• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27

يمر النظام الاقتصادي العالمي بعمليتي تطور وتغير مستمرتين، وهو في ذلك يتشابه مع جميع النُظم السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية وغيرها، التي أنشأها الإنسان ليرتب بها حياته وشؤونه. وإذا كانت هناك تغيرات مرغوبة في أي نظام، فإنه غالباً ما يكون مخططاً لها من قِبل مؤسسيه، وعادةً ما تنقله من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدماً وكفاءةً، لكي يكون مواكباً للمستجدات والمعطيات المستحدثة، وتُبقي على قواعده دون تبديلها كليةً؛ وفي المقابل، ثمة تغيرات لا يكون مرغوباً فيها من جانب المؤسسين، وإن حدثت فإنها تغير وجه النظام المعني، ولا تكاد تترك له أثراً.

وما يمر به النظام الاقتصادي العالمي الآن من تغيرات هو من النوع الأخير، فقواعد هذا النظام التي دُشِنَت في منتصف العقد الخامس من القرن العشرين، وأُدخِلَت عليها تعديلات عدة لتواكب التطورات، باتت الآن – من وجهة نظر الكثيرين- غير مؤهله لتنظيم النشاط الاقتصادي الدولي بعدالة. لذلك، انبرى عدد من الدول منذ سنوات لتدشين نظام جديد، وإنشاء منظمات ومؤسسات اقتصادية ذات طابع دولي، اعتبروها بديلةً للمنظمات والمؤسسات المُمثلة للنظام القائم.

وفي هذا الإطار، ظهرت مجموعة "بريكس" للاقتصادات الصاعدة، وشهدت تنامياً في الدور والأهمية، وصار بإمكانها أن تصبح الكيان الاقتصادي الأهم عالمياً، وهذا ما يمكن أن يكون بمثابة الإعلان عن نهاية النظام الاقتصادي العالمي القائم، وبداية آخر جديد، تحدد ملامحه "بريكس" وتقوده الصين. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك؟ وكيف؟

نظام بريتون وودز:

منذ عام 1945، يعيش العالم تحت نظام اقتصادي دولي تم وضع قواعده في منتجع بريتون وودز بالولايات المتحدة الأمريكية. وبينما لم يكن اختيار مكان المفاوضات، وتوقيع الاتفاقية التي تحمل نفس الاسم، يَخْلُو من الدلالات الجيوسياسية، بشأن الدور القيادي للولايات المتحدة للنظام الاقتصادي العالمي منذ ذلك الحين؛ فإنه انطوى كذلك على وقائع اقتصادية، وضعت واشنطن في موقع الصدارة، فيما يتعلق بآليات إدارة ذلك النظام، عبر سيطرتها شبه الكاملة على المؤسسات الاقتصادية الدولية التي أفرزتها الاتفاقية المذكورة، والتي شملت البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.

فقد احتضنت الولايات المتحدة مقر المؤسستين الأوليين، وتمتعت بحق النقض "الفيتو" على قراراتهما؛ كونها حازت حصة مُسيطرة من الأصوات بمجلسي إدارتيهما، بالاعتماد على حجم اقتصادها الأكبر عالمياً، وحصتها في التمويل، ما منحها الدور الرئيسي في تحديد توجه المؤسستين طوال العقود الماضية، وأعطاها تفوقاً استراتيجياً في إدارة النظام الاقتصادي الدولي ككل. وكان الأمر سيزداد قوة ووضوحاً إذا ما كانت منظمة التجارة العالمية قد تأسست مباشرة بمقتضى اتفاقية بريتون وودز، فحينها كانت ستحتضن الولايات المتحدة مقرها في الغالب، وكان سيكون لها السطوة عليها كشقيقتيها. لكن تعثُّر مفاوضات تحرير التجارة بين الدول، أخَّر خروج المنظمة إلى النور حتى عام 1994، وأعطى الفرصة لحدوث تغيرات وتبدلات بالنظام الاقتصادي الدولي، قلصت تأثير الولايات المتحدة في هذه المنظمة، وإن ظل لها دور مهم في تحديد توجهاتها.

وفي المُجمل، لم يكن بمقدور النظام الاقتصادي العالمي - بالخصائص آنفة الذكر- حيازة رضا جميع دول العالم، بل اتسعت رقعة عدم الرضا حياله، ولاسيما خلال العقود الأخيرة، وبالتحديد من طرف الاقتصادات الصاعدة، التي بدت أكثر طموحاً ورغبةً في حيازة المزيد من القدرة والتأثير في آليات اتخاذ القرار الاقتصادي الدولي. وبينما كان ذلك هو السبب الرئيسي في عرقلة مفاوضات تحرير التجارة العالمية في السلع والخدمات، ومن ثم تأخير نشأة منظمة التجارة العالمية، كما سبق الذكر؛ فإنه كان أيضاً سبباً لنزوع العديد من الاقتصادات الصاعدة نحو تشكيل تكتلات جديدة، لتكون بديلاً للتكتلات القائمة، ولتصبح نواة لكيانات اقتصادية جديدة تدافع عن مصالحها في مواجهة المؤسسات الاقتصادية الدولية القائمة.

توسع "بريكس":

شهد عام 2008 أول لقاء فعلي بهدف تنسيق السياسات الاقتصادية الدولية بين كل من البرازيل وروسيا والهند والصين، وكان ذلك من خلال اللقاء الذي جمع قادة الدول الأربع، على هامش اجتماع مجموعة الثماني الكبرى في جزيرة هوكايدو اليابانية. وتم الاتفاق حينها فيما بينهم على مواصلة التنسيق الرباعي في القضايا الاقتصادية الدولية، وتعاونهم في إطار النظام المالي العالمي، وفي مواجهة تحديات الأمن الغذائي.

وشهد العام التالي (2009) تأسيس الدول الأربع رسمياً لتكتل اقتصادي يجمعها تحت اسم مجموعة (BRIC)، وهو المُسمى الذي يتكون من الحروف الأولى لأسمائها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه لم تكن المرة الأولى لاستخدام هذا المسمى، ففي نوفمبر 2001 استخدم الخبير الاقتصادي البريطاني، جيم أونيل، ذلك الاسم للإشارة إلى الدول الأربع، باعتبارها الأكثر تأثيراً بين الاقتصادات الصاعدة عالمياً.

ومع انضمام جنوب إفريقيا إلى المجموعة عام 2010، تم تعديل الاسم إلى "بريكس" (BRICS). وظلت المجموعة محتفظة بعدد أعضائها الخمسة حتى عام 2023، وفي قمتها المنعقدة في أغسطس الماضي بمدينة جوهانسبورغ في جنوب إفريقيا، دعت المجموعة 6 دول أخرى للانضمام إليها، وهي الإمارات والسعودية ومصر وإيران وإثيوبيا والأرجنتين. وبينما اختلفت ردود أفعال الدول المدعوة بين الترحيب، والتمهل من أجل الدراسة واتخاذ القرار المناسب بشأن الدعوة؛ فإن انفتاح "بريكس" على انضمام دول أخرى إليها يُعد تطوراً ينطوي على دلالات مهمة بالنسبة لها، وبالنسبة للنظام الاقتصادي العالمي ككل، وهذا هو الأهم.

وبطبيعة الحال، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن انضمام أعضاء جدد سيكون سبباً لتغيير اسم مجموعة "بريكس"، ولا يُتوقع أن تظل منهجية التسمية على حالها، عبر إضافة الحرف الأول من اسم الدولة المنضمة حديثاً لاسمها، فهذا سيكون غير منطقي وغير عملي. لذلك، يُتوقع أن تلجأ الدول الأعضاء لإعادة النظر في التسمية، ووضع اسم جديد للمجموعة، يكون ثابتاً، ويتوافق مع طبيعتها والدور المتصور لها.

وبالنسبة لأهمية توسعة المجموعة، فإنه وقبل دعوة الدول الست الجديدة، مثَّلت الاقتصادات الخمسة الأعضاء بالمجموعة حالياً نحو ربع حجم الاقتصاد العالمي؛ وبإضافة الاقتصادات الستة المدعوة فإن وزن المجموعة سيرتفع إلى نحو 31.5% من الاقتصاد العالمي؛ وهو يفوق الوزن النسبي لاقتصادات مجموعة السبع الصناعية الكبرى، التي تضم الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا، والتي تمثل مجتمعة نحو 30% من الاقتصاد العالمي. وبالتالي فإن توسعة "بريكس" تمنحها المزيد من التأثير في النظام الاقتصادي الدولي، وتُعظِّم نفوذها في صُنع القرار الاقتصادي العالمي.

نقطة تحول:

يتبادر إلى الذهن الآن عدة تساؤلات وهي: هل يمكن أن تصبح "بريكس" المجموعة الاقتصادية الأهم عالمياً؟ وكيف ومتى قد يحدث ذلك؟ وهذه التساؤلات وإن كانت تبدو غريبة أو نظريةً إلى حد بعيد، لكن لا يمكن التغاضي عنها، بل إنها تشغل بالتأكيد أذهان صانعي السياسات في دول العالم المتقدم، ولاسيما الولايات المتحدة، كما أنه ليس منافياً للمنطق القول إن "بريكس" وضعت أقدامها بالفعل على هذا الطريق.

فالتوسعة الجديدة للمجموعة، إن تمت بالفعل، تجعلها بمثابة تجمع ذي دور محوري في أسواق الطاقة العالمية، وهي خطوة أولى ومهمة للغاية على ذلك الطريق. فإذا كانت "بريكس"، قبل التوسعة، تضم الصين أكبر مستهلكي ومستوردي الطاقة عالمياً الآن، والهند صاحبة أعلى معدل نمو للاستهلاك؛ فإن التوسعة الجديدة من شأنها زيادة نصيب المجموعة (بكل أعضائها) إلى نحو 46.6% من الاستهلاك العالمي للطاقة، ما يقرب من النصف تقريباً، وفق شركة "بريتش بتروليوم"، وهذا يمنحها سطوة كبيرة في هذا الجانب.

وعلى جانب إنتاج الطاقة، فالوضع لا يختلف كثيراً، ففيما كانت "بريكس" تضم روسيا والبرازيل كمنتجين رئيسيين للنفط والغاز، فالتوسعة تضم إليها السعودية وإيران والإمارات، وهم من أهم المنتجين، ما يرفع إنتاج المجموعة ككل من النفط إلى نحو 35.5 مليون برميل يومياً، أو نحو 39.5% من الإنتاج العالمي، ويرفع إنتاجها إلى 1.5 تريليون متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي، أو 37% من الإنتاج العالمي. ويزداد الأمر وضوحاً في حالة الطاقة المتجددة، التي ستستحوذ دول "بريكس" منها على نحو 41.6% من الإنتاج العالمي، وترتفع النسبة إلى 68.7% في إنتاج الفحم. وفي الجوانب الأخرى الخاصة بالتجارة والاستثمار، تسير المجموعة بخطى ثابتة نحو توسيع نصيبها وتأثيرها، ما يدفعها دفعاً لتصبح التجمع الاقتصادي الأهم في العالم.

لكن يظل هناك شرط إذا تحقق سيكون إيذاناً باحتمالية أن تصبح "بريكس" التجمع الاقتصادي الأهم عالمياً؛ وهو يتعلق بانضمام أحد الاقتصادات المتقدمة إليها، بما يحوِلها من مجرد تجمع للاقتصادات النامية والصاعدة إلى تجمع تنخرط فيه الاقتصادات من جميع التصنيفات، ولتكون حينها قادرة على التعامل مع القضايا التي تهم جميع الاقتصادات، وليس فقط النامية والصاعدة.

أخيراً، يبقى التساؤل حول هوية الدولة التي يمكن أن تكون أول اقتصاد متقدم لديه الاستعداد للانضمام لمجموعة "بريكس". وتُعد الحاجة للانضمام إلى تجمع اقتصادي كبير وواعد، معياراً مهماً لتحديد ماهية ذلك الاقتصاد. ووفقاً للمعطيات الحالية، يمكن القول إن بريطانيا ربما تكون المرشح المُحتمل في هذا السياق، فبعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، زادت حاجتها بل ورغبتها في الدخول في تحالفات اقتصادية جديدة، بما يمنحها المزيد من فرص التصدير، ويساعدها على استعادة دورها على مستوى النظام المالي العالمي، ولا يضطرها في الوقت ذاته للتنازل عن جزء من سلطاتها الاقتصادية، كما كان الحال في ظل وجودها في الاتحاد الأوروبي.