وصلت السعودية إلى قناعة تامة بأن ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح والعتاد لن يتحقق عن طريق المماطلة والتهرب عن تحمل تبعات حربها العبثية في اليمن، كما أنها باتت مدركة بأن الوعود الأمريكية لن تحميها من وطأة الصواريخ والمسيرات اليمنية في حال نشبت الحرب بينهما من جديد، فهي وحدها من ستكتوي بنيران اليمن دون أن يتمكن حلفاءها من انقاذها.
كان الجميع يعلم أن السعودية ليست صاحبة القرار في تحديد مسار العدوان على اليمن، فهي مجرد أداة تنفيذية لا غير، ولهذا لم يكن أمر انهاء الحرب بيدها، وإن كانت تتطلع إلى اليوم الذي يتوقف فيه هذا الأمر حتى تنأى بنفسها عن تحمل تبعاته المادية والمعنوية.
وها هي اليوم قد بدأت تدرك حقيقة المستنقع الذي أوقعت نفسها فيه، وتبذل كل ما بوسعها لتصحيح الوضع والتوقف عن العيش في دائرة الترقب للرد اليمني الذي يهدد وجودها ومكانتها في عالم اليوم كقوة اقتصادية.
وعلى الرغم من مرور العديد من جولات المفاوضات إلا إنها كانت تتوقف لأسباب يقف خلفها البيت الأبيض وبريطانيا وبقية الحلف الغربي المتآمر على المنطقة برمتها، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على واقع تلك المفاوضات وإطالة أمدها دون تحقيق أي تقدم يذكر، وهذا ما جعل حكومة صنعاء تتماهى مع الوضع القائم مع رفع سقف مطالبها بشكل تدريجي وفق تخطيط منهجي قوي وثابت، دون التوقف عند عتبات البعد التفاوضي مع السعودية كرأس للعدوان على اليمن، حيث توسعت دائرة العلاقات الدولية للفريق المفاوض والذي تمكن من نقل الملف اليمني من بعده المحلي إلى أبعاد أخرى استوعبت العديد من القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة.
تتابعت المفاوضات واللقاءات دون تحقيق أي نتيجة، ومع ذلك لم تيأس حكومة صنعاء وأنصار الله من تحقيق التقدم المنشود وفق رؤية صنعاء لا كما يراها التحالف السعودي الأمريكي، وهذا ما تحقق في نهاية المطاف، فمع كل تهديد لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أو قيادة حكومة صنعاء السياسية والعسكرية كانت السعودية تبادر بإرسال المندوبين السعوديين دون الاقتصار على ما يقوم به المبعوث الأممي، وهذا ما يفسر تلك الإشارة التي تضمنها تصريح رئيس الوفد اليمني محمد عبد السلام أن هذه الجولة تأتي في إطار النقاشات التي قام بها وفد صنعاء مع الوفد السعودي في لقاءات عديدة في مسقط ولقاءات متكررة في صنعاء، حيث تشير هذه الإفادة إلى أن وفود السعودية قد وصلت إلى صنعاء أكثر من مرة وفي إطار تفاوضي تم دون الإفصاح عنه.
وقد أسهمت العديد من العوامل في تحقيق هذا التحول الكبير في الموقف السعودي وانفتاحها على الملف التفاوضي، منها:
1. ظهور أقطاب دولية جديدة مناهضة للمشروع الأمريكي في المنطقة.
2. حاجة السعودية إلى الانفتاح على المتغيرات الدولية الكبرى وتحديداً الكيانات ذات البعد الاقتصادي.
3. تطور القدرات العسكرية اليمنية بشكل كبير في مختلف المجالات وتماسك المجتمع اليمني والتفافه حول قيادته الثورية والسياسية والعسكرية.
4. التهديدات الأخيرة التي أطلقها قائد الثورة قبل فترة قصيرة، والتي فهمت منها السعودية أن مرحلة ما بعد احتفالية ذكرى المولد النبوي الشريف لن تكون كما قبلها.
5. تصريح القيادة الثورية والسياسية والعسكرية بأن مشاريع السعودية العملاقة ستكون في مرمى الاستهداف اليمني قريباً وهو ما تتخوف منه السعودية بشكل كبير.
وترى صنعاء بأن هذه الجولة الأخيرة من المباحثات لكل من صنعاء والرياض، وأن ما بعد هذه الجولة إما حرب دائمة أو سلام دائم، فالوضع العام للداخل اليمني لم يعد يتحمل المزيد من المماطلة، في ظل وضع إنساني حرج، والشارع اليمني يتطلع ليوم الثأر بشغف وجهوزية عالية.
وعلى الرغم من أن ثقة المجتمع اليمني بالسعودية قد وصلت إلى الحضيض إلا إن هناك العديد من العوامل التي تبعث على التفاؤل والارتياح، والتي من أهمها غياب المشاركة الأممية التي تعتبر أكبر معرقل لمشاورات ومفاوضات تحقيق السلام وإيقاف الحرب في اليمن، وهذا ما يجعل هذه المفاوضات أكثر جدية من سابقاتها.
وعلى الرغم من تلك الجهود العمانية والتوافق اليمني السعودي على تحقيق تفاهم إيجابي ومثمر إلا إن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بكل قوتها لإفشال هذه المفاوضات وعرقلة مسارها، حيث بدأت الإمارات بتنفيذ العديد من الأعمال عبر أجندتها الخاصة لإفشال التقارب اليمني السعودي من جهة، بالتزامن مع تكثيف أمريكا لتواجدها في المنطقة، ونشر التصريحات التحريضية لعرقلة أبرز ملفات التفاوض والمرتبط بالجوانب الإنسانية.
وفي الأخير تبقى العيون مفتوحة على ما ستسفر عنه جولات المباحثات الحالية بين صنعاء والرياض خلال الأيام القادمة لأن ما بعد هذه الجولة لن يكون كما قبلها، خصوصاً وان صنعاء أكدت انها لن تقبل ابداً بتضييع الوقت في المباحثات دون شروع عملي بتنفيذ ما تم الإتفاق عليه خلال جولات المباحثات السابقة.
ومن السابق لأوانه التنبؤ بمستقبل هذه المفاوضات في ظل التراكمات السابقة لمواقف السعودية المتهربة من التفاوض مع أنصار الله بشكل مباشر، ومحاولة اظهار الصراع على أنه صراع يمني يمني، إلا إن العديد من المؤشرات تؤكد أن موقف السعودية اليوم لا يسمح لها بالمناورة أكثر مما قد فعلت في السابق، وأن الموقف اليمني أكبر وأقوى من الموقف السعودي في ظل المتغيرات الدولية وتنامي القدرة العسكرية اليمنية بشكل كبير خلال الفترة الماضية.
قد تتنصل السعودية عن التزاماتها تلبية لمطالب أمريكية وتعرقل مسار المفاوضات، ولكن أنصار الله قد جهزوا أنفسهم للرد العملي على أي مماطلة تظهرها السعودية تحت أي ظرف كان، كما أن تهديدات قائد الثورة قد أثارت الرعب في قلوب النظام السعودي وتحديداً ما يرتبط منها بمشاريع بن سلمان التنموية ورؤيته المستقبلية.
وختاماً فإن الجولة التفاوضية القائمة هي الأكثر تفاعلاً بين أقطاب التفاوض وبشكل يوحي بالجدية أكثر من أي وقت مضى، وتظهر فيها الورقة اليمنية هي الرابحة والقوية مقابل ضعف الموقف السعودي فهو من يحتاج إلى توقف الحرب أكثر من اليمنيين لتحقيق مكاسب أخرى في ميادين دولية أخرى.