضي الاستعماري، فقد كان هذا الملف في صلب مبادرات الرئيس ماكرون تجاه الجزائر، بدءًا من اعترافه، عام 2017، بـ"الجرائم ضد الإنسانية"، وصولًا لتطبيع العلاقات بناء على تقرير المؤرخ، بنجامين ستورا، لكن هذه الإجراءات أثارت ردود فعل باردة من الجزائر، التي تطالب باعتذار رسمي، وتسليم الأرشيف، واستعادة جماجم قادة الثورة، وتعويض ضحايا التجارب النووية.

في وقت كانت فيه العلاقات بين الجزائر وباريس تتأرجح بين التوتر والتهدئة، سيتم استدعاء سفير الجزائر في باريس للتشاور على خلفية اتهام فرنسا بتنظيم عملية تهريب سرية وغير قانونية للصحفية، أميرة بوراوي.

وكمؤشر على انعدام الثقة، ترى الجزائر في التصريحات الأخيرة لسفير فرنسا السابق في الجزائر، كزافييه درينكور، ورئيس الوزراء السابق، إدوارد فيليب، اللذين دعيا إلى التنديد بالمعاهدة الفرنسية-الجزائرية لعام 1968 التي تمنح امتيازات خاصة للمهاجرين الجزائريين، رغبة "شبه رسمية" في نسف أي تقارب بين البلدين.

كما أن قضية عزف المقطع الثالث من النشيد الوطني الجزائري المعادي لفرنسا مرة أخرى، والتي جاءت بعد قيام الرئيس، عبد المجيد تبون، بزيارة رسمية إلى موسكو، حدثت في وقت كان من المنتظر أن يزور فيه باريس وتم تأجيلها عدة مرات. كما يتم الحديث مؤخرًا عن مبادرات من أجل تفعيل مشروع قانون تجريم الاستعمار، للرد على المواقف الفرنسية من مقطع النشيد ومن اتفاقية الهجرة.

وما قامت به فرنسا من مبادرات غير كاف في نظر الجزائر. ومع كل أزمة صغيرة أو كبيرة بين البلدين يتجدد طرح إشكاليات الإرث الاستعماري من جديد، وهي قضية أصبحت تنسف أية خطوات نحو التقارب وتهدد مكانة فرنسا ومصالحها مع الجزائر.

ب) نحو مزيد من التعقيد في العلاقات مع المغرب

أصبح من الواضح من وجهة نظر الرباط أن الكفة الفرنسية أصبحت تميل أكثر تجاه الجزائر وذلك في ضوء الخلافات التي أدت إلى شبه قطيعة بين الرباط وباريس، وذلك راجع لعدة تراكمات. وعلى الرغم من حساسية ملفات التأشيرات وبرنامج بيغاسوس التجسسي وإدانة البرلمان الأوروبي، إلا أن الأمر يشير إلى وجود قضايا خلافية أخرى أشد عمقًا خاصة مع وصول الرئيس ماكرون للحكم، من أبرزها:

أولًا: تراجع مكانة فرنسا كالشريك الأهم بالنسبة للمغرب: ومع أنه في السنوات الأولى لحكم ماكرون تطورت العلاقات الاقتصادية والاستثمارات بوتيرة سريعة في مجالات رئيسية مثل الصناعة والنقل والسياحة والخدمات، لكن بعد ذلك انخفضت مكانة فرنسا كأول شريك تجاري واقتصادي إلى المركز الثاني لصالح إسبانيا.

ثانيًا: تزامن وصول الرئيس ماكرون إلى الرئاسة مع عودة المغرب بقوة إلى الساحة الإفريقية؛ حيث ارتقى بسرعة في قائمة الدول الأكثر استثمارًا في القارة الإفريقية بدون تنسيق مع فرنسا، لاسيما في المناطق التي يوجد بها نفوذ فرنسي تقليدي، مثل غرب إفريقيا.

ثالثًا: رصد بعض مؤشرات الامتعاض الفرنسي إزاء توقيع المغرب للاتفاق الثلاثي مع إسرائيل والولايات المتحدة، في أغسطس/آب 2020، وهو امتعاض لا يمكن اعتباره رد فعل تجاه تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل، بل يمكن فهمه في سياق ملفين حساسين يرتبط أولهما بتداعيات اعتراف الولايات المتحدة بشكل صريح بسيادة المغرب على الصحراء على الصعيد الأوروبي؛ إذ كانت الرباط تنتظر من حليفتها التاريخية دعمًا صريحًا يشكِّل دفعة حاسمة في إحداث تحول مشابه في الموقف الأوروبي، لكن باريس لم تقدم أية إشارات إيجابية تتجاوب مع انتظارات المغرب، على غرار إسبانيا وألمانيا، بل على العكس فقد توالت الإشارات الفرنسية السلبية في هذا الخصوص، ومنها تخصيص البرلمان الفرنسي جلسة مناقشة موضوع "الصحراء الغربية"، بحضور ممثلين عن جبهة البوليساريو.

ثانيهما: اتجاه المغرب نحو بناء تحالف أمني وإستراتيجي جديد مع إسرائيل، بالإضافة إلى تعميق الشراكة مع الولايات المتحدة بعيدًا عن فرنسا، عبر اتفاقيات إستراتيجية ومناورات عسكرية مشتركة واقتناء أسلحة إستراتيجية، وصولًا إلى تطوير الصناعات العسكرية.

رابعًا: في مقابل البرود الفرنسي تجاه المغرب، من الواضح أن ماكرون كان عازمًا على إعادة بناء وتطوير علاقته مع الجزائر في شتى المجالات، فخلال زيارته للجزائر التقى إيمانويل ماكرون بعبد المجيد تبون وبرؤساء أركان القوات المسلحة والمخابرات، وهي سابقة منذ استقلال الجزائر، وقد ركز الاجتماع على برنامج دفاعي وأمن مشترك. بالإضافة إلى ذلك، قررت الدولتان إنشاء "مجلس أعلى للتعاون" على مستوى رئاسات الجمهورية. وتعتبر الرباط هذا الاتفاق بمنزلة ميثاق أمني للعمل المشترك على المستوى الإقليمي، وخاصة في منطقة الساحل، تنضاف إلى زيارة رئيس أركان الجيش الجزائري إلى باريس، في يناير/كانون الثاني 2023. بالتالي من الواضح أن الأمر لم يعد يقتصر على أن فرنسا لا تسير على خطى الولايات المتحدة في الاعتراف بمغربية الصحراء، ولكنها تختار التعاون بنشاط مع الجزائر، التي قطعت علاقاتها مع المغرب وتعارض بشدة الرباط بشأن قضية الصحراء.

وربما أصبح يتأكد لدى صنَّاع القرار بالمغرب انحياز فرنسا الواضح للجزائر وحرصها على استمرار نزاع الصحراء في حين توحي للمغرب بخلاف ذلك، على اعتبار أنها أكبر مستفيد من الوضع على الصعيدين، الجيوسياسي والاقتصادي.

وفي الوقت الذي كانت تسير فيه علاقات باريس بالجزائر باتجاه التحسن وأنه لا شيء يوحي بعكس ذلك باستثناء تأجيل زيارة الرئيس الجزائري لباريس، تبدو العلاقة مع الرباط مركبة وتسير نحو مزيد من التعقيد، والدليل على ذلك تجاهل المغرب حتى الآن المساعدة التي عرضتها فرنسا بشأن الزلزال الذي ضرب عدة مناطق بالمغرب، في الثامن من سبتمبر/أيلول 2023، في وقت وافقت على مساعدات من أربع دول وصفتها بالصديقة، وهي: إسبانيا والمملكة المتحدة إضافة إلى قطر والإمارات، التي تربطها علاقات دبلوماسية متميزة مع الرباط، بالرغم من الزيارة الخاصة التي قام بها العاهل المغربي في الأيام الأخيرة لفرنسا وتواصله المحتمل عبر الهاتف مع الرئيس ماكرون. وهو ما يشير إلى أن السياسة الفرنسية ما زالت تواجه اختبارًا حقيقيًّا في علاقاتها بدول المنطقة.

لكن من الواضح أنه بالنسبة لماكرون ووزيرة خارجيته، لا يبدو أن الخلافات بين باريس والعواصم المغاربية قد وصلت إلى مستويات اليقظة التي تتطلب استجوابًا عميقًا للخيارات الفرنسية في المنطقة. بالتالي، فهذا التجاهل أصبح يسهم بدوره في تعميق أزمات فرنسا مع الدول المغاربية.

ثانيًا: غياب سياسة واضحة وشاملة

خلافًا للاعتقاد السائد، يتضح أن فرنسا لم يكن لديها سياسة شاملة وموحدة تجاه الدول المغاربية تؤخذ في الاعتبار في بعدها الإقليمي. وبدلًا من ذلك، مارست سياسات ثنائية مع كل دولة دون اهتمام كبير بالروابط التي أقيمت مع تلك المنطقة منذ استقلالها؛ حيث لا يوجد في الوزارات ولا في الرئاسة هيكل واحد مخصص للمنطقة التي يطلق عليها المغرب الكبير.

بل إن تلك المصلحة تندرج في المجال الذي تغطيه مديرية شمال إفريقيا والشرق الأوسط التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، والتي تبدأ في الغرب بالمغرب (وليس موريتانيا الملحقة بمديرية إفريقيا) وتصل إلى إيران ودول الخليج ومصر. في هذا السياق فهي تدخل ضمن "السياسة العربية لفرنسا"، التي تشير إلى السياسة التي وضعها الجنرال ديغول بعد حرب الجزائر.

هذه السياسة أصبح من الصعب في الوقت الراهن تحديد توجهاتها وحتى فهم مغزاها لما تحتويه من تعقيدات ومفارقات وعدم فهم كبير.

وبشكل عام، من الواضح أن المنطقة المغاربية لا تحظى بالمكانة الصحيحة التي تستحقها في سياسة الرئيس ماكرون التي لا تزال تتخبط من أجل تحديد أهدافها ورسم سياسة معقولة ومتماسكة تجاه دول المنطقة، فهذه العلاقات إن لم تكن معقدة (بالنسبة للجزائر)، فإنها غير مقروءة بشكل صحيح وصريح (بالنسبة للمغرب)، أو يميزها العديد من التناقضات والمفارقات (بالنسبة لتونس وليبيا). في حين أن أسلافه ربما نظروا إلى روابط فرنسا مع المنطقة على أنها علاقة شاملة، فقد عمل الرئيس الحالي على تطوير علاقات شخصية وذاتية أدت به في النهاية لتكوين علاقات يطبعها عدم فهم كبير وتتخللها أزمات مركبة وإشكالية.

ثالثًا: تحديات جديدة

 من المتوقع أن تكون الفترة المقبلة أشد خطورة بالنسبة للدولة الفرنسية وللرئيس الفرنسي في علاقاته مع دول المنطقة المغاربية؛ حيث سيتعين عليه مواجهة مجموعة من التحديات غير المألوفة التي ستشكِّل مطبات صعبة بالنسبة للسياسة الفرنسية من ضمنها:

1. بلورة سياسة جديدة: لم يعد مفهوم "السياسة العربية" واقعيًّا أو ذا معنى بالنسبة للمنطقة المغاربية، على اعتبار أن العالم العربي ينقسم إلى عدة مجموعات جيوسياسية فرعية، بالتالي فإن ادعاء "سياسة عربية" واحدة لم يكن ولم يعد ذا صلة أو ملامسة للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي لمنطقة ذات خصائص مميزة ثقافيًّا وإثنيًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، وتعتبر امتدادًا طبيعيًّا لفرنسا من نواحٍ عديدة، لكن إلى أي حدٍّ ستتمكن فرنسا من بلورة سياسة مغاربية واحدة، وشاملة بما فيه الكفاية للتعامل مع التحولات التي تعرفها المنطقة؟

2. مواجهة تطلعات مغاربية جديدة: لا يبدو أن ما تنتظره الدول المغاربية من المستعمر السابق أصبح يتوقف عند ملفات بعينها، رغم وجود بعض الملفات التي تحظى بالأولوية لدى كل دولة، بقدر ما يتعلق الأمر بتصورات جديدة لحاضر ومستقبل تلك العلاقات والمكانة التي يمكن لفرنسا أن تحتلها ضمنها.

لقد أصبح من الواضح أن فرنسا باتت تصطدم في الواقع بتطلعات جديدة للبلدان المغاربية، وخاصة من الجزائر والمغرب، والتي تجاوزت السياسة التقليدية التي اعتادت فرنسا على إدارة سياستها بها. وهو ما أصبح يفرض عليها تقديم بعض التنازلات إن هي أرادت الاستمرار والحفاظ على بعض مصالحها في المنطقة.

بالتالي، فإن أية سياسة فرنسية مستقبلية يجب أن تحاول التوفيق بشكل دقيق بين محاولة التمسك بالوضع التفضيلي الذي تتمتع به في الجزائر والمغرب وتونس استنادًا إلى النخب التقليدية والمصالح المرتبطة تاريخيًّا بفرنسا، ومواجهة التحديات التي تفرضها توجهات النخب الجديدة التي تميل إلى تغيير نسق العلاقات مع المستعمر السابق نحو الاستقلال التام والشامل تجاهه.

فعلى مدى العقدين الأخيرين، يمكن ملاحظة تحولات في مواقف العديد من النخب المغاربية، التي باتت تفكر خارج المربع التقليدي الذي يضع بلدانها كمنطقة نفوذ تقليدية لفرنسا، وتتشكل سواء من نخب ذات المرجعية العربية الإسلامية أو الوطنية المحلية أو حتى الأنجلوسكسونية.

من هذا المنطلق تمر فرنسا بتحد صعب؛ لاسيما منذ اندلاع "الربيع العربي"، فالمنطقة التي ألِفها العديد من صنَّاع القرار الفرنسيين، لم تعد موجودة، ولم يتلاش محاوروها المألوفون فحسب، بل أضحت المجتمعات نفسها في تطور كامل، فقد دخلت المنطقة على إثر ذلك حقبة "ما بعد الاستعمار "post-Postcoloniale

3. تراجع الفرنكفونية: دعا الرئيس ماكرون إلى إعادة احتلال فرنسا لتأثيرها اللغوي المفقود، بسبب تراجعها الكبير في المنطقة المغاربية وبالنظر إلى مدى تأثر الفرنسيين بالقضايا المتعلقة بمكانتهم الثقافية، فقد أصبحت الأزمات أو النزاعات حول المصالح تترجم من طرف المسؤولين إلى قرارات استبدال أو تخفيض مرتبة اللغة الفرنسية في التدريس أو الحياة العامة وتعزز مكانة اللغة العربية والأمازيغية والإنكليزية.

وإذا كان تراجع اللغة الفرنسية في كثير من الأحيان بسبب التوترات بين باريس والعواصم المغاربية، فإن التوجه نحو لغات أخرى وطنية وأجنبية ليس مدفوعًا بالرغبة في تصفية الحسابات فقط، ولكن يفسره السعي الذي يذكِّر إلى حد ما برؤية جيل قادة الاستقلال للفرنسية أداةً للتحديث والانفتاح على العالم والتي لم تعد كذلك بالنسبة للجيل الحالي.

4. خسارة السوق المغاربي تدريجيًّا: بينما كانت فرنسا تنظر لأزماتها مع الدول المغاربية بنوع من التجاهل، فقد بدأت تخسر تدريجيًّا حصتها في السوق المغاربية لصالح منافسين جدد كانوا يتحينون اللحظة المناسبة للنزول بثقلهم.

فلم تعد باريس الشريك الرئيسي لأي بلد في المنطقة المغاربية، وهي سابقة توضح مدى تراجع نفوذ فرنسا اقتصاديًّا في المنطقة. لقد فقدت فرنسا مكانتها كأكبر شريك تجاري للجزائر منذ عدة سنوات، بسبب قرار الجزائر تنويع شركائها والتركيز على دول مثل تركيا والصين. كما خسرت المركز الأول لصالح إسبانيا في حالة المغرب، وأصبحت إيطاليا الشريك التجاري الأول لتونس بدل فرنسا. كما أن موريتانيا منذ سنوات فضَّلت إسبانيا شريكًا تجاريًّا أوروبيًّا بينما لم تكن فرنسا أبدًا الشريك الرئيسي لليبيا.

فبعد أن كانت الشريك التجاري الرئيسي لهذه البلدان منذ استقلالها، بدأت تفقد هذه المكانة تدريجيًّا؛ حيث يبدو أن الشراكة الاقتصادية القديمة بين باريس والرباط قد وصلت إلى نهايتها، فقد أصبحت إسبانيا الشريك التجاري الرئيسي، بينما حلَّت الولايات المتحدة محل المستثمر الأجنبي الأول في المملكة لأول مرة.

إذا كان من الواضح أن فرنسا تتراجع في السوق المغربية، فإنها لم تنجح في تحقيق اختراق حقيقي في السوق الجزائرية؛ حيث يعهد بجميع الصفقات المتعلقة باستثمارات البناء أو البنية التحتية والنقل إلى شركات تركية أو صينية، بينما على جانب الطاقة تعد إيطاليا شريك الجزائر الأوروبي الرئيسي من خلال شركة إيني. وبالتالي، يبدو أن التوازن التقليدي الذي كانت تلعبه فرنسا بين الجزائر والمغرب وتونس أصبح الآن يهدد مصالحها الاقتصادية في المنطقة.

5. الصمود أمام تزايد الاستقطاب والمنافسة الدولية: في سعيها الوثيق للحفاظ على موقعها في المنطقة أو على الأقل تقليل خسائرها الإستراتيجية، تبدو فرنسا تحت ضغط أكبر، خاصة إذا ذهبت بمفردها في غياب أي تنسيق أو تشاور مع الشركاء وفي ظل المنافسة الشرسة من قوى أوروبية كإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وقوى جديدة في المنطقة؛ حيث إن النفوذ المتزايد لروسيا والصين وتركيا لهو نتيجة مباشرة لاندحار إستراتيجي لفرنسا.

وفي الوقت نفسه، تساهم المشاعر المعادية للفرنسيين وسياسة الاستثمار الضخمة التي تنتهجها الصين والقوة الذكية التركية، في فقدان النفوذ الفرنسي في قارة اعتُبرت لفترة طويلة حكرًا على باريس.

من ناحية ثانية، فحقيقة أن المغرب والجزائر يضعان نفسيهما بشكل متزايد كلاعبين رئيسيين في القارة الإفريقية، تعطي الانطباع بعدم انسجام فرنسا التام مع الديناميات الناشئة في المنطقة؛ حيث إنها أصبحت تواجه نوعًا من المنافسة مع قوى محلية، مع المغرب من ناحية، كمركز اقتصادي لإفريقيا وشريك إستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يعني أن فرنسا أصبحت شريكًا ثانويًّا للمغرب لاسيما في المجالين السياسي والعسكري.

ومن جهة أخرى، فإن الجزائر تواصل منع الطائرات الفرنسية العسكرية من التحليق فوق مجالها الجوي، في وقت تعزز علاقاتها مع موسكو عسكريًّا وإستراتيجيًّا واقتصاديًّا وتطمح للانضمام لمجموعة البريكس.

إن فرنسا كقوة دولية لها دورها المحوري والمؤسس في الاتحاد الأوروبي، وكعضو دائم في مجلس الأمن، وكقوة نووية، لم يعد باستطاعتها أن تكون بمفردها لاعبًا كبيرًا في إفريقيا في ظل توالي الانقلابات العسكرية التي وضعت مصالحها ونفوذها على المحك، دون التنسيق مع القوى المحلية لاسيما منها القوى المغاربية أو الانطلاق من أرضية أوروبية مشتركة، كما أن التخلي عن المنطقة لصالح القوى المتنافسة سيكون خطأ إستراتيجيًّا.

6. مواجهة تحديات أمنية في منطقة رخوة: نظرًا لاستمرار التصعيد بين الجزائر والمغرب، بالإضافة إلى ليبيا، التي تعيش حالة اضطراب وعدم استقرار منذ عقد، وتونس التي تغرق في أزمة سياسية واقتصادية؛ باعتبارها معبرًا نحو إفريقيا وبالنظر لقربها من دول الساحل والصحراء التي أصبحت منطقة غير مستقرة أمنيًّا لاسيما بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته النيجر؛ باعتبارها من أخطر البؤر التي تحتضن الجماعات الإرهابية، يرجح أن تكون هذه المنطقة مجالًا مفتوحًا للمزيد من التهديدات والاستقطاب والمزيد من صراع النفوذ، على اعتبار أن أي تهديد للأمن في الجنوب ستكون له تداعيات مباشرة في الشمال.

إن التحدي الأمني سيعتمد في المستقبل على قدرة فرنسا على تجديد نهجها ورؤيتها وتوقعها للتطورات الإقليمية التي أصبحت تفلت منها بعمق شيئًا فشيئًا، بعد أن كانت في السابق مألوفة لديها.

7. إدارة لعبة التوازن بين المغرب والجزائر: يبدو أن باريس فشلت في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في وقت يشهد فيه العالم تحولات جيوسياسية أعادت تشكيل التوازنات في المنطقة. فلم تتمكن باريس من التعامل مع تداعيات اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء، ولم يتضح بعد ما إذا كانت باريس ستكون جزءًا من الحل أم ستسهم في تعقيد مشكلة ابتليت بها المنطقة منذ ما يقرب من خمسة عقود.

ومن المتوقع، والحالة هذه، أن تكون الأشهر المتبقية من عام 2023 صعبة بالنسبة لإيمانويل ماكرون؛ حيث سيتعين عليه إظهار توازن دقيق بين الدولتين، وكيف يمكنه إرضاء إحداهما دون تنفير الأخرى. لقد كان هذا التحدي أقل حدة في عهد الرئيسين، فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي. ففي عهديهما، لم يصل التوتر بين الدولتين إلى هذه المرحلة الحرجة؛ حيث قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط في صيف 2021، ولم يسبق لباريس أن واجهت تناقضات بهذه الحدة في علاقتها مع البلدين.

وعلى الرغم من انحيازها التقليدي نسبيًّا إلى الطرح المغربي حول قضية الصحراء، دفعت أزمة الطاقة العالمية من بين عوامل أخرى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى اختيار تفضيل تعزيز العلاقات مع الجزائر، تزامنًا مع سعى الرباط إلى حل هذا الملف بشكل نهائي، مدفوعة بدينامية المواقف المؤيدة للخطة المغربية لحل النزاع. وكما فعلت مع دول أوروبية أخرى (إسبانيا وألمانيا وغيرها)، تضغط الدبلوماسية المغربية على باريس "للخروج من المنطقة الرمادية"، وتقديم الدعم بوضوح للمغرب.

المعضلة هي أن أي تحول فرنسي في هذا الاتجاه سيكون له تأثير عكسي يتمثل في إغضاب الجزائر، التي تشهد علاقتها مع باريس فترات من الصعود والهبوط؛ حيث بات من الواضح أن الرئيس الفرنسي، أصبح منخرطًا بشكل كامل في سياسة المصالحة مع الجزائر، والتي لا تزال نتائجها غير مؤكدة؛ حيث بات من شبه المؤكد أنه لا يمكنه التراجع إلى الوراء أي المراهنة على المغرب بدل الجزائر، إلا في حالة ما إذا أقر بفشل سياسته الجزائرية.

في الماضي، ربما كان وقتها بإمكان رئيس الدولة الفرنسي الحفاظ على شكل من التوازن بين الرباط والجزائر في الوقت نفسه، لكن على الرغم من بعض مؤشرات التهدئة من الجانبين، الجزائري والمغربي، لاسيما في وقت الكوارث الطبيعية كحرائق الغابات والزلزال، فالتوتر يتزايد بينهما بشأن قضية الصحراء والتطبيع مع إسرائيل وأمور أخرى؛ حيث ما زال احتمال نشوب صراعات جديدة بينهما في أية لحظة محتملًا. بالتالي فالوضع بالنسبة للرئيس الفرنسي أشبه بالمشي على قشر البيض. لكن إلى متى سيواصل الرئيس ماكرون لعب دور الموازن، وهو يعلم أنه يجب عليه استعادة العلاقات مع المغرب والجزائر في الوقت نفسه أو المخاطرة بفقدان إحداهما أو كلتيهما وفقدان مكانته بشكل دائم في منطقة كانت تعتبر إلى وقت قريب مجالًا حيويًّا لفرنسا؟

لقد أصبح من اللازم على الرئيس الفرنسي التوقف عن تحديد العلاقات بين المغرب وفرنسا في ضوء العلاقات مع الجزائر أو العكس، والعمل على بلورة سياسة شاملة واضحة ومتماسكة تجاه المنطقة وإيجاد نقط توازن جديدة، لكن هذا التمرين أيضًا يبقى محفوفًا بالعديد من المخاطر.

خاتمة

بدأ عام 2023 بشكل سيء بالنسبة لفرنسا في علاقاتها بالدول المغاربية، فقد أضحت تخسر المنطقة جيوسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وأمنيًّا، وهي المنطقة التي طالما اعتبرتها مجالًا حيويًّا لمجرد أنها كانت من بين مستعمراتها السابقة. ومن الواضح أن الجزائر والمغرب دولتان قد بلغتا مستويات من الاستقلالية التي لا يمكن تجاهلها، لدرجة أنهما أصبحتا لاعبين محوريين في المنطقة وتمكنتا من إقامة علاقات إستراتيجية قوية ومتنوعة مع شركاء جدد بعيدًا عن التأثير الضعيف المتزايد لباريس.

رغم ذلك، ما زال الرئيس الفرنسي يراهن على عودة العلاقات الفرنسية-المغربية لنسقها المعتاد، وتحقيق المصالحة مع الجزائر، وهذه الرهانات إن لم تكن متناقضة فقد أصبحت شبه مستحيلة في الظرفية الحالية؛ ذلك أن الأزمات السياسية التي تعرفها العلاقات الثنائية بشكل متكرر، أصبحت تشير بوضوح إلى فقدان فرنسا بشكل تدريجي لمكانتها السابقة، لاسيما أمام التحديات الجديدة التي طفت على سطح علاقاتها بعد سنوات من التجاهل وعدم استيعاب التحولات التي شهدتها دول المنطقة في علاقاتها مع المستعمر القديم.

إن تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا وفي المنطقة المغاربية، التي تعتبر تاريخيًّا حصنًا قويًّا لمصالح باريس الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية، أصبح اختبارًا حقيقيًّا لسياسة باريس الخارجية واختبارًا لنفوذها الدولي وعلامة بارزة على تراجع مكانة فرنسا في العالم.