تصاعد الجدل، خلال السنوات الأخيرة، حول مستقبل النظام الدولي، في ظل الشكوك التي باتت تحيط بالقيادة الأمريكية المنفردة لهذا النظام، وتزايد التحدي للقوة الأمريكية من قوى أخرى منافسة، وخاصةً روسيا والصين. وقد جاءت حرب أوكرانيا لتُكسِب هذا الجدل المزيد من الزخم، لا سيما أن الحرب كشفت عن تراجع قدرة واشنطن على إقناع الكثير من حلفائها بالتماهي مع الموقف الأمريكي منها، ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بأن العالم على وشك الدخول في مرحلة جديدة من التعددية القطبية. وفي هذا الصدد، نشر موقع "فورين بوليسي" مقالاً لـ”جوردون براون” رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ومبعوث الأمم المتحدة الخاص للتعليم العالمي، بعنوان "التعددية القطبية الجديدة.. كيف يمكن للولايات المتحدة تجديد المؤسسات العالمية التي أنشأتها؟".
تحركات واشنطن
يفترض المقال أن الولايات المتحدة أصبحت في حاجة إلى دعم فكرة التعددية في اللحظة الراهنة، وكذلك تحفيز المؤسسات العالمية القائمة، وهو الأمر الذي يرتبط بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– حاجة واشنطن إلى تنسيق العمل المتعدد الأطراف: مع المخاوف المثارة من أن يشهد النظام الدولي في الفترة المقبلة عقداً من الفوضى الدولية، فإن هناك حاجة ماسة لتنسيق العمل المتعدد الأطراف، وقد أقر بذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير 2021، ولكن رغم ذلك فإن تركيز إدارته ينصب على الاتفاقيات الثنائية والإقليمية، على حساب العمل المنسق عالمياً، في حين أنه لا يمكن اختزال السياسة الدولية في مجرد مجموع العلاقات الإقليمية والثنائية، وخصوصاً في حال وقوع أزمة عالمية تُضاعِف الحاجة إلى العمل المتعدد الأطراف.
2– الأزمات الدولية تُضاعِف الحاجة إلى القيادة الأمريكية: تزداد الحاجة إلى تفعيل الدور الأمريكي لتنسيق العمل المتعدد الأطراف، مع ما يعانيه العالم من أزمات متعددة، لا ترتبط بالحرب الأوكرانية فحسب؛ حيث تعاني العديد من دول العالم من مشكلات الإخفاق في معالجة الديون المتصاعدة، والمجاعة والفقر في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط في أفريقيا، وعدم القدرة على تنسيق الجهود لوضع معالجة ناجعة لفيروس “كوفيد–19″، مع المأزق في إيجاد الأموال اللازمة للتعامل مع أكبر أزمة وجودية على الإطلاق: تغير المناخ؛ فمثل هذه الأزمات لم تترك العالم النامي يعاني فحسب، بل جعلته غاضباً أيضاً من الغرب بسبب إخفاقه في القيادة.
3– ضرورة إدارة المخاوف بشأن آفاق النظام الدولي: بعد أن كان العالم يرتكز من قبل على الهيمنة الأمريكية في إطار نظام دولي أحادي القطب، يأتي بعد ذلك عصر متعدد الأقطاب؛ حيث بدأت الحالة اليقينية التي دامت نحو ثلاثين عاماً حول عالم أحادي القطب، تفسح المجال أمام حالة من عدم اليقين في عالم متعدد الأقطاب؛ هذا ليس بطبيعة الحال عالماً يمكن وصفه بأنه “متعدد الأقطاب” بالمعنى الضيق المتمثل في أن تتمتع ثلاث دول أو أكثر بالقوة والمكانة نفسهما، بل إن التعددية القطبية تعني عالماً من مراكز القوى المتعددة والمتنافسة، مع ما يترتب على ذلك من آثار ضخمة على العلاقات الأمريكية المستقبلية في جميع أنحاء العالم، وهو ما برز مع الموقف المقاوم لنحو نصف دول العالم التي تنتهج النهج الأمريكي نفسه تجاه الموقف من الحرب الأوكرانية، وفرض العقوبات على روسيا، الذي اقتصر على نحو 30 دولة فقط.
4– الحذر من مساعي الصين لتغيير النظام الدولي: تدرك القيادة الصينية جيداً الفوائد التي يمكن أن تعود على بكين من التحولات القائمة على الصعيد الجيوسياسي. وفي حين انتقلت الولايات المتحدة من التعددية إلى الثنائية والإقليمية، قدمت الصين في المقابل فكرتها الشاملة الجديدة إلى المسرح العالمي، وإن ركزت قبل عقد من الزمن على الهياكل الإقليمية، مثل “مبادرة الحزام والطريق” التي نجحت في جذب 149 عضواً، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي يضم 106 أعضاء، بما يشمل معظم الدول الأوروبية مع كندا، ولكن اليوم يشهد تحولاً في تركيز الصين نحو المبادرات الدولية المشتركة، بما في ذلك “بنك التنمية الجديد” ومجموعة “بريكس” التي توسعت عضويتها في القمة الأخيرة.
وبحسب المقال، فإن الصين تتجه لتكون دولة عالمية؛ حيث مدت يدها لغيرها من الدول من خلال “مبادرة الأمن العالمي” و”مبادرة الحضارة العالمية”، ومع تركيزها على العمل المشترك في الأمن الداخلي ومكافحة الجريمة والإرهاب، فإنها تتابع ما تعتبره نجاحاً لبرنامجها العالمي الأول المستقل بالكامل، وهو “مبادرة التنمية العالمية”، التي انضمت إليها 60 دولة إلى الآن، ولتستخدم الصين هذه المبادرات العالمية لبناء مناطق نفوذ يمكن أن تصبح ذات يوم نظاماً عالمياً منافساً للنظام الغربي، لا يركز على قضايا حقوق الإنسان، والمسؤولية عن الحماية، والقيم الديمقراطية وتقرير المصير.
5– أهمية المرونة والاستجابة الأمريكية للنظام العالمي الجديد: بدلاً من التراجع أكثر عن قيادة النظام الدولي، سيكون على الولايات المتحدة أن تستجيب لنظام عالمي متغير من خلال الدفاع عن تعددية جديدة، لا عن تعددية الأطراف القديمة التي افترضت هيمنة أمريكية بلا منازع، بحيث تعتمد التعددية الجديدة على الإقناع لا على الإملاء، ليكون من شأنها أن تجمع الدول والشعوب معاً من خلال إصلاح المؤسسات الدولية التي تتمتع الولايات المتحدة بالقدرة على قيادتها مرة أخرى؛ فالولايات المتحدة، التي كانت على نحو عام تنتهج نهجاً متعدد الأطراف في عالم أحادي القطب، أصبحت الآن أقرب إلى الأحادية في عالم متعدد الأقطاب؛ الأمر الذي ينبغي إعادة النظر فيه لمعالجة المخاوف بشأن آفاق النظام الدولي.
6– الحاجة إلى الاهتمام بالمنظمات الدولية التي أنشأتها واشنطن: في سبيل تفعيل الدور الأمريكي لتنسيق العمل المتعدد الأطراف، فإن هناك حاجة كبيرة لتفعيل دور المنظمات الدولية، التي كان للولايات المتحدة ذاتها دور كبير في إنشائها فيما بعد الحرب العالمية الثانية؛ ما ساعد على إرساء القيم الغربية، والمساعدة في تحقيق السلام، والحد من الفقر، وتحسين الأوضاع الصحية، في الفترة التي تلت مباشرةً انتهاء الحرب. وتتنامى تلك الحاجة بالنظر إلى المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة أو برنامج الغذاء العالمي، وكلاهما حصل على أقل بكثير من نصف التمويل الذي يحتاجانه لهذا العام، فيما سيتم تقليص تمويل البنك الدولي للدول الفقيرة هذا العام والعام المقبل، في وقت تتزايد فيه المطالبات بإضافة الاستثمار المناخي إلى تدخلاته في رأس المال البشري؛ الأمر الذي يؤثر بالسلب على النفوذ الأمريكي، لصالح غيرها من القوى، وعلى رأسها الصين.
7– طرح استراتيجيات عاجلة لإصلاح المنظمات الدولية القائمة: في ظل الوضع الدولي القائم؛ حيث تمثل العدوى المالية خطراً دائماً، وتربط سلاسل التوريد العالمية بين الدول والقارات بشكل لم يسبقه مثيل، فإن “صندوق النقد الدولي” لم يَعُد بوسعه أن يظل الهيئة التي تنتظر التحرك عندما تتعرض الدول الفردية لأزمات في ميزان المدفوعات، بل يتعين عليها أن تعمل على منع الأزمات فضلاً عن حل الأزمات. ويتعين على “البنك الدولي” أن يتحول إلى بنك عالمي للسلع العامة، يركز على رأس المال البشري والإشراف البيئي، مع الحاجة إلى دعم الولايات المتحدة في عملية الإصلاح.
وأيضاً من الأهمية بمكان تفعيل دور منظمة الصحة العالمية في مواجهة الأوبئة والأزمات؛ الأمر الذي أبانته بوضوح أزمة “كوفيد–19″، كما يجب على الأمم المتحدة أن تتطور بمعالجة حق النقض (الفيتو)، خصوصاً لدول مثل روسيا والصين، الذي يمتد لإجهاض قضايا مهمة من قِبَل معاقبة جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية. وفي حال عدم التمكن من إصلاح مجلس الأمن للحد من قوة حق النقض، يتعين على الولايات المتحدة حينها أن تعمل على تشجيع الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعضائها البالغ عددهم 193 عضواً على الاضطلاع بدور قيادي أكثر مسؤوليةً.
8– دور العمل الجماعي في مواجهة التيارات القومية المتطرفة: من العوامل الأخرى التي تضيف إلى أهمية العمل لدعم الأنشطة الدولية المتعددة الأطراف، هو تنامي النوازع القومية مع ما لها من انعكاسات سلبية، وخصوصاً في المجال الاقتصادي؛ حيث تتسم بفرض المزيد من الضوابط على الحدود، والمزيد من الرسوم الجمركية، والمزيد من القيود على الهجرة، وليس ذلك فحسب، بل أيضاً تتسم بحروب التعريفات الجمركية، وحروب التكنولوجيا، وحروب الاستثمار، وحروب الدعم الصناعي، وحروب البيانات؛ وذلك بجانب ما يشهده العالم من تعدد للحروب الأهلية (نحو 55 حرباً)، والمزيد من الحركات الانفصالية (نحو 60)، والمزيد من الجدران والأسيجة التي تفصل بين الدول فعلياً (70 اعتباراً من عام 2019؛ أي أكثر من أربعة أضعاف العدد في عام 1990)، نتيجةً لتنامي مثل هذه المشاعر القومية؛ حيث يتم التعبير عن مثل هذه القومية المتجددة بطرق أكثر عدوانيةً. وقد جاء هذا التركيز الجديد على المصلحة الذاتية الضيقة وغير المستنيرة على حساب التعاون الدولي، في اللحظة التي تشتد الحاجة إليها في التعامل مع التحديات العالمية.
زمام المبادرة
وختاماً، يشير المقال إلى أن الدولة التي قادت عالماً أحادي القطب، لا يزال بوسعها أن تقود عالماً متعدد الأقطاب، وقد يكون من الأفضل أن تأخذ زمام المبادرة لإعادة بناء النظام العالمي الجديد؛ ليس من خلال إصدار الأوامر إلى الدول الأخرى كما لو كانت تابعة، بل من خلال إقناعها كحلفاء، وباعتبارها الدولة التي لا يزال معظم العالم يتطلع إليها للقيادة، وهي تريد الاستمرار في القيام بذلك. ولفت المقال إلى أنه من خلال قوة التعاون فقط، يمكن تحقيق الحل الذي تؤيد فيه الولايات المتحدة نظام التعددية المتجددة، الذي يهتم بوضع حلول عالمية للمشكلات العالمية من خلال المؤسسات العالمية، وحينها لن تحتاج واشنطن إلى القلق كثيراً بشأن نفوذ بكين المتزايد، وفق ما ذكر المقال.