في خطوة أُعلِن عنها مسبقاً، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون يوم الثلاثاء الموافق الثاني عشر من سبتمبر في “مركز فوستوتشتي الفضائي” بالقرب من العاصمة الروسية موسكو. وقد قَدِم الرئيس الكوري الشمالي إلى روسيا عبر قطاره المدرع في رحلة طويلة استغرقت ما يزيد عن 20 ساعة، لينهي بذلك عزلته الاختيارية التي استمرت ثلاث سنوات؛ لتجنب الإصابة بفيروس كورونا. وقد قضى “كيم جونج أون” قرابة أسبوع داخل روسيا؛ حيث زار عدداً من المراكز والمواقع العسكرية الروسية، كما عقد لقاءات موسعة مع كبار القادة العسكريين الروس، وأنهى زيارته بتأكيد دعم بلاده الكامل لروسيا في حربها بأوكرانيا، وتطلعه إلى مزيد من التعاون مع موسكو على شتى الأصعدة. وقد أثارت هذه الزيارة العديد من التساؤلات حول الأهداف الكامنة وراءها وتوقيتها، والنتائج التي قد تترتب عليها.
مكاسب عينية
يُعتقَد أن الهدف الرئيسي من زيارة رئيس كوريا الشمالية إلى موسكو هو العمل على تطوير قدرات بيونج يانج العسكرية، خاصةً في مجال الصواريخ والطيران، بجانب الاستفادة من خبرات روسيا الواسعة في الفضاء؛ لتطوير برنامج كوري شمالي متكامل، والتغلب على التحديات الكبرى التي واجهت بيونج يانج في هذا الميدان؛ حيث فشلت البلاد في إطلاق أقمار صناعية خلال مناسبتين مختلفتين من هذا العام؛ هذا بجانب تزويد موسكو كوريا الشمالية بالمزيد من المعادن الأرضية والمواد الغذائية. وبوجه عام، يمكن القول إن الزيارة تُحقِّق عدداً من المكاسب لكوريا الشمالية؛ وذلك على النحو الآتي:
1- تحدي “أون” العزلة الدولية: تحمل زيارة زعيم كوريا الشمالية إلى روسيا رسالة مفادها أن بيونج يانج لا تزال لديها مساحة للمناورة والتحرك على الساحة الدولية بعيداً عن الضغوط والعزلة التي يفرضها عليها خصومها بقيادة واشنطن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرب الأوكرانية وفَّرت لكوريا الشمالية فرصة سانحة لتعزيز تحركاتها على الساحة الدولية، ودعم تحالفاتها الخارجية؛ إذ عملت الحرب على تعميق العلاقات بين موسكو وبيونج يانج؛ حيث من المرجح أن تؤدي حاجة موسكو المتزايدة إلى الأسلحة من بيونج يانج إلى إحداث مواءمة أكبر للمصالح الدبلوماسية والعسكرية بينهما.
وبفضل التقارب الاستراتيجي بين الجانبين، تطمئن كوريا الشمالية من وجود روسيا عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ من أجل حمايتها من أي إدانات أو قرارات تُفرَض عليها، بالإضافة إلى الاستفادة من التحويلات النقدية القادمة من روسيا، كما سعت بيونج يانج إلى توطيد العلاقات مع موسكو من خلال تصويتها ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب بانسحاب روسيا من أوكرانيا، وضد أي إجراءات أخرى ذات صلة. وأعربت بيونج يانج، مراراً وتكراراً، عن دعمها الإجراءات الروسية، وألقت باللوم في الأزمة الأوكرانية على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وكييف؛ فالتحالف الروسي مع كوريا الشمالية ليس فقط عسكرياً بارداً، بل تجمعهما القيم نفسها التي تسعى إلى الصدام مع الغرب باعتباره مصدر كل أزماتهما.
وهكذا يبدو أن الرئيس الكوري الشمالي قد يسعى، عبر هذه الزيارة، إلى تأكيد وجود عدد من الحلفاء القادرين على دعمه، وعدم اعتماده كلياً على الصين. فمن المثير للاهتمام أن يقع اختيار “كيم” على موسكو بدلاً من العاصمة بكين في أول زيارة خارجية يجريها منذ عام 2019؛ فعلى الرغم من تمتعه بعلاقات وثيقة مع بكين، فإن الاعتماد كلياً عليها، يدفعه إلى تقديم العديد من التنازلات للصين، ويبقيه بدون خيارات أخرى بديلة.
2- الحصول على الدعم الروسي في تطوير البرنامج الفضائي: بحسب تقرير لمجلة “فورين بولسي” أعدته تعليقاً على الزيارة الفريدة من نوعها، فإن اختيار الرئيس الروسي “بوتين” لاستقبال نظيره الكوري الشمالي في “مركز فوستوتشتي الفضائي” الذي افتتحته موسكو مؤخراً، لتقليل اعتمادها على “مركز بايكونور الكازاخستاني الفضائي”، ما هو إلا محاولة للرئيس “بوتين” لإظهار قدرات موسكو المتقدمة في الميدان الفضائي، وتأكيد قدرة بلاده على تقديم يد العون لبيونج يانج في سعيها الدؤوب لامتلاك برنامج فضائي متطور.
وما أكد هذا الأمر، إظهار الصور الرسمية للزيارة، اصطحاب الرئيس الكوري الشمالي كلاً من “باك تاي سونج” رئيس لجنة علوم وتكنولوجيا الفضاء في كوريا الشمالية، والأدميرال في البحرية الكورية الشمالية “كيم ميونج سيك” القائمَين على إدارة جهود كوريا الشمالية للحصول على أقمار تجسس وغواصات صواريخ باليستية ذات قدرات نووية، وفقاً لوسائل الإعلام الكورية الجنوبية.
3- الاطلاع على أحدث التقنيات العسكرية الروسية: تطوير سلاح الطيران كان أيضاً على قائمة اهتمام الرئيس الكوري الشمالي في زيارته الأخيرة إلى روسيا؛ فعقب لقائه الرئيس الروسي، توجه “كيم جونج أون” إلى مدينة كومسومولسك–نا–أموري، التي تحتضن واحداً من أهم مصانع الطائرات الروسية المقاتلة من طراز “Su–35” و”Su–57″، لتفقُّد أبرز هذه الطائرات.
وعلى الرغم من عدم ترجيح إقدام روسيا على تزويد كوريا بمثل هذه الأنظمة المتقدمة، التي تتخطى بصورة كبيرة أنظمة الطيران التي يمتلكها الجيش الكوري الشمالي، والتي تعود إلى العصر السوفييتي؛ فإن موسكو يمكن أن تُمِد القوات الكورية الشمالية بقطع غيار ومكونات جديدة تدعم أسطولها الحالي من الطائرات العسكرية السوفييتية؛ ما يُحسِّن بشكل كبير قدراته على الطيران والقتال.
4- تنمية القدرات البحرية النووية الكورية الشمالية: التقى “كيم” أيضاً وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” الذي أطلع الزعيم الكوري الشمالي على أحدث القاذفات الاستراتيجية الروسية ذات القدرة النووية المتقدمة، والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
وأكدت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية الرسمية تبادل الرجلَين الحديث حول عدد من القضايا العملية الناشئة، وكيفية تعزيز التنسيق الاستراتيجي والتكتيكي والتعاون والتبادل المتبادل بين القوات المسلحة للبلدين، كما أكد وزير الدفاع الروسي، لوسائل إعلام روسية، أن موسكو تناقش إمكانية عقد مناورات عسكرية مشتركة مع كوريا الشمالية. وقالت وكالة الأنباء المركزية الكورية إن “كيم” قد تفقَّد أيضاً خلال رحلته إلى روسيا أسطول بحر المحيط الهادئ الروسي المجهز بغواصات نووية استراتيجية، بجانب سفن عسكرية أخرى. ويأتي هذا بالتزامن مع إطلاق كوريا الشمالية أول غواصة هجوم نووي تكتيكي خلال هذا الشهر.
5- تقديم روسيا الدعم للاقتصاد الكوري الشمالي: تعاني كوريا الشمالية من نقص كبير في المعادن والمواد الخام اللازمة للصناعات العسكرية والغذائية، ومن المرجح أن يسعى الرئيس “كيم جونج أون” من خلال هذه الزيارة للتوصل إلى اتفاقيات تعاون بين موسكو وبيونج يانج في هذا الميدان.
وتعتمد كوريا الشمالية على شبكات الجريمة المنظمة للحصول على مواد مثل كيفلار وألياف الأراميد من روسيا لاستخدامها في تصنيع صواريخها المتقدمة؛ هذا بجانب الشبكات الأخرى التي تعتمد عليها للحصول على الإمدادات الغذائية، إلا أن هذه الشبكات لا يمكن الاعتماد عليها كلياً لسد احتياجات البلاد التصنيعية العسكرية والغذائية؛ حيث تعاني كوريا الشمالية من نقص شديد في الموارد، وهو ما عطَّل تطوير أنظمتها الصاروخية؛ هذا بجانب معاناة البلاد من المجاعات والأوبئة المصاحبة. ومع خروج الرئيس “بوتين” عن القواعد والأعراف الدولية، التي يرفضها باعتبارها صنيعة أمريكية للهيمنة على النظام الدولي، فإن من الممكن أن تتسارع أشكال التعاون التقني التي لم يكن من الممكن تصوُّرها في السابق بشكل متزايد.
6- تراجع روسيا عن التزامها بالعقوبات الأممية المفروضة على كوريا الشمالية: تخضع كوريا الشمالية لعدد من العقوبات الأممية المفروضة عليها بفعل برنامجها النووي، وقد أظهرت روسيا حتى الآن التزامها شبه الكامل بتطبيق هذه العقوبات، مع منع مشاركة أي منظومات عسكرية مع بيونج يانج. وعلى ما يبدو، فإن روسيا في طريقها إلى التخلي عن هذه السياسة في ظل سعيها لتقوية روابطها مع كوريا الشمالية، والتمرد على سياسة العقوبات الغربية، التي تخضع لها هي أيضاً في الوقت الحالي. وقد أكد وزير الخارجية الروسي “لافروف”، خلال سؤاله عن مدى التزام روسيا بهذه العقوبات، بأن موسكو لم تقدم على فرض هذه العقوبات، بل الأمم المتحدة هي من قامت بذلك، وأن روسيا لن تدع هذا الأمر يقف عقبةً بينها وبين تطوير علاقتها ببيونج يانج، وهو ما يُرجِّح تخلى روسيا عن التزامها بهذه العقوبات مستقبلاً.
7- تصدير المزيد من الضغوط لخصوم كوريا الشمالية: يمكن القول إن زيارة رئيس كوريا الشمالية إلى روسيا تعطي بيونج يانج ورقة جديدة لتصدير المزيد من الضغوط لخصومها الإقليميين، وخاصةً كوريا الجنوبية واليابان، ولعل هذا ما يفسر التصريحات التي أدلى بها رئيس كوريا الجنوبية “يون سيوك–يول”، يوم 17 سبتمبر الجاري، التي ذكر خلالها أن “المجتمع الدولي سيتَّحد بشكل أكثر إحكاماً لمواجهة التعاون العسكري المعمق بين موسكو وبيونج يانج”، وأنه سيسعى إلى عرض هذه القضية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع. وأكد “يون” أن التعاون العسكري بين كوريا الشمالية وروسيا، غير قانوني وغير عادل؛ لأنه يتعارض مع قرارات مجلس الأمن الدولي والعديد من العقوبات الدولية الأخرى.
مصالح روسية
بقدر ما تحمل الزيارة عدداً من المكاسب لكوريا الشمالية، فإنها تستدعي عدداً من المصالح لموسكو، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تحدي معسكر الولايات المتحدة وحلفائها: تحمل زيارة “كيم جونج أون” إلى روسيا عدداً من الرسائل المعنوية المرتبطة بالحرب النفسية القائمة في الوقت الحالي بين واشنطن وموسكو؛ حيث تسعى روسيا من خلال هذه الزيارة إلى تأكيد تحديها المستمر للسلطة الأمريكية، واستمرار قدرتها على تقديم الدعم لدولة مثل كوريا الشمالية، وقائدها الملاحَق دولياً عبر أراضيها، على الرغم من احتدام المعارك القائمة بين الجيش الروسي ونظيره الأوكراني، ونقل كييف مؤخراً ضرباتها العسكرية إلى الداخل الروسي. وتؤكد هذه الزيارة أيضاً تعاظم التنسيق والتحالف بين الجبهة الشرقية التي تقودها كل من روسيا والصين بجانب كوريا الشمالية في مجابهة الجبهة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.
2- الدعم اللوجستي للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا: اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من حلفائها، كوريا الشمالية بتزويد روسيا بعدد من الأسلحة والمعدات العسكرية التي تستخدمها في عمليتها العسكرية القائمة حالياً في أوكرانيا. وعلى الرغم من عدم وجود دلائل واضحة وفعلية على هذه الاتهامات، فإن من المرجح أن تلعب هذه الزيارة دوراً في زيادة عملية التبادل العسكري بين الطرفين.
ويرجح العديد من الخبراء أن مكاسب موسكو من استقبال الرئيس الكوري الشمالي في هذا التوقيت، تتمحور حول عملها على إقناع بيونج يانج بتزويد روسيا بعدد من القذائف المدفعية وذخائر المدفعية الصاروخية المتوافقة مع قاذفات الحقبة السوفييتية التي تستخدمها القوات المسلحة الروسية. وقد أشارت مصادر استخباراتية أمريكية في الشهور الماضية إلى أن موسكو قد استقبلت عدداً من هذه القذائف وذخائر المدفعية بالفعل، إلا أن “فورين بوليسي” ترجح استمرار قيام المحادثات الدبلوماسية بين الطرفين حول هذه العملية، وعمل الزيارة على تسهيل وتسريع المحادثات في هذا الشأن.
3- فتح محادثات حول الصواريخ الكورية الشمالية الباليستية: قد تُبدي موسكو أيضاً اهتماماً بالحصول على عدد من الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية التي عمدت بيونج يانج على تطويرها خلال الفترة الماضية. وعلى الرغم من ترجيح الخبراء والمحللين السياسيين تفضيل بيونج يانج عدم التفريط في مخزونها من هذه الصواريخ الاستراتيجية الهامة، فإن روسيا قد تدفع إلى طرح هذه الملف باعتباره من أهم المقايضات التي قد تتحصل عليها، مقابل تزويد كوريا الشمالية بالمزيد من الأغذية والمعادن وتقنيات التصنيع الحديثة لتطوير برنامجها الفضائي.
4- تأكيد روسيا حضورها في منطقة الهندوباسيفيك: يسعى الرئيس الروسي – من خلال مشاركة بلاده في المناورات العسكرية المشتركة مع الصين، بجانب استقبال رئيس كوريا الشمالية؛ الدولة التي تمثل تهديداً كبيراً ببرنامجها النووي والصاروخي لكوريا الجنوبية واليابان – إلى التلميح بأن بلاده قادرة على التأثير في التفاعلات القائمة بمنطقة ما وراء المحيطين الهادئ والهندي، خاصةً منطقة جنوب شرق آسيا. وتمثل هذه المنطقة أهمية خاصة للولايات المتحدة وحلفائها، على غرار الأهمية التي تمثلها شرق أوروبا لروسيا. ومن ثم، فإن موسكو تؤكد أنه مع استمرار الولايات المتحدة في التأثير على التفاعلات في شرق أوروبا، وتقديم الدعم العسكري والدبلوماسي لأوكرانيا، واستقبالها الرئيس” زيلينسكي”، فإنها قادرة على القيام بالأمر ذاته مع كوريا الشمالية.
5- الترويج لإخفاق إدارة “بايدن” في سياستها تجاه بيونج يانج: خلافاً لإدارة “ترامب” التي حرصت على فتح خطوط للتواصل مع الجانب الكوري الشمالي، تبنى “بايدن” سياسة تقوم على تجاهل المسألة الكورية الشمالية، وعدم اتخاذ أي خطوات إيجابية في اتجاهها، على الرغم من تعاظم اهتمام إدارة “بايدن” العام بدول جنوب شرق آسيا.
وفي مقابل هذا التجاهل، ضاعفت كوريا الشمالية تحركاتها العدائية تجاه دول المنطقة؛ هذا بجانب تسريعها عملية تطوير برنامجها النووي، وتعظيم تعاونها وتحالفها الاستراتيجي مع الصين وروسيا، سعياً إلى التعافي من الآثار السلبية لمنظومة العقوبات الغربية على قطاعها الاقتصادي. وتؤكد جميع هذه التطورات فشل إدارة “بايدن” في التعاطي مع الخطر والتهديد النووي الكوري الشمالي. وبالرغم من ذلك فإن الفرصة ما زالت متاحة لاستئناف واشنطن محادثاتها مع بيونج يانج، وإمكانية إقناع الأخيرة بتقديم بعض التنازلات المرتبطة ببرنامجها النووي، في مقابل تخفيض حجم العقوبات المفروضة على الاقتصاد الكوري الشمالي.
أخيراً، تؤكد هذه الزيارة استعداد روسيا لاستخدام جميع الأوراق التي تمتلكها من أجل الضغط على الولايات المتحدة وجميع حلفائها بمختلف المناطق؛ لضمان عدم هزيمتها في حربها بأوكرانيا. في الوقت ذاته، تشير هذه التطورات إلى أن كوريا الشمالية ليست بالدولة التي يمكن للولايات المتحدة تجاهلها في ظل انشغالها بالعمل على عدد من الملفات الخارجية الأخرى؛ لأن التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية، ومعهما الصين، سيعني أن ثمة تحالفاً جديداً يربط بين آسيا وأوروبا الشرقية، وهو تحالف بالطبع سيؤدي إلى تفاقم التحديات الأمنية أمام الدول الغربية بقيادة واشنطن.